محدّث الحجاز الشيخ محمد الصومالي
محمد حسين الصومالي – مكة المكرمة
في منتصف ليلة الأحد لأربع خلون من شهر رمضان لعام 1420 كانت وفاة العلامة المحدّث الشيخ محمد بن عبدالله الصومالي المكي عن عمر يناهز تسعين عاماً، في مستشفى بمكة إثر معاناة طويلة مع المرض، وقد صلي عليه في المسجد الحرام، ودفن بمقابر عدل.
كان الشيخ من مواليد مقاطعة أوجادين في منطقة الصومال الغربي المحتل من قبل إثيوبيا، حيث نشأ وتربى فيها وحفظ القرآن في صغره على يد معلم حسين الرحنويني كعادة أبناء المسلمين في المنطقة، ثم تتلمذ على يد أشهر علماء منطقة القرن الإفريقي، كالشيخ علي جوهر وغيره.
وفي عز شبابه هاجر إلى أرض اليمن ليواصل رحلته العلمية على الرغم من خطورة السفر آنذاك، لكنه لم يطق المكوث تحت وطأة الاحتلال الاستعماري الحبشي، ومضايقاته أيام حكم الإمبراطور الصليبي هيلا سلاسي، وقد وصل إلى اليمن أيام حكم الأئمة، غير أنه بعد خمس سنوات واصل رحلته في طلب العلم حتى وصل إلى مكة المكرمة عام 1360هـ الموافق 1940م، وأثناء وجوده في اليمن نهل من منابع العلم ومعاقله في اليمن وخاصة ما يتعلق بعلوم اللغة، وعلى كل حال، فقد وصل الشيخ إلى مكة، وفور وصوله إليها، وأدائه فريضة الحج انتظم في حلقات العلم التي كانت تعقد بالحرم المكي الشريف، ثم انتظم في دار الحديث الخيرية.
والشيخ محمد بن عبدالله اشتغل في صدر عمره بعلوم متنوعة من فقه وحديث وتفسير ولغة وغير ذلك، وقد سمع الكثير، ورحل، وجمع، وكان ورعاً زاهداً يحاسب نفسه على الأوقات، ولا يدع وقتاً يمضي بغير فائدة، ولا غرابة في ذلك، فقد أخذ العلم على يد علماء أجلاء فيهم الشيوخ: عبد الرزاق حماة، وأبو محمد عبد الحق بن محمد الهاشمي المكي، وسلطان معصوي بخاري، وأبو سعيد الباكستاني، ومحمد شؤيل المصري، ومحمد حامد الفقي، وقد أخذ عن هؤلاء العلماء وغيرهم أمهات كتب السنة، والتفسير وعلومه، وعلم العقيدة لاسيما كتب العلامة المجدد شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب التميمي – رحمهم الله جميعاً رحمة واسعة.
وكان الشيخ محمد بن عبد العزيز يتميز بمعرفة علم رجال الحديث، إذ كان بارعاً متفنناً فيه، وخاصة رجال جامع الصحيح للبخاري، وقد وضع أحد طلابه وهو الشيخ فهد الكشي كتيباً سماه: "المفيد في الرجال المذكورين في صحيح البخاري"، يتحدث عن طريق تمييز أسماء الرجال المشتبه بناء على ما استفاده من حلقة الشيخ العلمية.
ومثل ذلك أشار إليه الشيخ مقبل بن هادي الوادعي في كتابه "المقترح في علم المصطلح"، كما وصفه العلامة المحدث الطحان بأنه "أعلم الناس بعلم الحديث في منطقة الحجاز"، لأنه وسع الحديث الكثير، إذ كان يضبط الضبط الصحيح.
وقد تخرج الفقيد في دار الحديث الخيرية عام 1365هـ، وعين مدرساً في الجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية عام 1377هـ، وتتلمذ على يديه – رحمه الله- عدد من طلبة العلم لا حصر لهم سواء حين كان مدرساً بدار الحديث، أو حين كان يلقي الدروس في المسجد الحرام بانتظام.
وكان يواظب على حلقاته العلمية ويحضرها نخبة من العلماء الأفاضل: مثل الشيخ محمد بن عبد الله السبيل – رئيس قسم شؤون الحرم المكي والمسجد النبوي، وإمام وخطيب المسجد الحرام- والشيخ يحيى بن عثمان الهندي – من علماء الحجاز في زماننا هذا، وله حلقة علمية في المسجد الحرام حتى الآن، والشيخ مقبل بن هادي الوادعي أحد أبرز علماء اليمن، والشيخ أحمد ولد الحبشي مدرس جامع الأنوار في عاصمة إثيوبيا بأديس أبابا، والشيخ محمد الجيش، والشيخ عبد الله بن الشيخ عمر، والشيخ محمد خير بن عمران حسن، وغيرهم كثير.
وبموت الشيخ المحدث محمد بن عبدالله يستمر جرح الأمة الإسلامية، ويتعمق بفقدان كوكبة من العلماء الأجلاء في عالمنا الإسلامي خلال سنة واحدة وهذا قدر من الله سبحانه وتعالى، والموت حتم وواقع لا مفر منه مهما عاشت النفوس وكانت الشخوص:
قال الشاعر:
كل ابن أنثى وإن طالت سلامته يوماً على آلة حدباء محمول
وقد اشتهر الراحل بالزهد الواسع، وعدم حبه للظهور متأثراً في ذلك بشيخه عبد الرزاق حمزة، وقد أنفد جل أوقاته في نشر العلم، وإلقاء الدروس حتى حين صار إلى السرير عجزاً وشيخوخة، كما كان إماماً جليلاً زاهداً، ورعاً متقشفا، على طريق السلف رضوان الله تعالى عليهم أجمعين.
رحم الله الشيخ محمد بن عبد الله بن حسن المكي الأوجاديني الصومالي، وأسكنه فسيح جناته وألهم ذويه وطلبته الصبر والسلوان.. "إنا لله وإنا إليه راجعون".