ما الذي ميّز "علي الطنطاوي"؟
ذاك أبي
ما الذي ميّز "علي الطنطاوي"؟
الشيخ علي الطنطاوي
عابدة فضيل المؤيد العظم
أنا حفيدة ذلك الشيخ الجليل ولست بنته وعادة الأبناء يعرفون أباءهم أكثر من الأحفاد، ولكني مررت بظروف فريدة فوعيت بالتجربة الحية ما للتربية من أثر في تكوين شخصية الإنسان عقلاً وفكراً وقلباً وسلوكاً: إذ قدر الله لي أن أولد لوالدين من أسرتين بينهما كثير من التباين؛ فأنا من جهة ابنة "العظم" تلك العائلة التي تعاقب أفرادها على تقلد المناصب العالية أيام العثمانيين وكانوا ولاة الشام (ومنهم جدنا "أسعد" باشا صاحب الخان الشهير في دمشق "قصر العظم"). وبرز بعض أبنائها في مجالات شتى فصار "خالد العظم" رئيساً للوزراء، واشتهر دولياً عم والدي "صائب" بالمصارعة لقوته الخارقة وأخذ بطولة العالم، وجاء جدي لأبي بأول جهاز أشعة لسوريا... فاشتهرت العائلة بالحسب والنسب وأثرت وجرى المال في أيديها واهتمت بالحياة الدنيا والعمل لها والتفاخر فيها، ووصمت العائلة بالبعد عن الدين إلا قليلاً من أفرادها منهم والدي. هذا من جهة أبي، أما من جهة أمي فكان الوضع مختلفاً تماماً؛ فعائلة أمي تشتهر بالتدين والالتزام وتهتم بالمجالات الفقهية والأدبية والمجالس الثقافية وحب القراءة والمطالعة الواسعة، وهم يحبون الآخرة ويزهدون في الدنيا، وجدي قاض وفقيه، وأبوه كذلك، وعمه كان عالماً بالفلك، وخاله الأديب محب الدين الخطيب، وجد أمي الشيخ بدر الدين الحسني محدث دمشق الأكبر.
ونتيجة لما بين الأسرتين من تفاوت في الأفكار والسلوك، وبسبب اختلاف الطباع واختلاف البيئة بين والديّ لم تستقم الحياة بينهما، وطلبت أمي الانفصال عام 1969، وبذلك تفردت وحدها بتربيتنا وتوجيهنا وكان والدي شديد الثقة بها فلم يتدخل أبداً، وهذا جنبنا الحيرة وتربينا على منهج واحد وفي بيئة متدينة وملتزمة ومتناغمة ومنسجمة، ولم نعانِ ما يعانيه الناس من اختلاف بين أعمامهم وأخوالهم، وأهل أبيهم وأهل أمهم.
انفصلت والدتي عن والدي في نفس الفترة التي انفصلت مجموعة من بنات الدعاة عن أزواجهن وهؤلاء اشترط عليهن آباؤهن أن يذرن أبناءهن لأزواجهن ويعدن منفردات إلى بيت أهاليهن، أما جدي فضمنا إلى كنفه وربانا في حجره وأنفق علينا من حر ماله ولم يأخذ قرشاً من والدنا، وهذا أول ما ميز جدي في عيني وفي عين الكثيرين.
ونتيجة الطلاق عشنا مع جدي أكثر مما يعيش الأحفاد عادة، وحظيتُ وأخواتي وأمي بالاهتمام وبرعاية مميزة من خالتي ومن جدي خاصة، حتى صار يقول: "رزقت بثماني بنات لا خمس"، وبدل أن نحزن من الانفصال أو نتعقد أو نعاني نفسياً من الطلاق، عشنا في بيت جدنا سنة كاملة مع خالاتنا وأبنائهن نجتمع على الطعام والشراب ونتسامر كل يوم، ونتعلم القيم والخلق، وكانت من أمتع سِني حياتي.
