أُحدّثكم عن المؤرّخ "عبد الحليم عويس"
عندما اشتريتُ كتاب (فقه التاريخ)، لم أكن أتوقع أنه سيصبح من أهم الكتب في تشكيل وجداني، ولمْ أتوقع أنَّ مؤلِّفه سيكون أغلى الرجال الذين عرفتُهم في حياتي، وأكثر مَن أفادني ثقافياً!
ولا أكونُ مبالغاً إذا قلتُ: مَن لم يَحظَ بمعرفة هذا "المؤلّف العبقري"؛ فقد ضاع شَطر عُمره، ومَن لمْ يقرأ تراثه المكتوب؛ فقد ضاع عُمره كله!
فقد كان –يرحمه الله- مكتبةً ثقافيةً متحركة، وكان موسوعةً فكريةً استثنائية ... فقد قرأ أروع الكُتب وأعظمها، وألَّفَ أجمل المباحث وأعمقها.
وقد تتلمذ على يديْه آلاف الطلاَّب والباحثين، وأشرف على مئات الرسائل العلمية، وشارك في عشرات المؤتمرات الدولية، ومازالت بصماته الفكرية منقوشة في مختلف المعاهد والجامعات التي عمل بها أوْ شارك في تأسيسها.
كان –أستاذنا- يقرأ بأعصابه، ويكتب بأعصابه، كأنه في سباقٍ مع الزمن ... يريد أن يقرأ كلَّ شيء، ويكتب كلَّ شيء قبل أن يترك الدنيا وما فيها، حتى يلقى اللهَ –سبحانه- وقد أدى رسالته نحو الأمة ومستقبلها!
فقد غاص -رحمه الله- في أعماق التراث الإسلامي، واستخرج منه الدرر والجواهر التي غابت عن كثيرين من الكُتاب. وقد اجتهد ما وسِعه الاجتهاد في البحث عن جرعةٍ دواء لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، وعلاج التشوّهات الفكرية والإصابات التي اخترقت وجدان الأمة، وأودتْ بها في مجاهل السبُل!
وفي ظنّي أنه ما تركَ مخطوطةً ولا مَرجعاً إلاَّ واستفاد من طروحاتهِ العلمية ... وقد دخلتُ عليه –ذات مرة- فوجدتُه عاكفاً على قراءة كتاب "جحا الضاحك المُضحِك" للمرحوم/ عباس العقّاد ... فقال لي: هذا من أهم الكُتُب التي كشفتْ عن فلسفة الضحك والمضحكين عبر التاريخ البشري!
بلْ كان يتصفّح الجرائد والمجلات بنهمٍ شديد، كأنه سيُعقد له امتحان فيما جاء فيها من أخبارٍ وتقاريرٍ وحوارات ... وقد كان يصرخ في وجهي قائلاً: أين جريدة كذا .. وأين مجلة كذا .. لا تأتي إليَّ بدونها !!!
الحقَّ الْحقَّ أقول: أنّني اقتربتُ من هذا العالِم الجليل، وقرأتُ جميع مؤلفاته، وأفدتُ من عِلمه وثقافته المتنوعة، ما جعلني ألاَّ أتهيّب الخوض في المجادلات ذات الأبعاد التاريخية!
نعم، لقد تعلمتُ منه فن الكتابة، وقوة المنطق، وإلجام الخصم وإفحامه بالضربة القاضية!
ذات مرة، ألقيتُ درساً في المركز الإسلامي ب"عاصمة الضباب"، فإذا بشاب جزائري يمسك بثيابي، ويسألني متعجّباً: مَن أنت؟ وما هيَ بلدك ... ثمَّ قال لي: هذا الكلام الذي ألقيتَه علينا هو من كلام أستاذنا الدكتور عويس! فقلتُ له: أنا مِن بلده، ومِن تلامذته أيضاً ... فابتهج كثيراً، وصِرنا بعدها أصدقاء، وقد أخبرني أنه يعمل أستاذاً بجامعة كمبردج!!
أجل، لقد كان –أستاذنا- مُحاضراً فذاً، ومقاتلاً لا تَلين له قناة!
لذا؛ كلّما ذُكِر اسمه أمامي، أقول: ليسَ كلُّ سبّاحٍ غوّاص، وليس كلُّ غوّاصٍ كالدكتور عويس وقدرته على استخراج اللؤلؤ والمرجان ... فما مِن كتابٍ مِن كُتبه إلاَّ وهو دُرة نادرة، وجوهرة ثمينة، وكنز لا نظير له!
* ذات مرة، سألته عمّا وراء أزمة المسلمين الحضارية؟ فتنفّسَ نفساً عميقاً، ثمَّ قال: "كل العِلَل والأمراض التي أصابت أمتنا إنما هي أعراض ونتائج تقف وراءها أسباب عميقة تسلَّلتْ في ظِل عصور التخلف والانفصال عن حقائق الإسلام. وإننا في حاجة إلى الوقوف العميق المتأني عند أصل الداء، وعلينا أن نفهم الخطاب الرباني المجيد: "إنَّ اللهَ لا يُغيّر ما بقومٍ حتى يُغيّروا ما بأنفسهم". فنقطة البداية الصحيحة في تغيير واقع المسلمين تنحدر عند مستوى فقه المسلم لدوره، كما أرده اللهُ منه، وفقههِ لسُنَن التغيير والنهضة في المستوى الاجتماعي والكوني"!
