سعيد أبو شهاب شهيد فلسطين في سوريا
سعيد أبو شهاب شهيد فلسطين في سوريا
ثائر سوري
الزنزانة مظلمة رطبة عفنة ... والوحدة في عالم الظلام تحرك الأفكار وتستثير الهواجس والمخاوف . وعالم الصمت رهيب لا سيما حين يشق هدوءه أنين متوجع أو استغاثة حبيب مجهول , أو صوت عدو مقيت يُرغي ويُزبد .
كان قد ألقي في الزنزانة منذ أيام , وتُرك دون سؤال ليستسلم – بزعمهم – بصمت وهدوء , دون أن يحيج المحقق إلى كثرة الأخذ والرد ... لقد أدرك أن وجوده في هذه الزنزانة على هذه الطريقة جزء من الحرب النفسية المفروضة عليه وعلى إخوانه , وأنه صائر إلى التحقيق ليلقى ما يلاقون ... فأخذ يعد العدة ويرتب الإجابات .
كان حينًا يفكر بهذه المأساة التي تدور حوله , فيتذكر بعض أقاصيص والده عن اليهود وأساليبهم يوم أن اضطروهم إلى الهجرة من وطنهم فلسطين , كما يتذكر الأحاديث الدموية التي رواها أقرباؤه الناجون من ( تل الزعتر ) عن وحشية القتلة المجرمين فيشعر أن ملامح الصورة تتوضح في ذهنه جيّدًا , وإنه ليكاد يلمح الريشة التي رسمت معالم المجازر في قبية ودير ياسين والكرنتينا وتل الزعتر تأخذ دورها اليوم في أديم الشباب المسلم في الشام ...
ثمة رؤية لم تكن تغادر مخيلته , إنها صورة القصعة والأكلة يتداعون إليها , والوهن الذي ملأ القلوب والنفوس , فيستعيذ بالله من الدنيا وحبها ... ويجدد العزم على أن يموت شهيدًا في سبيل الله ....
كانت الشهادة حلمًا يرتاح إليه , ويشعر بالسعادة المطلقة في بحبوحته غير طيف ألم يلم بفؤاده حين يذكر أبويه وأخواته السبع اللواتي كان يعيلهن من عمل يده ... ولا يلبث أن يفر من هذا الخيال الممض إلى ذكر الله والأنس به ...
ويُفتح الباب ويُستدعى سعيد , فيخرج وقد أنهكه التعب والجوع ... كان يعلم أنه ليست هناك تهمة كبيرة توجه إليه ... إن كل الذي فعله حتى الآن هو أنه مد يد العون إلى بعض الأسر المنكوبة ...
ويبدأ التحقيق , بسياط ولكمات ... وكلمات قارصات وكدمات , نار وكهرباء , صلب وجلد ودولاب ...
ثم يبدأ السؤال ... ويكون الجواب الأول : سعيد أبو شهاب لاجئ فلسطيني في مخيم اليرموك ... ( خياط ) ... دمشق ...
تربد سحنة المحقق , يرغي ويزبد ... وكأن اسم الرجل كان جريمة , وجنسيته جريمة أخرى , وسكناه في مخيم اللاجئين الطامة الكبرى ...
إن سعيدًا ( بجرائمه هذه ) !! ظاهرة خطيرة لا يجوز التساهل معها والتهاون في علاجها , وليس لها علاج إلا الحسم هكذا نصت الأوامر العليا ...!!
كان الشهيد عند الطغاة ليس الخطر المباشر عليهم فحسب بل على حماتهم وسادتهم أيضًا . إن ومضة النور في مخيمات اللاجئين يجب أن تخفت قبل أن تشتعل هذه المخيمات على الطغاة الخائنين . فالذين كتبوا على اللاجئين مأساة التشرد , يريدون لهم أيضًا أن يظلوا – في تيه بني إسرائيل – يترددون على أبواب الشرق والغرب وتتقاذفهم الحكومات , ويتلاعب بهم تجار السياسة .
أما أن يضعوا أقدامهم على الطريق , ويفتحوا عيونهم على الحقيقة ... فذلك ما إليه سبيل ...
ومن هناك كان لا بد من القضاء على الشهيد ... ولا بد من قتله معنويًّا بقتل صفائه ونقائه قبل أن يقتل جسديًّا بالتصفية ... فلا بد أن يشهد على نفسه وعلى جماعته بالخيانة والعمالة قبل أن يصفى معه الحساب ...
وهكذا تقدم إليه المحقق يعده بالإفراج عنه , وبرد النقود التي أخذت منه وكان يعدها مهرًا لعروسه , وبإعادته إلى أبيه وأمه وأخواته ... كل أولئك بشرط أن يقبل الظهور على شاشة التلفزيون ليعلن أنه كان وسيطًا بين الإخوان المسلمين وبعض ضباط اليهود ... ولكنه سما فوق الوعود ... كما صبر على الوعيد تحول هذا الوعيد إلى عذاب لا يطاق ... اعتصم بالله ... ولاذ بالصمت ... عاف الدنيا وتعلق بالآخرة فقضى تحت التعذيب ...وكان موته جريمة أخرى في عرف الظالمين , فليس من حقه أن يموت قبل أن يعترف بما يريدون . فبقروا بطنه وقطعوا ساعده ثم وضعوه في تجويف بطنه وحملوه إلى المخيم ... حيث الشعب المشرد ليكون سعيد عبرة لكل من يفكر أن يرود طريق التحرير ...
ومضى سعيد إلى ربه مخلفًا عبء قضية ضخمة على إخوانه ... الذين يودون أن يعودوا إلى فلسطين ...