وانتهت السنة وتزوجت خالتي وباع جدي بيته ذا الحديقة واشترى شقة له واشترى لأمي بيتاً لنعيش فيه معها (وهذه منقبة أخرى له)، واقتصر اللقاء العائلي الكبير على العطلة الصيفية وصرنا نجتمع في عمان، وهو ما أثبته في كتابي "هكذا ربانا جدي (علي الطنطاوي)"، وأكثر ما كان يميز تلك الأيام ويثريها "السهرات" الممتعة والكلام المفيد الذي نسمعه فيها، والأسئلة التي تطرح والنقاشات التي تليها، وقد استفدت منها أشياء كثيرة حملتها معي حتى اليوم، وفي هذه الفترة وجهنا جدي أكثر ما وجهنا نحن الأحفاد، وعلمنا الالتزام وقسم علينا الأعمال، وكان يساعد والداتنا في تربيتنا ورعايتنا... وكانت أياماً غنية بالفوائد والعبر. ولما سُمح لجدي بالعودة إلى دمشق 1977 ورجع لقاؤنا إلى بيت جدي كان الجيل الأول من الأحفاد قد شب وكبر فأضحى أثر جدي علينا بالعلم والفقه أكبر من أثره علينا بالتوجيه والتربية.
وخلال مسيرتي تلك تعرفت إلى جدي ولمست فيه صفات حلوة قلما توجد في غيره:
1- الطمأنينة والخشوع في الصلاة
ومن فينا لا يستعجل بصلاته إن كان على موعد أو كان نعساناً أو تعباناً، أما جدي (وأمي "بيان" مثله وخليفته في هذا) فما كان يصرفه عن تجويد الصلاة صارف، بل يولي الصلاة جل اهتمامه، ويبدأ أول ما يبدأ من الوضوء فيسبغه، ويدلك الأعضاء، ويبلغ الأعقاب.
ثم يأتي الفريضة على وقتها، ويقوم بحقها، فيطمئن في قيامه وركوعه وسجوده مهما كانت الظروف والأحوال. وقد استمر على ذلك حتى أواخر أيامه، إذ صار ينام كثيراً ولكنه كلما أفاق أو رفع رأسه -من سهوة اختلسها- يسأل عن الصلاة: "هل صليت قبل أن أنام؟ هل جاء وقت الصلاة التالية؟"، "هل غفوت طويلاً وضيعت فرضاً؟"، حتى أنه كان يهم بأن يصلي الفرض مرتين خوفاً من أن يكون قد فاته وقت من الأوقات وهو نائم!
2- احترامه وتقديره لجدتي
وعيت على جدي وجدتي وقد اقترب هو من الستين وهي من الخمسين، وكانت العلاقة بينهما قوية وحميمة وإن اختلفا أو تخاصما. وكان يحبّ أن تبقى دائماً إلى جانبه تشاركه حياته اليومية المادية والمعنوية، وكان يسأل عنها باستمرار ويفتقدها إن غابت عن مجلسه ولو كانت تعد العشاء أو ترتب البيت! ولجدتي دور بارز في حياة جدي فيحترمها ويستشيرها ويكون لرأيها أهمية كبيرة في قراراته.
ولجدتي فضل علينا جميعاً فقد فتحت لنا بيتها وأكرمتنا وكم خربنا لها من متاع. وإن كان جدي غنياً عن التعريف فإن جدتي لا يعرفها كثير من الناس، ولا يعلمون أنها قد نشأت في بيت علم ومال وفير وجاه عريض، وحسب ونسب فأبوها قاض في محكمة النقض وجدها هو الشيخ بدر الدين الحسني العالم المعروف "بمحدث دمشق الأكبر"، وخالها تاج الدين كان رئيساً للجمهورية العربية السورية. ولعل هذا هو السبب في قدرتها على فهم جدي وفي اعتماد جدي عليها. ورغم أنها تركت المدرسة باكراً إلا أنها استطاعت أن تتعامل مع جدي وأن تتعلم منه بعض المسائل الفقهية المفيدة!
