محمد شاويش يترجل ويوارى الثرى في المانيا بعيدا عن وطنه
توطئة
ولد محمد شاويش في سوريا عام 1961. من أصول فلسطينية الجليل الأعلى مهجر قسريا لمرتين قبل الولادة 1948، وبعد الولادة الملاحقة 1990 فأصبح لاجئ بألمانيا ، تخصصه العلمي الهندسة الكهربائية وحصل على إجازة في الشريعة واصول الدين ثم شهادة الماجستير في الدراسات العربية واللغات السامية ثم الدكتوراه في مشكلة ترجمة الظلال الدلالية من النصوص الأدبية العربية الى الألمانية.
الرجل من طينة الكبار رحمه الله، هو عندي في مرتبة الفيلسوف وعالم الحضارة المهندس الكهربائي [1]" مالك بن نبي"- نفس الاختصاص -. وعالم الاجتماع والفيلسوف الفرنسي الكبير "إدغار موران" ( مواليد 1921) ، شارك في فيفري 2024 بالدورة الثانية لمهرجان مراكش للكتاب الإفريقي، حيث ألقى كلمة مؤثرة حول مأساة غزة وانتقد صمت العالم تجاهها . كما وجه رسالة تحذيرية في بداية العام، محذراً من سقوط العالم في الهاوية وداعياً إلى تعزيز الصداقة والحب لمواجهة التحديات العالمية . والاديب والمثقف الفلسطيني " ادوارد سعيد "( 1935-2003) . و أبو اللسانيات وعالم المنطق والمؤرخ الأمريكي "نعوم تشومسكي ( 1928-) (1) ". حيث ان الملحق الأسبوعي "منارات"، التابع لصحيفة المدى العراقية، خصصت 08 صفحات الاربعاء 26-06- 2024، لهذا الأخير، من خلال مواد متنوعة، تتضمن مختارات من مقالاته عن مواقفه الشجاعة من زيارته المعلنة لغزة ووصفها بأكبر سجن مفتوح بالعالم و كابوس في قطاع غزة ومنجزه الفكري، وحوار مع فرانك بارت ... مواد كافية لأخذ فكرة رائعة عن هذا الفيلسوف العالمي الكبير . وهذا ما استقر عليه الرأي عندي وما سأحاول القيام به لروح محمد شاويش رحمه الله. من خلال مواد تتضمن مختارات من مقالاته ومناشيره عن مواقفه الشجاعة ومنجزه الفكري، وحوار اته ... لنختم بملخص من عصارة كتبه لأخذ فكرة عن هذا الفيلسوف الذي افتقدناه وتحس اننا لم نستفد به بالقدر الكافي .
1- عسر الكتابة عن محمد :
حيث حاولت كتابة مقال عن المرحوم وجمعت المادة. لكن ولادة المنشور تعسرت وأهم الاسباب ان الرجل رحمه الله موسوعة في العلم والحب " : كتب في الفكر فأبدع وفي الترجمة فدقق ...ذواق للشعر وبه وبالموسيقى خبير، فخشيت ان اذكر عنه شيئا وانسى أشياء ، واول سماعي لخبر وفاته تذكرت شعر شوقي: قَد كُنتُ أوثِرُ أَن تَقولَ رِثائي يا مُنصِفَ المَوتى مِنَ الأَحياءِ. لَكِن سَبَقتَ وَكُلُّ طولِ سَلامَةٍ. قَدَرٌ وَكُلُّ مَنِيَّةٍ بِقَضاءِ. الحَقُّ نادى فَاِستَجَبتَ وَلَم تَزَل. بِالحَقِّ تَحفِلُ عِندَ كُلِّ نِداءِ ، مدافع عن الهوية بفن ، أحب سوريا بعمق وفلسطين وكل الوطن العربي والجزائر تحديدا ، خصص للسويداء مكانا مميزا وكان يستعمل لوقت طويل صورة سلطان الأطرش . كان مدافعا عن العربية التي يجيدها ويتقنها ويصر على الكتابة بها، ويمنع في صفحته الكتابة بالعامية تحديدا. وهو ضد قل كذا ولا تقل كذا وكثرة التصحيحات النحوية التي تعقد من يرغب الكتابة بالعربية فتخدم عكس المراد، وهو في المقابل يجيد معظم اللهجات! ويحب الامثال، ويسأل بكل تواضع عن معنى بعض الكلمات الدارجة، ومنها حواره الشيق حول لفظ : " الله يساعدك ". ففي العراق له مدلول الرثاء و...