المفكر والمناضل السوري سليم الجزائري
المفكر والمناضل السوري
سليم الجزائري
محمد فاروق الإمام
ذات نهار عربي من عام 1916 كان كوكبة من عشاق الحرية العرب يتأهبون لملاقاة الموت أمام المشانق التي نصبها جمال باشا السّفاح في دمشق وبيروت بعد محاكمة صورية في سجن عالية بلبنان، وبين هذه الكوكبة كان سليم بن محمد بن سعيد الجزائري الحسيني، ولد في دمشق عام 1879. نشأ وترعرع في بيت علم وتقوى، فعمه الشيخ طاهر الجزائري أشرف هو ووالده على تربيته، وتفتحت عين سليم الجزائري على ما يدور حوله من نشاطات الحلقة العلمية السياسية، وكان في مقدمتها حلقة عمه المعروفة بحلقة الشيخ طاهر الجزائري الذي عمل مفتشاً للمعارف، وعمل على إصلاح نظم التعليم في سوريا، وجمع رجال العلم والمعرفة والثقافة في دمشق حوله، في حلقة أدبية ثقافية، تدعو إلى تعليم العلوم العصرية، وتعتني بتاريخ العرب وتراثهم العلمي.
تلقى سليم الجزائري تعليمه الأولي في المدارس الابتدائية الأميرية، حيث درس القرآن الكريم والإملاء ومبادئ العلوم، ثم أدخل المكتب الرشدي العسكري حتى يتلقن مبادئ الرجولة والحزم. وبعد الانتهاء من دروسه في المدرسة الحربية، تخرج ضابطاً من ضباط أركان الحرب، فتم تعيينه في الدائرة العسكرية في دمشق، وعندما حدثت الفتنة الشهيرة في اليمن، بعث الجزائري لإخمادها مع عزت باشا الألباني، فسقط أسيراً هو ومجموعة من الضباط، وبقي في الأسر بضعة أشهر عانى فيها معاناة شديدة وذاق ألواناً من البؤس والجوع.
وعلى الرغم من إخلاص الجزائري وتفانيه في خدمة الدولة العثمانية لم ينج من الظلم، ولما حدث الانقلاب الاتحادي عام 1908، اعتقد الجزائري أن له دوراً جديداً يلعبه هو وزملاؤه في مسيرة الحياة التي بشر بها الاتحاديون والدستور، فكان في مقدمة الضباط السوريين حيث أسندت إليه الشؤون العسكرية في دائرة أركان الحرب، وحقق انتصارات كبيرة في مقدونيا، وكلف بالقضاء على (إبراهيم باشا الملى) الذي كان يدبر مع جنوده مؤامرة، وبعد الانتهاء من هذه الفتنة كان هناك مؤامرة أخرى تحاك لهم في الخفاء، حيث اتهم الجزائري ورجال العهد الجديد بأنهم يطالبون برفع الحجاب عن النساء، فحصلت بلبلة مما دعا إلى اجتماع حافل في حي الميدان من أجل إطفاء هذه الفتنة، وألقى الجزائري خطبة أذهل فيها الحاضرين بما يتمتع به من ثقافة وبلاغة وحسن منطق. وعندما زار الشيخ رشيد رضا دمشق وألقى دروساً في الجامع الأموي، جعل ذلك سبباً للطعن بالجزائري لأنه على حد زعمهم هو الذي كان يشجعه على إلقاء دروسه المخالفة لما اعتادوا عليه، وقد خرج الجزائري من سورية بعد هذه الفتنة وهو يؤمن أن الاتحاديين وأعوانهم كانوا وراء إخراجه حتى يضعفوا الصوت العربي في الجيش العثماني.
سافر الجزائري إلى اسطنبول وعين مدرساً لمادة الجغرافيا في المكتب الحربي، وكان لدروسه صدى كبير في نفوس الضباط العرب، وكان يضرب الأمثلة على القيادة العربية من تاريخ العرب المضيء أمثال خالد بن الوليد ونبوغه في القيادة العسكرية، مما جعل مدير المكتب يتعرض له أكثر من مرة، وكان جواب الجزائري: (إن الأمم التي ليس لها أبطال في القرون الخالية تفتخر بهم يجوز لها أن تستعير الأبطال الغرباء وتتغنى بأسمائهم، وهذا من صفات الأقوام الحقيرة التي لا يؤبه لها. والعربي الذي يغفل (خالد بن الوليد) ليتغنى بنابليون هو صعلوك ما ذاق الأنفة ولا عرف عزة النفس).