وجدتي امرأة متميزة ومقتدرة وقوية الشخصية والإرادة وذكية وحكيمة، وكانت تستشار ولها فراسة قوية تقرأ ما بين السطور، وتتحمل المسؤولية. وكانت طاهية ماهرة ومتقنة لفنون التموين والتطريز والتدبير والتوفير، وما قالوه قديماً "وراء كل عظيم امرأة" وما قاله الشافعي: "لو كلفت شراء بصلة ما حققت مسألة" ينطبقان على جدي وجدتي، فقد ساهمت جدتي في تفرغ جدي للبحث والقراءة وكفته المؤنة، فكانت هي التي تدبر أمور البيت كلها فتتفقد حاجاته وتشتري لوازمه وتصون ما تخرب فيه. وكانت تعتني بالبنات وتوجههن وتربيهن كما يحب جدي ويرتضي، وكان لها دور بارز في شحذ أفكار جدي إذ كان جدي معتزلاً في البيت لا يخالط الناس ولا يعرف عنهم، فكانت جدتي واحدة من النوافذ التي يرى الدنيا من خلالها، فتنقل إليه ما تسمعه من مشكلات الناس بحكم علاقاتها الاجتماعية فيستوحي من أمثال هذه المشكلات موضوعات يبني عليها مقالاته، وتحكي له ما تسمعه من الجارات والقريبات من قصص الناس وهمومهم وآمالهم، فيصوغها جدي في كتبه وأحاديثه ويستخلص منها العبر ويبذل للناس منها الحلول والعظات، فتأتي قصصه واقعية وحلوله منطقية.
3- حبه الشديد لبناته وعطفه عليهن
ما عرفت ولا سمعت عن أب أحب بناته كحب جدي لبناته، لمست ذلك بنفسي ورأيته بعيني وعشته بكل جوارحي إذ رأيت من جدي حرصاً شديداً على راحتهن وسعادتهن وعلى سلامة صحتهن الجسدية والنفسية. وكان يدعو لهن ويترضى عليهن وإن قصرن بحقه، وإذا صدر منهن ما يزعجه كان يكتفي بالتوجيه والمعاتبة، ثم يعقبه بإظهار الرضى والمرحمة.
وكان يتفقدهن ويتابع أحوالهن ويحل مشكلاتهن ويسري عنهن ويبدي عواطفه، وإذا مرت إحداهما بضائقة بذل لها ولزوجها وأولادها من ماله، وكان يغضب منا -نحن الأحفاد- إن أسأنا لأمهاتنا أو أزعجناهن، وكان يساعد في توجيهنا لنكون بارات بهن محسنات إليهن فلا يتضايقن ولا يتكدرن.
4- تفقده لكل الناس
على أن حبه لبناته لم يصرفه عن تفقد أخواته وإخوته وعائلاتهم، فكان يصلهم ويتحسس أحوالهم، ويدخل البهجة والسرور إلى قلوبهم. لقد كانجدي كبير العائلة الطنطاوية بعقله وعلمه وحكمته وماله (وما أجمل العائلة التي لها رئيس عالم عاقل تحتكم إليه وتستشيره!).
وكان يساعدهم جميعاً على قدر طاقته، فيقدم للغارم المال وللمحتار النصيحة وللمكروب المواساة، وأجرى راتباً لإحدى قريباته المحتاجات تستلمه في مطلع كل شهر كما يقبض الموظف أجره. وحين فتح صهره داراً للنشر حَوَّل كتبه إليها قبل أن يختبرها ويدرس نجاحها من فشلها. وكان لكل الناس نصيب من عطائه وعلمه فهاتفه كان يرن ليلاً ونهاراً يسأله الناس ويستفتونه ويستشيرونه.