ووقع نزار ماضي في الخطأ. اقتبس مما قال : ((في العراق يقولون لك: "الله يساعدك" كما نقول في بلاد الشام محيين أحدا ما "الله يعطيك العافية". المشكلة أن الدعاء "الله يساعدك" في الشام له معنى الرثاء كما تقول: "أعانك الله على ما أنت فيه"! وقد تشير أحياناً إلى أن الشخص الآخر يعاني من خلل عقلي! حين جاء المنفيون العراقيون إلى دمشق قديماً - ورحم الله ذلك الزمان الذي كان فيه العربي يستطيع أن يلجأ إلى سوريا والعراق!- جاء أحدهم ... إلى بائع في سوق الحميدية وحياه تحيته المألوفة "الله يساعدك"! فامتعض البائع: "ليش أنا شو بيي"؟ أي: "ومما أشكو أنا"؟! :)).وعلقت عنده : في الجزائر نقول :" ربي يعاونك "بالمعنين العراقي والسوري . مثل " العافية " بالمعنين ( الهناء والنار ) حسب سياق الجملة : فنقول : -1- يعطيك العافيه ( مثل الشامي تماما ) وتستعمل أكثر بمعنى :" حاشاك " " عافاك " اذا ارجع لك صاعوطا أو ولاعة أو... وكذلك فلان :" عافية " بمعنى « ناس ملاح » انسان طيب . ونقول : -2- شعل العافية أو زادت العافية فهي النار وبالخصوص الموقد « الكانون». وهنا تدخل الأخ الكريم ابو محسن واضاف: (( عندنا في مصر الله يساعدك دعاء مثل الله يكون بعونك ولكن بعض الناس يمتعضون منه .))
2- الأخ محمد والمنصات الاجتماعية :
كان هكذا في الفيسبوك هو محفز، صاحب منهج خاص حيث يكتب بخلفية رسالية، أنشأ مجموعة أصدقاء عتاق ضمت نخبة راقية من الكتاب ، وكان يختار بدقة ما ينشره ويحفز الجميع على قراءة ما ينشره الاخر وقد يكون لغير المشاهير فيشيد به دون تملق ، ومن تواضعه انه يقرأ للجميع ويرد في التعليقات بصبر وعلى الجميع ، كان يعرفنا ببعض!:
1- هكذا عرفت جبر مراد تمتعت بقراءة المجموعة القصصية له 2003 جلالة الرئيس في 92 صفحة . واليوم وبمجرد فتحه لم استطع الا إكماله
2- هكذا عرفت حسان الشيخ السوري الذي عمل بسطيف وقسطينة ويمتعك وهو يكتب بجمال . وكتب (( محمد شاويش كاتب ومفكر ، مبدع في كل كتبه ، ومقالاته، ومدرس في جامعة برلين في ألمانيا ، يقتنص نصا لمغمور ، ويضعه على صفحته ، ويشيد به ، وكأنه من كبار الكتاب ، تشجيعا له .وفي بدء صداقتي معه كنت أكبر القيمة العلمية لمنشور له ، فيقول :شكرا لتشجيعك العبد الفقير .ويحب أن يخاطب ب : أخ محمد دون ألقاب علميةهو جدير بها و أهل لها .ولا يقدم الإعجاب نفاقا لأي منشور فإذا رأيت اعجابه ، فاعلم أنه منشور مفيد خال من العنصرية وظلم المرأة والاساءة للقضية الفلسطينية . رحمه الله رحمة واسعة ، وجعل جنان الخلد مأوى له ))
3- هكذا مثلا عرفت الأخ والصديق جلال مراد ، الذي علق (( ان محمد يستاهل الاهتمام ، فهو فضلا أنه موسوعة من المعرفة فهو يمتلك خاصية تكاد أن تنقرض وهو انتماءه النهائي دون شوائب للمجتمع العربي وللثقافة العربية - الاسلامية . انتماء طبيعي غير مؤدلج، جامع وليس عنصري، منطلق من الثقة بالذات وليس من خصائص تعويضية كما يفعل الحداثانيون أو الأسلامانيون . حزنت لفقده ، لكن انتابني شعور أنه لم يغادنا فهو وعي وروح كانت موجودة وما زالت موجودة في تلك الأجنحة التي تحمل فكره عبر الأجيال ، وأظن أن الأمة أن باركها الله بالبقاء وعدم الاندثار ستجد العديد من الأسس المهمة التي ستساعدها في الترقي والنهضة مستقبلا متواجدة في النتائج التي توصل إليها ابو صامد محمد الغالي . وربما لن يكون ذلك في القريب العاجل لأن الأمه عموما في خالة توهان وغفلة ، ولم تدخل اليقضة والتنبه بعد لعقلها الجمعي بعد .))
