راشد المبارك.. وداعا أيها الرائع
راشد المبارك.. وداعا أيها الرائع
د. رشود الخريف
افتقدت الساحة الثقافية والعلمية برحيل الدكتور راشد المبارك – قبل أيام - شاعرا وأديبا ومفكرا وحكيما يشار إليه بالبنان! لقد كسب المبارك محبة الناس، لما يتحلى به من أخلاق عالية، وثقافة واسعة، وفكر تنويري، إلى جانب إخلاصه لوطنه وإنسانيته وميله الفطري إلى مساعدة الناس. عمل المبارك أستاذا للكيمياء في جامعة الملك سعود حتى عام 1992م، وعميدا لكلية الدراسات العليا في الجامعة نفسها، وعضوا في مجلس الأمناء في معهد تاريخ العلوم العربية، ورئيسا للمجلس التنفيذي للمنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة، وغيره.
تميز الدكتور المبارك بأنه جمع بين العلم والأدب والشعر والفلسفة. فمن مؤلفاته: «كيمياء الكم»، و«هذا الكون ماذا نعرف عنه»، و«فلسفة الكراهية»، و«التطرف خبز عالمي»، و«شعر نزار بين احتباسين». وله ديوانان من الشعر: «رسالة إلى ولادة» و«قراءة في دفاتر مهجورة».ولقد كان المبارك مثار الإعجاب والاحترام والتقدير في نفوس المثقفين والعلماء في حياته وبعد مماته، بل أصبح بعد وفاته – يرحمه الله - مجال حديث مجالس الناس ووسائل الإعلام بأنواعها كافة. وكان لي شرف لقاء نخبة من المثقفين وأساتذة الجامعات في "ملتقى النخيل" الذين كان موضوع حديثهم "الدكتور راشد المبارك". لذلك أستوحي مقالتي مما دار في مجلسهم، ولكني أتحمل – وحدي - التقصير في الكتابة وعدم الوفاء للمبارك بما يستحقه من تشخيص وسبر لأعماق شخصيته وإبراز لأبعاد جهوده العلمية والإنسانية.
على الرغم من سجل المبارك الطويل من الإنجازات الأكاديمية والإدارية والفكرية، فإن شخصية المبارك – في رأيي – تتمثل في قيم كبيرة وعظيمة، لعل من أبرزها "التسامح" وتعزيز اللحمة الوطنية، إلى جانب توسيع فضاء التعبير عن الرأي بما يكون هادفا ونافعا، وتشجيع التقدم العلمي الذي يحققه أبناء الوطن. لذلك تميز المبارك بصداقاته لشخصيات من أديان ومذاهب وفئات متعددة سواء من داخل الوطن أو من خارجه، ودعي لحضور صالونه الثقافي، السعودي والسوداني والفلسطيني واليمني والخليجي والمغربي والتونسي والسني والشيعي، بل المسيحي وغيرهم، وطرح قضايا وطنية وعربية وإسلامية وعالمية، وتناول منجزات علمية وثقافية ودينية.
واتسم الحوار والنقاش في مجلسه بسعة الأفق في الطرح وحرية التعبير عن الرأي، دون تكميم أفواه المتحدثين أو منعهم من التعبير عن آرائهم، فكانت جلسة يتقاطر إليها المثقفون من كل صوب. لذلك يمكن القول إن المبارك بدأ في ممارسة الحوار الوطني قبل أن يبدأ بشكل رسمي. كما حاول المبارك استقطاب العلماء المميزين لطرح أفكارهم وعرض منجزاتهم في التخصصات كافة، وذلك من أجل تبادل الأفكار وشحذ الهمم لتحقيق المزيد من الإنجازات التي تسهم في تقدم المملكة خصوصا والوطن العربي والإسلامي عموما.
حقا إن رحيل قامة شامخة كالمبارك يعد خسارة كبيرة على المستويين الوطني والعربي، ولكن ما يعزينا أنه يودعنا جسدا، ويبقى معنا فكرا وعلما وذكريات طيبة لا تنسى، ولا يستطيع الزمن أن يمحوها!وتكريما لهذه القامة الشامخة والإرث الثقافي والفكري والإنساني الكبير الذي تركه المبارك، يتحاور المثقفون عما يمكن عمله لهذا الإنسان الرائع الراقي!
الرائعون أمثال راشد المبارك لا يمكن أن يمروا دون تسجيل سيرهم وأفكارهم وإسهاماتهم ليقرأها الشباب والناشئة ويستلهمون منها العبر، وكذلك يستفد منها المؤرخون لهذه الحقبة التاريخية. لذلك لعلي أقترح على المقربين للدكتور راشد المبارك وعلى رأسهم الأستاذ الدكتور يحيى أبو الخير أن يعلق الجرس لكتابة "كتاب" عن راشد المبارك يسجل سيرته وتاريخ حياته وإنجازاته إلى جانب خواطر محبيه ومن عاصروه وعملوا معه أو اشتركوا معه في أنشطته الفكرية والعلمية.
ليس ذلك فحسب، بل إن المبارك يستحق إنشاء "مركز ثقافي" باسمه، يهدف إلى استمرار نهجه الفكري والثقافي، ويستمر في طرح القضايا التي كانت تحظى باهتمامه، وأجزم بأن محبيه من رجال الأعمال في هذا البلد المعطاء سيبادرون لدعم مثل هذا المقترح، متى ما علموا أنه سيكون منارة إشعاع لنشر التسامح، وتعزيز الاهتمام بالعلم، ودعم حرية الرأي، التي تهدف إلى البناء والعطاء. وفي نهاية الحيز المخصص للمقالة الأسبوعية، أختتم بتقديم التعازي الصادقة لمعشر المثقفين، ومحبي المبارك، وأسرته، وأدعو له بالرحمة والمغفرة وسكنى فسيح الجنان.