وعلى الرغم من أنه مر بأزمات قاصمة في حياته (مثل وفاة والده واضطراره إلى العمل إلى جانب الدراسة. ومن مثل وفاة والدته التي كان يحبها جداً والتي ظل يبكيها كلما ذكرها.. ثم الابتلاء الأكبر في قتل ابنته بنان في ألمانيا) ظل جدي محتفظاً بآلامه لنفسه وما أشرك معه أحداً في معاناته، ولا طلب شيئاً مقابل بذله، وظل مدة حياته يعطي دون أن يأخذ ما يتناسب مع عطائه، وبقي يسند عائلته دون أن يجد من يستند هو عليه (سوى حب الناس واحترامهم). ولعل هذا هو أروع ما تحلى به.
5- نشره العلم والوعي في كل مناسبة
ويميز جدي حرصه على الإفادة (من علمه) في كل وقت وفي أي مكان، فلا نراه إلا محدثاً بما قرأ وناشراً للعلم الذي تعلمه في كل مجلس يجلسه، فكان بتلك الصفة داعية لأهل بيته قبل غيرهم، ومعلماً لهم، فهل رأى أحد منكم اليوم -إلا قليلاً- داعية لم يهمل أهل بيته؟ وهل تعرفون اليوم رجلاً يعطي جل وقته لأفراد أسرته؟ وهل سمعتم اليوم بعالم يؤثر أهل بيته بعلمه وفقهه وتوجيهاته؟
إن جدي كذلك! ولقد آثر إخوته وبناته وحفدته بعلمه وتوجيهاته وكان لنا جميعاً حافظاً أميناً، ومنه تفقهت في الدين وحفظت بعض القواعد الفقهية. وهو الذي نبهني إلى فكرة الاحتكام إلى الشرع حتى في الأمور اليومية الصغيرة؛ فكان يحكم بيننا -نحن أهل بيته- بما علمه الله إياه من القرآن والسنة. وإليكم مثالين:
1- إذا اشتكى أحدنا الحر وأدار مكيف الهواء، ثم عارضه آخر وطلب إيقافه لأن تيار الهواء البارد يسبب له ألماً في عظامه. حكم جدي للثاني عملاً بالقاعدة الشرعية التي تقرر أن "درء المفسدة مقدم على جلب المنفعة".
2- وإذا تنازل أحدنا عن شيء من أغراضه لأخيه ثم جاء يطلبه، قال له جدي: لايجوز لك استرجاع ما سبق وتنازلت، لأن القاعدة الفقهية تقول: "الساقط لا يعود".
ومما يميز جدي أنه لغى كلمة "عيب" من قاموسه التربوي فلا عيب إلا ما عابه الشرع، والتوجيه عنده مرتبط بالدين ومتماش معه، وملاحظاته نابعة من الأحاديث والآيات وإن كان يعرضها بطريقة جذابة وجميلة، فيربط الدين بالحياة، ويستثير العواطف ليستخرج الخير من النفوس وليحث على الصدقة والإحسان إلى الناس. وكان يستغل المواقف العادية للنصح والتوجيه، ويستثمر أوقات اللهو والترويح لإلقاء المواعظ السريعة الخفيفة. ويهتم بالقيم والأصول ويدع الذيول والفروع ويهتم بالفرائض ويدع النوافل، يأمر بالحلال وينهى عن الحرام ويكتفي بالتحذير من المشتبهات.
6- مرونته وأضرب لها مثلاً بكونه "نصير المرأة"
لم أشهد أنا بدايات جدي مع المرأة ولكني سمعت منه وقرأتها في ذكرياته قال: "كنت أتمنى أن يكون بكري ذكرا وقد أعددت له أحلى الأسماء، ما خطر على بالي أن تكون أنثى، ونحن مهما صنعنا فينا بقية من جاهلية" ثم قال: "ولم يبلغ بي الأمر أن أدس ابنتي في التراب (كما جاء في الآية) ولكن أخفيت وجهي من الناس وكأنني أحدثت حدثاً، أو اجترحت ذنباً". "البيئة" أثرت في جدي، وحزن حزناً شديداً لولادة البنت الأولى وخف حزنه في الثانية ورضي واستسلم في الثالثة.