4- وهكذا تعرفت علاء الدين ال رشي أحسن من دافع عن الاكراد وسوريا ..فكتب في الرثاء : ( رسالة إليك في عالم الخلود..أستاذي وحبيبي محمد سوف آتي لرؤيتك ووداعك على أمل اللقاء في عالم الغيب حيث الخلود الحقيقي ..أستاذي العزيز..سوف أكرم نفسي بالتأمل في محياك قبل دفنك يوم الخميس أستاذنا أتأذن لي أن أضع عطرا على جسدك حيث اعتدت أن أعطر من أحب بعد تغسيله برائحة طيبة من المكرمة مكة...أستاذي وحبيبي كما أن يوم الجمعة بإذنه تعالى سوف أشارك في مراسم صلاة الجنازة والدفن لكم رحمكم الله تعالى رحمة واسعة ..سوف أصل لبرلين هذه المرة ولكن لن تكون في استقبالي في المحطة لكن روحك ترفرف حولي فانتعش بظلالها حتى لوغاب حسك ..إلى لقاء في رحمة الله. محبك تلميذك علاء الدين)
5- هكذا عرفت الأخ والصديق أدونيس المناضل اللبناني الحر ، خير من يسرد اذا حكى، وكتب في رثائه : ( مات شيء مني عندما سمعت خبر وفاتك اخي محمد . يوم تعرّفت عليك قبل ثلاثين سنة(1994) ، كنت لنا جميعا بوصلة اللغة العربيه الفصحى وكان حلمك الاول تأسيس مجلة ثقافيه تعتني بحرية الفكر والتراث ، مصراً ان لا يكون لها رئيس تحرير ( كلمة رئيس عند العرب مصيبة) مصمما ان تكون المدقق اللغوي ولنكتب ما نشاء راسما الخط الأحمر فلسطين واحترام الاديان ، وهكذا كان ، تم تأسييس مجلة عربيه اسميناها الخيمه تيمناً في( خيام مرج الزهور والمبعدين من فلسطين إلى جنوب لبنان) تعتني بالفكر والتراث دون أي اعلان تجاري (للحمص والفول) كنت يا اخي محمد نهر متدفق لنجاح هذا العمل (مجلة الخيمة) الذي كنّا نموله من جيبوبنا حفاظا على حرية الكلمة واستقلاليتها رغم ضيق الحال . استمرت الصداقه والاخوة ثلاثون عام حتى فرّق الله بيننا ، عرفتك شهما اصيلا ، في سبيل الحق لا تلوم لومة لائم. تعلمنا منك الكثير في ساحات النضال ، كان حلمك وعشقك عودتك إلى فلسطين حتى ليوم واحد ، على أمل أن نحقق حلمك قريبا بأذن الله ، نم قرير العين في جنة الله بإذنه تعالى ...). وهكذا معتذرا لمن لم اذكر .
في تجربته في اليوتيوب لم تكن ناجحة لان المتلقي هناك يختلف جذريا عن باقي المنصات ويفضل الاثارة والاكل السريع ، سجل على كل وتبقى للتاريخ عدة حلقات منها الحلقة 12 عن الحداثة ، بان الحداثة كاصطلاح " حديث" نظرية فكرية تدعوا للتمرد على الواقع والتقليد ونفي كل قديم ! وارتبطت أساسا بمفاهيم وفلسفة معينة خصوصا " الالحادية " ولذلك من الصعب فعلا اليوم اقناع " الحداثي " فضلا عن " الاسلاماني" ان الاخوان او الخمينية !او الجزأرة من لب الحداثة ! وانهم استحدثوا - واحدثوا خصوصا في نظام الحكم - مالم يقل به أسلافهم! ولان المصطلح مترجم ككثير من عوالم الثقافة ، فقد ذكر الفرق بين الحداثة المعاصرة …
3- رحيق من كتبه
صدر له من الكتب: (علم نفس الشخصية المستلبة بالاشتراك مع حسين شاويش -طبعتان: 1995-2016). ( نحو ثقافة تأصيلية -2007). ( نهضات مجهضة – 2007). ( مالك بن نبي والوضع الراهن 2008). ( المنهج المقاصدي عند القرضاوي- 2009). (من فتى؟ عن الوعي المناسب لمجتمع في خطر- 2015). ( الثقافة العربية المعاصرة – من الوصف إلى التغيير” 2018). ركز في محاضرة له عن شرح كتابه المجمل الأخير الثقافة العربية المعاصرة من الوصف الى التغير على النقاط التالية :
-1- في مفهوم “الثقافة“. كلمة “ثقافة” هي كلمة جديدة في اللغة العربية، وقد اشتقها من الأصل العربي “ثقف- ثقافة” على الأرجح سلامة موسى في مطلع القرن العشرين لتقابل الكلمة الإنجليزية Culture.. ( ويعطي مثلا مشابها :" لترجمة “مجتمع”،”عائلة” (Family “حكومة”، “وزارة”، “طبقة اجتماعية” إلى آخره. وهو يستعمل كلمة “ثقافة” بمعنى “الطريقة الخاصة لكل جماعة بشرية في التعامل بين أفرادها وبينهم وبين الطبيعة وأنه يحب استعمال الكلمة بمعناها الأوسع.
