عدنان سعد الدين .. ملء سورية وشغل أهلها
عدنان سعد الدين ..
ملء سورية وشغل أهلها
أحمد موفق زيدان
على مدى عقود أربعة كان الأستاذ عدنان سعد الدين الذي وافته المنية في عمان ليلة الأحد الماضي مالء دنيا سورية وشاغل أهلها ، بل ومالء دنيا المسلمين وشاغلهم أيضا بحركته الدؤوبة ونشاطه المعهود، وفهمه لواقعه السياسي والاجتماعي والفكري، توفي عدنان سعد الدين" أبو عامر" عن عمر يناهز الواحدة والثمانين عاما بعد صراع مع مرض السرطان، لكن ذلك المرض القاتل لم يقعده عن العمل والحركة، كان شعله من النشاط والتوقد على الرغم من كل الآلام المبرحة التي كانت تعتريه أيام مرضه، كنت ألتقيه في عمان كل عطلة صيفية، تجلس وتستمع وتنصت وتتحدث وكأنك أمام شخصية استثنائية وهي كذلك، لا يشعر بالمرض، مكررا قول الشاعر " أنا روحي من العشرين وإن كان جسمي يرى في الثمانييني"..
ولم أر مثل الرجال تفاوتت لدى المجد حتى عد ألف بواحد
وكأن لسان حاله:
تأخرت أستبقي الحياة فلم أجد لنفسي حياة مثل أن أتقدما
يتحرك ويتحدث وكأنه غير مريض، يتحدث عن الموت وكأنه يتحدث عن شيء أليف له، عن شيء ينتظره ويترقبه ولا يخشاه ..
مسترسلين إلى الحتوف كأنما بين الحتوف وبينهم أرحام
التقيت نجله ياسر سعد الدين في قطر قبل شهرين تقريبا لأسأله عن أحوال الوالد فقال لي إنه في السودان، فرحت حينها وظننت أنه بدأ يتماثل إلى الشفاء، لكنه سارع إلى توضيح الوضع بالقول إن والده توجه إلى هناك من أجل مساعدة أخيه الدكتور حسن الترابي الذي سجن من قبل الحكومة السودانية،لكن الآلام تتضاعف عليه وتزداد، هكذا أخبرني ياسر ، كان يعيش رحمه الله للمسلمين أينما كانوا، ما إن تتحدث عن أي قضية إسلامية إلا ويعاجلك بتشريحها وتفصيل أسبابها ومسبباتها، ويسارع أيضا إلى المساهمة في التخفيف عن مصابها والمتضررين بها ومنها ، طار إلى السودان ليساعد على حل الخلاف بين البشير والترابي، وطار إلى أفغانستان أكثر من مرة وخبر القيادات الأفغانية وأقام معهم الصلات القوية، من أجل جمع شملهم، وطار إلى الفصائل الفلسطينية وكان بيته العامر موئلا لجميعهم ، وطار إلى الفصائل الأريترية وغيرها خدمة لدينة وأمته، تدخل في العراق لدى الرئيس الراحل صدام حسين غير مرة ليوقف أحكاما بالإعدام بحق ناشطين إسلاميين هناك ونجح ..
رحل أبو عامر عن سجل مليء بالعطاء الفكري والسياسي، قاد حركة الإخوان المسلمين في سورية في أصعب حالاتها اتفق معه الكثير واختلف معه الكثير أيضا ولكن ظل بلا شك وبلا ريب مغناطيس نشاط حركة العمل الإسلامي في سورية، جُمدت عضويته في مجلس شورى الإخوان المسلمين بقرار ظالم، واستعيد العام الماضي وأحمد الله أنه استعيد قبل وفاته، وهو دليل على الظلم الذي حاق بأبي عامر، عاد يومها من اسطنمبول مفعما بالحركة والنشاط والحيوية داعيا إلى عدم الرضوخ للنظام الظالم في سورية، وداعيا إلى عدم توقيع الهدن معه، وداعيا بالمقابل إلى فضح ممارساته السياسية وأن كل ما يفعله النظام لا يعدو بهلوانات سياسية من أجل بقائه في السلطة ..
لأول مرة سجل أبو عامر شهادة الحركة الإسلامية على تاريخها وتاريخ سورية، فلم يؤثر عن قادة الحركة الإسلامية في سورية توثيق شهاداتهم وكتابة تاريخ الحركة أو كتابة مذكراتهم، فكتب خمسة مجلدات ضخمة بعنوان" ذكريات ومذكرات " تتحدث عن تاريخ الحركة الإسلامية ورد فيها على كثير من الأباطيل التي حاقت بتاريخ هذه الحركة، وفي هذه المجلدات دروس وعبر وعظات مهمة وهي أن المرض الخطير لم يقعده عن العمل فكل هذه المجلدات كتبت ودونت في حالة المرض، والأهم من ذلك كتبت كما اعتاد أن يقول لي بعيدا عن مكتبته وأرشيفه في سورية وبالتالي،تتضاعف صعوبة العمل وصعوبة الانجاز ..
سجل أبو عامر عليه رحمة الله ورضوانه شهادته في حلقات عدة مع الأستاذ أحمد منصور ضمن برنامج شاهد على العصر، وهي الشهادة الأولى لقائد إخواني سوري تحدث عن أخطر سنوات سورية وسنوات الحركة الإسلامية السورية..
في عمان وارى الإخوان المسلمون السوريون مئات وربما الآلاف من عناصرهم وقياداتهم منذ أيام المحنة التي بدأت أواخر السبعينيات، التفت إلي أحدهم في مقبرة سحاب حيث ضمت جثمان أبي عامر وسعيد حوى وآخرين وقال لي :" يا أخي على بعد حجر بلدنا ولا نستطيع أن ندفن فيها، هذا هو قدرنا" سعى الآخر إلى التخفيف عن الأخ المتحدث بعد أن غالبته الدموع فقال له:" إن رسولنا عليه الصلاة والسلام القائل إن المهاجر يمد له في قبره ما بين مهجره وموطنه" ..
رحمك الله يا أبا عامر ورحم الله مهاجرينا الذي قضوا في ديار الهجرة، ولكن كما قال أبو عامر وأوصى بأن الثبات على المبدأ هو النصر ونسأل الله لنا الثبات ولكل المسلمين ..
بكت المنابر يوم مات وإنما أبكى المنابر فقد فارسهنه