والإنسان مهما نبغ وتفوق وسبق زمانه يتأثر بالبيئة التي عاش فيها ويحمل أفكارها نشأ جدي في مجتمع لا يقدر المرأة كثيراً ولا يحبذ تعليمها ويراها ضعيفة عاجزة عن النبوغ، وإنما خلقت لتتزوج وتنجب وترعى البيت والزوج... فلم يؤمن جدي "بدور المرأة" في الحياة ولم ير ضرورة لتعليمها الجامعي وإنما تكفيها المطالعة بما يعينها على تربية الأبناء، ولذا لم يمانع بتزويج بناته صغيرات، ولمقام جدي تقدم الخطاب إلى بناته بكثرة، وزوجهن ولم يتجاوزن الخامسة عشرة.
ولكن يبدو أن ولادة البنات ومعاشرتهن وتربيتهن والقرب منهن غيَّر جدي، والعالم الفقيه هكذا يكون ويستفيد من علمه قبل أن يفيد الناس منه، وهذا من مناقب جدي، فماذا فعل:
أ-رضي وقنع بالبنات (وإن بقي يتمنى البنين)، ولم يفكر بالزواج ثانية، وتغيرت مشاعره من "الحزن" لولادة البنات إلى "الفرح" بناء على بشارة الرسول بأنه من رزق بنتين وأحسن إليهن دخل الجنة، وهو رزق خمساً. وصار يقر بأنه من الصنف الأول حيث بدأت الآية بالإناث: "يهب لمن يشاء إناثاً".
ب- أحب جدي لن أقول "البنات" وإنما سأقول: "أحب بناته حباً جماً"، وأولاهن عناية لم تحظ بها إلا القليلات، ورعاهن بغرابة! فكان يغيبهن عن المدرسة إذا لم ينمن جيداً، أو إذا برد الجو (ودمشق بردها قارس وشتاؤها طويل)!
ج- فَهِمَ المرأة ورَحِمها وقدر وضعها وعاش معاناتها وصار نصيرها والمدافع عنها. وكان يذكر أمه ويترحم عليها ويشكر فضلها وكيف كانت تسهر الليالي الطوال على راحتهم وتسهر لتزيل القرادة عن أجسامهم... ولقد كان يحب أمه حباً جماً وقد افتقدها في كل مرحلة من مراحل حياته، وما نسيها يوماً، وكان يبكي كلما ذكرها.
وكان يعاتب جدتي إن طبخت الأكلات الشامية الصعبة ضناً بتعبها، ولأجل هذا عز عليه أكل (ورق العنب) فامتنع عنه وعلل فعله بقوله: "آكلها بلقمة وتقضي زوجتي ساعتين في لفها!؟ بئست الأكلة"، ويقول: "لا فرق لو أكلت الكوسا وهو محفور ومحشي أو أكلته مقطعاً ومعه الرز واللحم، ولكن الفرق كبير في الجهد والتعب على المرأة"، ويساهم في بعض الأحيان ويطبخ لنا شيئاً، وقد يساعد بجلي الصحون، ويحرص خلال ذلك على تعريف الناس بما تبذله الأم أو الزوجة لهم.
د- كان جدي عالماً وأبوه عالماً فكان يتوق لابن يحمل العلم عنه، وكان يبحث عن خليفة له من صلبه كما هو خليفة أبيه، وأصبح شأنه امرأة عمرانالتي نذرت ما في بطنها لله فلما وضعتها أنثى قالت: "وليس الذكر كالأنثى" أي في خدمة البيت ولم تقصد أن (الذكر أفضل من الأنثى مطلقاً).
فلما وضعت جدتي البنات ويأس جدي من البنين حاول حل مشكلته بطرق أخرى وبحث عن الخليفة في إخوته فعلمهم الشعر والأدب وعلوم الدين ولم يخلفه أحد منهم، فالتفت إلى أبناء إخوته ثم إلى حفدته من الذكور فأولاهم رعاية علمية خاصة... ولم يحظ بما يريد.