-2- مفهوم “الحداثة“:الحداثة في السياق الغربي: هي العصر الذي ترك فيه أهل الغرب التقليد. ولذلك تجليات في شتى مستويات البنية الاجتماعية: في الاقتصاد والدين والسياسة والفكر والعلاقات الفردية بين البشر. لكن في المقابل لا بد من الإشارة إلى وجهة النظر الشائعة عند الحداثانيين العرب التي تخلط مراحل الحداثة وتدمج مفاهيم مختلفة وتجعلها شيئاً واحداً، ومنها مفاهيم “التنوير”، و”العلمانية”. وهي مكوّنات ثقافية مختلفة ظهرت في المجتمعات الغربية ولكنها لا تقترن بها الاقتران الميكانيكي الذي يفترضه المثقف العربي. لا ريب أن المواجهة الحالية مع الإسلامانية في العالم الإسلامي أثرت بشدة في هذا الموقف، ولعلكم تلاحظون تغيراً في تركيز الاتجاهات اليسارية العربية نجد إرهاصات له منذ السبعينات، لكنه تحول في التسعينات إلى ميل شديد الوضوح: إذا كان اليساري القديم منطلقاً من الفرضية الماركسية القائلة بأولوية “البنية التحتية”على “البنية الفوقية” لا يعطي المواجهة مع الدين والأفكار الدينية أولوية خاصة، بل يقصر اهتمامه على البنية الاجتماعية الاقتصادية، فإن اليساريين منذ التسعينات أعادوا الاهتمام “بالتنوير” وصاروا يعدونه الرافعة الأساسية لأي تغيير اجتماعي حديث. بل صاروا يدمجون كما قلت بين “الحداثة” و “التنوير”. ومن المميز عند المثقفين السوريين مثلاً أنهم يعدون تجربة الحداثة الفرنسية هي التجربة الغربية النموذجية (أو حتى الوحيدة).
-3- الثقافة العربية قبل عصر الحداثة وبعده: أعرّف “الحداثة” في السياق العربي إذن أنها العصر الذي قررت فيه النخبة العربية المفكرة أن التقاليد فقدت صلاحيتها ومقدرتها على تحقيق الأهداف الملحّة للجماعة العربية (وأعني بها هنا وفي كل كتاباتي مجمل الناطقين بالعربية لغة وحيدة أو مع لغة ثانية كالأمازيغية أو الكردية أو التركمانية أو الشركسية أو حتى الأرمنية إلى آخره..). وهو ما أضع له لتسهيل البحث موعداً تقريبياً هو منتصف القرن التاسع عشر. قبل عصر الحداثة وجد في العالم الإسلامي نمطان متكاملان من الثقافة: “ثقافة العامة” وقد نسميها “ثقافة الشعب”، و “ثقافة الخاصة” وقد نسميها “الثقافة العالِمة”. الأولى هي ثقافة “العلماء” و “الحكماء”، وكتبت باللغة الفصحى. أما العلماء فهم حاملوا “العلوم النقلية” التي كانت تدرس في الجامعات الإسلامية الكبرى مثل الأزهر والقرويين والزيتونة والنجف في العراق عند الشيعة الاثني عشرية. ويلتحق بهم مجمل أهل الأدب والشعر الفصيح الذي يصعب على العامة نظمه لصعوبة لغته وقواعد بنائه. وأما “الحكماء” فكانوا المختصين بمجمل ضروب “الحكمة” من النصوص غير النقلية ومنها الفلسفة والطب والرياضيات والفيزياء والكيمياء والميكانيكا. ومع دخول الحداثة تحدّثت “الثقافة العالِمة” بالتدريج لتظهر “ثقافة عالِمة جديدة” في الجامعات الإسلامية الكبرى والمؤسسات المماثلة، لكن علينا أن نلاحظ تراجع