* وسألته –أيضاً- عن سِر نجاح "الجوامع"، وفشل "الجامعات"؟!
فقال: هذا كلام صحيح، فمِنذ مسيرتنا الحضارية نحو صناعة التقدم، وسبقِنا في بناء "الجامع الأزهر" و"جامع الزيتونة" و"جامع القرويين"؛ كانت صناعة الإنسان هي الشغل للمربّيين والمعلّمين والدعاة والوعّاظ –وكان ميلاد داعية فقيه أوْ مُحدّث أوْ فيلسوف عملاً من أعظم الأعمال، ولم نعرف إلاَّ في عصور الهوان تخريج الفقهاء أو المحدثين أو الوعاظ فحسب، بلْ كان كل هؤلاء يتخرجون "دعاة" قبل أن يتخصصوا في أيّ فنٍ يريدون.
لذلك؛ نجحت "الجوامع" ولم تنجح "الجامعات" الحديثة -حتى الإسلامية منها- في تخريج نسبة المفكرين والدعاة المعقولة، حيث تعرَّضَ خريجوها للسلبيات الحضارية، وخضعت الجامعات الحديثة للمنهج السائد في عصور التخلف، وسمحتْ بالفصل بين الشخصي والاجتماعي، والقول والفعل، والعقل والعاطفة ... فكانت الثمرة هي إهمال بناء "الإنسان" الذي هو ألف باء الحضارة والتقدُّم.
وكان خرّيج الجوامع يَخرج بشعور من المسئولية يَحس معه أنه مُمثّل لعقيدةٍ عظيمة وأمةٍ ذات رسالة عالمية، وكان يشعر بأنَّ عليه أن يبدأ بدفع الثمن لأمته التي وفرت له وسائل التربية، ولدينهِ الذي أشعره بوجوده وإنسانيته. أمَّا خريج "الجامعات" في عصرنا، فتبدأ رحلته مع الضرورات اليومية بعد تخرجه، وهو يحس بأن نبوغه يجب أن يُسخّر في سبيل تحقيق هذه الضرورات. فلابدَّ لإنسان الجامعات أن يعانق إنسان الجامع من جديد، ولابد أن يُربَّى على الكيفية الدقيقة التي يجب أن يتعامل مع الدنيا على أساسها، ولابدَّ أن تلتحم الآخرة بالدنيا، وتتحرك الدنيا في أعماقه نحو غايتها العليا.
* بلْ استمع إلى الدكتور "عويس" وهو يُحدّثنا عن عُمر الحضارة الإسلامية ودورتها عبر التاريخ، إذْ يقول: "الحضارة الإسلامية هي حضارة ذات مسؤولية تاريخية باقية "وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس". وإنَّ بناءها القائم على أُسُس التصور الإسلامي سيجعل الإنسان قادراً دائماً على أن يجدد خلاياه، وأن ينبعث من جديد بروح جديدة وكأنه ولِد من جديد. ومِن خلال الرماد المتناثر، والمتمثل في أوضاع جاهلية كثيرة وصور عديدة من التحلُّل؛ يمكن أن تشتعل الفكرة الإسلامية التي هي "زيت" الحضارة ، وتتمكن من إشعال "فتيل" الحضارة الإسلامية المنطفئة في الإنسان المعاصر"!
* وقد أولى –يرحمه الله- مدينة "القدس الشريف"، مكانةً خاصة في أحاديثه ومؤلفاته ... وكان هذا هو رأيه: "أعتقد أنَّ القدس لو بقيتْ هكذا، لكفيل بأن يصيب حضارة العصر نزيف رهيب، وأن تحدث خلخلة كبرى في مقاييس الوجود والتحضُّر.. ونحن نرى أنَّ العرب والمسلمين هم أول مَن ننبّههم، لأنهم أصحاب الحق، ولأنهم المسئولون مسؤولية دينية وتاريخية عن عودة القدس، ولا يشفع للمسلمين في تقصيرهم إزاء غفلة الضمير العالمي والتواطؤ السياسي والعسكري مع الصهيونية. فإنَّ حركة التاريخ التي تخضع لسنّة الله في الحق والعدل لن تظل سائرة في طريقها المنحرف .. إنها لابدَّ أن تعود إلى طريقها الذي يريده الله. ولابدَّ أن تعود القدس إلى أصحابها الشرعيين، وإلاَّ فإنَّ الحضارة الماديّة الظالمة لن تفلت من مصير الحضارات التي خالفت سُنة الله في الحقّ والعدل، فهوتْ في معترك الدمار والاندثار"!
هذا هو أستاذنا المؤرخ (عبد الحليم عويس) كما عرفتُه!
وهذه هيَ بعض آراؤه الفكرية والثقافية التي استمعتُها منه!
ذلكم "الأستاذ الكبير" رحماتُ اللهِ عليه ورضوانه، وجزاه عن أُمتهِ خير الجزاء !!
وسوم: العدد 1108