فلما تغير الزمان وتعلمت البنات ونبغن، صار جدي يرى البنت أهلاً للدراسة والدعوة والعمل الإسلامي وإفادة المجتمعات، وصارت بناته يلقين المحاضرات الدعوية العامة، فحث بناته على التعلم، وسعد لنيل إحداهن الماجستير، وعملت بنتاه مدرسات في جامعة "الملك عبد العزيز" ففرح واستبشر، ولما بدأت أنا في الكتابة في المجلات وصدر لي الكتب زادت سعادته وتشجيعه.
وهكذا تميز جدي بمرونته، والتزامه بالقاعدة الفقهية: "تتبدل الأحكام بتبدل الأزمان"، فغير نظرته إلى بعض الأشياء،
7- الطرافة
جدي يتصرف في البيت على طبيعته في أسلوب الحديث وطريقة الكلام، وأحيانا ينسى أنه معنا فيترك العامية ويتكلم بلهجته التلفزيونية (التي يختار عباراتها بحيث تكون أقرب إلى الفصحى)! وكما ترونه في الرائي هو معنا فلا يتكلف في المظهر ولا في العبارات ويمزح في كلامه، وأول ما أذكره (من طرافة جدي في التعبير) حدث في أول صيفية اجتمعنا فيها في عمان، حيث صرنا نتخانق (أولاد الخالات) بعضنا مع بعض ونفتعل المشكلات وشكت أمهاتنا ما يرونه منا من صعوبات في تربيتنا، ولشدة حب جدي لبناته قال لهن: "سبق وكنت قاضياً وأنا سأقضي بينهم! دعن الأمر لي وأنا سأحل كل مشكلة وأعالج سيئات كل ولد"، وصرنا كلما تشاجرنا وجئنا إلى أمهاتنا شاكيات حولتنا على جدنا، وكثرت خلافاتنا، وبعد ثلاثة أيام قال جدي لبناته: "يا بنات هل يوجد حبل في بيت الصيفية؟!" وضحكت أمي وكانت شديدةَ الذكاء ونظرت أخواتها باستغراب وسألنه: "ولِمَ؟ بالطبع لا يوجد هنا حبل"، فقال جدي: "لأن قاضي الأولاد شنق نفسه. وأولادكم عجزوني".
لقد أشاع جدي جواً أسرياً دافئاً مرحاً بطعم حلو لطيف، فيه الحديث النافع القيم مع التشويق والإثارة. وكنا نفتقد ذلك الجو عندما يغيب، وكان أشد ما يميز هذا الجو عن غيره أنه جو أدبي فقهي يهتم بالكتب والعلم، حتى إن طرافة جدي ونكاته تأتي من ذلك العالم! ومن صغره يمزح بهذه الطريقة، فقد غاظه مرة ابن عمه واسمه طاهر فتضايق منه جدي وأحب أن يغيظه بما يزعج ويحبط فقال لابن عمه: "قالت المالكية: الكلب طاهر") طبعاً يقصد أن الكلب طاهر الريق والشعر عند الإمام مالك (هذا بعكس المذاهب الباقية) ولكنه استعملها هكذا فبانت وكأن الإمام مالك وصم طاهراً ووصفه بأنه "كلب".
8- ولو سألني الناس ما السر في تميز "علي الطنطاوي"، وما السبب الرئيسي والأساسي لنجاحه؟ لقلت: "كثرة مطالعته وتنوع قراءته" فهذا هو أهم ما ميز جدي.
لقد عشق الكتب وحرص على القراءة والفهم، فأعطته "القراءة" مثلما أخذ منها وكانت مكافأته الأولى أن صار أديباً، ومكافأته الثانية أن أراد الله به خيراً ففقهه في الدين وعلمه التأويل، فجمع له الخير كله، وكانت جائزته الثالثة أنه صار بعيد النظر واسع الأفق، حكيماً يفهم الناس ويحل المشكلات، فأدار حياته الأسرية بنجاح وبشكل حلو ومتوازن، وهذا أثمن ما حصل عليه، وهو ما أحاول إيصاله للناس ولا يتفهمونه!