دور “العلماء” في المجتمع في مقابل ما قد نسميه “الحكماء الجدد” (مثل الفلاسفة والمختصين في العلوم الطبيعية والتقنية)، وفي المقابل تحدّثت “الثقافة العالِمة” في مجال الأدب مع تحديث اللغة العربية عبر العودة إلى “فصاحة العصور الذهبية” في مقابل “ركاكة عصور الانحطاط” فالشاعر الجديد (بدءاً من محمود سامي البارودي الذي يعد المؤسس “للكلاسيكية الجديدة” في الشعر العربي، أو بتعبير المنهاج الدراسي السوري “الاتباعية الجديدة” حتى تلميذه أحمد شوقي ومن حذا حذوه)كف عن السير على خطا شعر العصر العثماني والعصر المملوكي المليء بالمحسنات البديعة والمهتم بالألفاظ أكثر من اهتمامه بالمعاني منتقلاً إلى احتذاء نماذج مأخوذة من العصر العباسي والأموي وحتى الجاهلي أحياناً. وما جرى في الشعر جرى في النثر، فقد هجرت اللغة التي سادت في العصور المتأخرة وعاد الكتاب إلى استلهام نصوص الأدب العربي في العصر الذهبي (وشجع ذلك طباعة عدد كبير من كتب الأدب الكبرى مثل كتابات الجاحظ والأصفهاني وغيرهما). وسنرى عند كاتب مثل محمد المويلحي استلهامه لنمط المقامات عند الهمذاني والحريري ليكتب قصة مصرية جديدة تبحث في الأحوال الاجتماعية والسياسية في مصر المعاصرة. الأيديولوجيات العربية: حديثة أم تقليدية؟ نشأت الأيديولوجيات العربية الكبرى كلها في القرن العشرين، وفي أوقات متقاربة، ففي الثلاثينات رأينا ظهور الأيديولوجيا القومية العربية (مع مقدمات لها قبل ذلك)، والقومية السورية، والتنظيمات الشيوعية، والأيديولوجيا التي أسسها البنّا وتبلورت في المؤتمر الخامس للإخوان عام 1938 وأهم أفكارها الفكرة التي تقول: “الإسلام دين ودولة”. الذي يجمع هذه الأيديولوجيات كلها أنها حديثة. وإذا كان العرب لا يختلفون عادة على حداثة القوميين واليساريين واللبراليين لأن مصدرهم الفكري غربي (وهو ما يلزم أيضاً أن نفهمه بشكل نقدي، لأن الأدق أن نتكلم عن “فهم عربي لأفكار غربية” لا عن “أفكار غربية” ببساطة). فإن المعتاد أن ينسبوا من يسمون أنفسهم”الإسلاميين” إلى التقاليد وما قبل الحداثة. أفضّل تسمية الأيديولوجيا التي أسّسها البنا وذكرتها قبل قليل باسم “الإسلامانيين”. اللاحقة المؤلفة من ألف ونون تستعمل عادة لوصف مدارس فكرية وفلسفية كما في “الشخصانية” و “الجوهرانية” إلى آخره. بهذا نتجنب محذورين: المحذور الاول هو القصد التحقيري عند من يسميهم “إسلامويين”، والثاني أن نقبل الالتباس المهم عندما نستعمل كلمة “إسلامي” بمعنى ما هو منسوب إلى هذه المدرسة الفكرية السياسية، لأن في ذلك تضييقاً للصفة الأصلية “إسلامي” وهي تصف كل ما يخص الإسلام كما في مصطلح “بلاد إسلامية” ونعني به كل البلاد التي غالبيتها السكانية مسلمة، أو تعابير مثل “العمارة الإسلامية” ونعني بها العمارة التي ميزت بلاد العالم الإسلامي كما في العمارة المملوكية مثلاً التي نقول عنها إنها “عمارة إسلامية”.