عندما خرج الجزائري من دمشق ما لبث أن رأى السياسة الاتحادية شبحاً جديداً كان يتراءى له من قبل من حين لآخر بصورة مغشاة بعيدة، لكنه هذه المرة بدا قريباً واضحاً يكاد يلمس باليد. هذا الشبح هو الفتى الطوراني يحمل بيده سكيناً يذبح بها الإنسان العربي في فراشه، وازدادت هذه الصورة وضوحاً لدى الجزائري عندما زار ولاية (أضنة) واطلع على المذبحة الأرمنية التي حدثت هناك في نيسان سنة 1909. فتتبع حركات رجال الثورة واطلع على أناشيدهم الحماسية وهناك نظم أول نشيد عربي حماسي أقبلت عليه المدارس العربية والشارع العربي إقبالاً كبيراً حتى كاد يصير النشيد الوطني أنشودة تغنى على كل لسان عربي آنذاك.
شغل سليم الجزائري في أواخر حياته الكثير من المناصب منها: رئاسة أركان الحرب الفرقة التي استرجعت أدرنة من البلغاريين بعد حوادث في الحرب البلقانية الثانية، وكان الجزائري أول ضابط عربي دخل تلك المدينة بعد وقوعها بيد البلغاريين، ثم صدر أمر تعيينه قائداً لإحدى الآليات فيها. ثم انتخب عضواً في هيئة أركان الحرب في الدردنيل، وساهم مساهمة فعالة في رسم الخطط الحربية من أجل الدفاع عن المضائق ثم تقرر نقله إلى ولاية أزمير بوظيفة لا تتناسب مع مؤهلاته وخبراته بسبب مجاهرته بآرائه التي عالج فيها سياسة العرب والترك، وتصعيده للروح القومية في نفوس الضباط العرب في الجيش العثماني، وكان من مؤسسي الجمعية القحطانية وجمعية العهد وجمعية فتيان العرب والتي تقوم جميعها بالمطالبة بالمساواة بين العرب والترك.
بقي سليم الجزائري في ولاية أزمير حتى عام 1916 حيث صدر أمر تعيينه قائداً لسواحل سورية، فسافر على عجل، ولما وصل إلى عالية في لبنان أبلغه ضابط المحطة أن الديوان العرفي يحتاجه في مسألة بسيطة فذهب معه، وهناك تم تجريده من أسلحته، وبلغ الأمر بتوقيفه، فشعر حالاً بالحيلة وبالموت الذي ينتظره هو وأصحابه أعلام الحرية والفكر والأدب الذين وجدوا داخل السجن، فأخذ ينظم الأناشيد الحماسية في الأمة العربية.
فجر يوم السادس من أيار 1916، سيق الجزائري إلى حبل المشنقة وهو مرتد بزته العسكرية، ولما هم الجلاد بأن ينتزع نظارته صاح به: (إليك يا هذا عني فإني أريد أن أموت وأنا مثل ما كنت آمر جنودي، قل.. لجمال لا يسترسل في السرور إذا رآني أموت، فإن روحي لا تزال حية وستطبع في نفوس العرب محبة الوطن، ثم التفت إلى زملائه وقال: لو متنا على فراشنا لكان لنا أقرباء ميتون على هذه المشانق، حيث يولي ألوف من الرجال والنساء وجوههم شطرنا، وتقوم أمة بأسرها فتبكينا دماً لا دمعاً. وتلك الأمة العربية التي تعظم حياتها بموتنا).
أتقن سليم الجزائري بالإضافة إلى اللغة العربية اللغة التركية والفارسية، وكان مولعاً بالرياضيات، إذ ألف كتاباً في المنطق طبع باسم (ميزان الحق) خرج به على الطريقة القديمة، كما اخترع (بركاراً) لطيفاً يحمل في الجيب لرسم الخطوط المستقيمة والمتوازية والدوائر وغيرها وقرر أن يرسل إلى أوروبا من يسجله له باسمه ولكن الحرب حالت دون ذلك.