فالناس تكره القراءة وتتحجج بضيق الوقت والقراءة هي التي تعلمنا التنظيم والتوازن، فتبارك في أوقتنا وتزيد إنتاجنا وإنجازنا وتؤدي إلى النجاح والفلاح، والقراءة تعطي الإنسان العمق والبعد في النظر، والقوة في الحق، وتعلمه كيف ينظم أموره وكيف يدير حياته، وتبعد عنه الحزن الاكتئاب... فأي جزاء أعظم من هذا.
وقد حاول جدي أن ينقل حب الكتب إلينا جميعاً بشتى الوسائل، فقصّ علينا تجربته مع القراءة وما وصل إليه من الفقه والعلم بسببها، وحبب إلينا المطالعة وأهدانا الكتب وعلمنا كيف نقرأ وماذا نقرأ، وكان يسألنا في التاريخ أو الفقه مثلاً ويثني بشدة على من يأتيه بالجواب الصحيح، فإن عجزنا عن الجواب أرشدنا إلى بعض الكتب، ثم يعاود السؤال بعد مدة ليرى القارئ فينا، الأمر الذي جعلنا نتسابق لقراءة تلك الكتب لنجيب عن أسئلته ونحوز على رضاه. فحبب إلينا العلم وزينه في قلوبنا، وجعله أسمى غاياتنا، وصار الكتاب صديقنا، وعالم النشر من أحب العوالم إلى قلوبنا. وقد أفادتنا سعة الاطلاع في دراستنا، وفي علاقاتنا مع ذوينا وسهلت علينا أمور حياتنا، كما أننا أفدنا صاحباتنا مما تعلمناه فكان لجدنا الأجر المضاعف، ولنا الفائدة والمتعة.
لم يكن جدي يشتهي شيئاً من هذه الدنيا (إلا الكتب) مع أنه يملك المال الذي يخوله شراء كثير من الأشياء والمتاع، إذ كان يعرف أنه عالم دين وليس داعية دنيا، وكل من زاره يلمس "البساطة" في بيته وملبسه ومأكله وفي متاعه، ويلاحظ بعده عن الترف والبذخ. وكان يستكثر أن يشتري لنفسه أي شيء من الأشياء مما يؤكل أو يلبس أو يستعمل، فلا يبتاع إلا الضروري. ولما أهدته والدتي عصا تنقلب شمسية وجدها ترفاً لا يليق به فرفض استعمالها وأهداها إلى أحد أصدقائه! وعندما مات لم يكن يملك من المتاع إلا سريراً خشبياً يستعمله للجلوس والنوم، ومصباحاً رخيصاً يعينه على القراءة ومسجلتين ونظارة القراءة، وبعض الأشياء الشخصية المهمة اللازمة لكل فرد فقط، والكثير الكثير من الأوراق والكتب.
وأخيراً أقول:
حملت لجدي المشاعر الطيبة على الدوام، وفكرت مراراً بطريقة أعبر له فيها عن امتناني وشكري حتى هداني الله إلى كتابة تجربتي التربوية معه في "هكذا ربانا جدي"، فكتبتها وفاء له واعترافاً بفضله وبما رجوت له من الثواب (حين يستفيد الآباء والمربون من أسلوبه في التربية).
واتصل جدي بي يوم صدر الكتاب مهنئاً، وقال لي: "الكتاب الذي كتبته يا ابنتي جيد فعلاً، بل هو جيد جداً، والكتاب حقيقة يدعو للإعجاب وأسلوبه جميل. وكم تمنيت أن يخلفني أحد من أهل بيتي ويبدو أنك خليفتي"، ثم قال إنه من الصعب عليه أن يمدحني لأن الكتاب عنه ويخشى أن يُظَن أنه يفعل لأجل ذلك! ثم عقب متواضعاً: "ولكنك يا ابنتي بالغت في تزيين الوقائع حتى بدت أكبر من حقيقتها، وأنا لست كما وصفت".