إن عدنا إلى تعريف الحداثة بأنها هي عكس التقليد، فسنرى أن الإسلامانية مثلها مثل الأيديولوجيات الأخرى أيديولوجيا حديثة لا تقليدية، ومن ينسبون الإسلامانيين إلى التقاليد لا ينتبهون إلى كونهم معادين للتقاليد بقدر لا يقل عن عداء الأيديولوجيات الأخرى لها! التقاليد بالنسبة للإسلامانيين هي غالباً شيء مشبوه بأنه “منحرف عن الإسلام الصحيح” أو “الإسلام من منبعه الصافي”. وقد جربت مرة أن أدافع عن الأزياء الوطنية فتعامل الإسلامانيون مع دفاعي هذا بعداء لا يقل عن عداء أهل الأيديولوجيات الأخرى، ذلك أن الزي عندهم لا يجوز أن تحدده تقاليد البلد المعني بل يجب أن تحدده الشريعة!.
-4- الوعي المناسب: نحو كتلة تاريخية عربية: في ختام المحاضرة أشار إلى أنه يدعوا المهتمين بالشأن العام في الجماعة العربية (مجمل الناطقين بالعربية لغة وحيدة أو مع لغة ثانية بين المحيط والخليج) إلى تبني “وعي مناسب” لهدف تغيير البنى الداخلية بحيث تصبح مناسبة لغرض امتلاك الكفاءة في المنافسة والمغالبة الحضارية العالمية. لا يدعي هذا الوعي لنفسه أنه حقيقة مطلقة مستقلة عن الزمان والمكان فهو ليس عقيدة دينية ولا أيديولوجيا جديدة. هو رؤية واقعية لما يستلزمه الخروج من أسوأ هوة وقعت فيها الجماعة العربية، ربما منذ قرنين من الزمان. وكما ترون يترابط هذا الوعي المناسب مع سلوك مناسب يجب أن تتبناه الجماعة العربية بغالبيتها ويبدأ من الشريحة الأوعى فيها. ومن مكوّنات هذا الوعي “الوعي المطابق” وأعني به المعرفة بحقيقة القوى المكوّنة للعالم والدوافع المحركة لسياساته وتركيب القوى المحددة لهذه السياسات.
وبالترافق مع هذا الوعي المناسب أرى أن على الجماعة العربية أن توقف الحرب الأهلية الثقافية بين اتجاهاتها الفكرية – السياسية الكبرى: ثمة هدف مشترك هو الخروج بالجماعة العربية من عنق الزجاجة الحضاري، ولهذه النظرة التي تعيد المشكلة إلى البناء الحضاري للجماعة العربية (وهو البناء الذي يسمح بنجاح الفعل الاستعماري الخارجي مثلاً) رائدان كبيران أذكرهما غالباً (وقد نجد غيرهما أيضاً) وهذان الرائدان الكبيران هما مالك بن نبي الجزائري الذي رأى في مشكلة العالم الإسلامي وعالم الدول النامية مشكلة حضارية أساساً (كل كتبه لها اسم عام: “مشكلات الحضارة”)، ومالك كان يرى أن الاستعمار هو نتيجة “للقابلية للاستعمار”، وياسين الحافظ السوري الذي كان يرى في هزيمة حزيران “هزيمة لكل معمار المجتمع العربي” وليس للمستوى العسكري فقط. والذي أتبناه طبعاً عند الاثنين ليس أفكارهما التفصيلية بل طريقتهما في رؤية المشكلة.
من أنماط “الوعي غير المناسب” الشائع عند العرب الآن ما أسميه “الوعي المقاوم الصِّرف” وهو يرى أن الحل كله يأتي بالبندقية. وهذا الوعي يقود الجماعة إلى نكسات مستمرة، لأن الجماعة لا تفتقد إلى الشجاعة الحربية بل تفتقد إلى الأساس الحضاري الذي يجعلها لا تنهزم بالسهولة الخارقة التي جربناها في العصر الحديث.لم يكن الأمير عبد القادر مثلاً مفتقداً إلى الشجاعة هو أو جنوده لكنه هزم في النهاية لأن “مجمل المعمار الاجتماعي” بتعبير ياسين الحافظ لم يكن كفئاً للمغالبة الحضارية، وبتعبير مالك بن نبي: هزم عبد القادر لأن المجتمع كان “قابلاً للاستعمار
رحم الله الأخ محمد شاويش الذي وارى الثرى الجمعة 26-06-2024 بألمانيا بعيدا عن وطنه . بعيدا عن حبه . رزقه الله الفردوس الأعلى .
[1] - ذكر لي احد الزملاء ان مالك بن نبي قد نفسه في كتاب الظاهرة القرانية كمهندس .
وسوم: العدد 1085