الدكتور حسين قاسم النعيمي
الدكتور حسين قاسم النعيمي
(أبو حمزة)
د. منير الغضبان
بحثت عن كلمة جامعة تنطلق منها صفات الراحل الحبيب فلم أجد أجمع من كلمة الداعية، في وقت عز فيه الدعاة، وأدعو الشباب الحريص على أن يكون من هذا الصنف الرباني الذي أثنى عليه الله تعالى بقوله: "ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله وعمل صالحاً وقال إنني من المسلمين" (فصلت: 33) أدعوه إلى أن يتحلى بصفات هذا الأخ الداعية.
ولا أزال أذكر أول لقاء معه في الطائف، وكان في ريعان شبابه يتوقد حيوية واندفاعاً، وكان اللقاء على عشاء عنده، فبيته موئل الضيفان لا يكاد يمر عليه يوم بلا ضيف، في ذلك اللقاء رحنا نتحدث عن آلام الحركة الإسلامية في سورية في بداية السبعينيات، وأن علينا نحن الشباب أن نتجاوز هذه الخلافات، ونعمل يداً واحدة للدعوة لهذا الدين، وحوّلنا القول عملاً، وانطلقنا تحدونا الآمال العراض بتجاوز هذه الخلافات، وكان هو العصب الحساس المحرك لنا رغم فصائلنا وأقطارنا المختلفة، فالدعوة إلى الإسلام قد صهرته وجعلته مرجلاً لا يعرف الهدوء، يتحرك بحرقة ويمضي كله – لا عقله أو قلبه فقط - آملاً بنصر الله وعونه.
وأطوي الزمن لأتحدث عن آخر لقاء رحمه الله، حين رأيته وشحوب الموت في وجهه، كأنما هو خارج من قبر، إنه هو هو يتهلل لاستقبالنا بحيويته واندفاعه، وأتساءل في نفسي ما هذا النوع من البشر، هل يطاوعه لسانه على الكلام أم سيقتله كلامه، وراح يتحدث عن آمال المؤمنين بالنصر وقد نسي مرضه كله، عن ثورتهم في الشيشان وكازاخستان، ويتحدث عن انتشار الإسلام في أمريكا، ويتحدث عن هموم المسلمين في الأرض.
لقد اتسعت آماله فلم يعد ابن قطر واحد، ولم تعد الخبرة خبرة قرية صغيرة، لقد امتد جهاده ، وتوزعت اهتماماته، وتعمقت خبرته، وتشعبت صلاته، وزار أقطار الأرض شرقها وغربها من إندونيسيا إلى أمريكا، ونضجت تجربته العلمية بعد خبرة قرابة عشرين عاماً أستاذاً لمادة الحديث في جامعة الإمام محمد بن سعود ثم في معهد الأئمة والدعاة في مكة المكرمة.
انظر إليه وهو يتحدث... أمن الأحياء هو أم من الأموات؟ كيف يتمكن هذا الإنسان أن يتكلم أو يفكر أو يحس بغير مرضه، وقد هده مرضه، وأهلكه الألم وطحنته السنون، وقبل أقل من شهر من وفاته هو هو، كأنه ابن العشرين والثلاثين من عمره في همته واهتمامه ونفسيته واندفاعه، ونحن يصاب أحدنا بصداع في رأسه، فيعتذر عن لقاء إخوانه ومتابعة دعوته أياماً عدة، هذا جانب من جوانب شخصيته يتغمده الله برحمته.
أما الجانب الآخر والذي أدعو الشباب أن يتملوه معي فيه – رحمه الله- هو أنه كان يعيش لدعوته وللناس لا لنفسه وذاته، وحين قالت خديجة رضي الله عنها لرسول الله صلى الله عليه وسلم: "كلا والله لا يخزيك الله أبداً، إنك لتصل الرحم، وتفك العاني، وتقري الضيف، وتصدق الحديث، وتحمل الكل، وتعين على نوائب الحق"، قالت له ذلك رضي الله عنها قبل أن يكون مبعوثاً للعالمين لأنها تعرف أن هذه الصفات هي أعظم أخلاق الرجال، وداعيتنا – رحمه الله- كان يحرص دائماً أن يتمثل بهذا الخلق النبوي الكريم، إذ كانت مروءة الرجال سجية أصيلة من سجاياه، وكان من أهل المعروف مع إخوانه وغير إخوانه، بحيث لا يذكره أحد إلا وفي عنقه دين له ولمروءته.
و"أبو حمزة" يبتغي وجه الله فيما نحسب، وظف كل ما يملك من مال في سبيل الله، إن ملك المال أو بقي في يده، خاطر بحياته وأفنى ماله، وخاطر بوظيفته بل خسرها من أجل إخوانه، وطالما استدان المال لإنقاذهم، وغامر براحته، وغامر بصحته، لقد رخص كل شيء عنده في سبيل الله، وكانت دنياه مذللة مستعبدة عنده لدينه، إغاثة الملهوف ديدنه، وتفريج المكروب فرحته، وقضاء حاجة إخوانه رسالته، وحتى عندما نشب به المرض لم يغير ولم يبدل من حياته شيئاً، وبقي لهم كهفاً وملاذاً وعوناً حتى لقي وجه ربه.
إن الداعية الذي لا يملك شهامة الرجال، ولا مروءة الرجال، ولا دعوة الرجال، ليسلك غير طريق الدعوة، فما هذه سبيله، أما الداعية الذي يهب نفسه لها ويكتوي بنارها، ويتلظى بجمرها، ويعيش لأواءها، ويقدر كل غال ورخيص في سبيلها هو الداعية الحق الذي يمكن له أن يرسي قواعدها، ولوفاته حتى ثمارها فهي لابد مثمرة بإذن الله، وداعيتنا كان من هذا الطراز من الرجال.
لقد كان يدعو إلى الله عز وجل وهو تحت منظار الطبيب، ويدعو إلى الله وهو يتعالج في العناية المركزة، ويدعو إلى الله وهو يتناول الدواء، ولا تزال ترن في أذني تلك الكلمة التي قالها لطبيب أمريكي يعالجه، نظر بوجهه فرأى أنه أشفق عليه لخطورة المرض الذي يقترب به من الموت، فقال له: تخاف علي الموت، يا الله نحن حياتنا تبتدئ منذ موتنا، فهل تخاف إخباري، لقد دخلت الدعوة إلى الله تعالى في دمه وعظمه وشرايينه، فأنى حل وارتحل، وأنى وجد فهو يدعو إلى الله، ولم يكن في لحظة من لحظات حياته داعية وظيفة، إنما كان عمره كله الثكلى على ابنها الوحيد الذي فقدته، وكانت الدعوة هي أعلى ما في حياته.
والسمة الثالثة التي لا يستطيع من يعرف الراحل الحبيب إلا أن يتحدث عنها وهي سمة الصبر والرضا بقضاء الله وقدره، وكأنما عاش على هذه السنون الست ليتلقى فيها تصفية لحسابه من الأخطاء، فـ "إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب" وندعو الله له أن يكون كذلك، وأشهد أني ما دخلت عليه يوماً أعوده من مرضه إلا وهو يتحدث عن نعمة الله عليه في هذا البلاء الذي أصابه حتى ليأكل المرض أمعاءه كلها ويذيب جسده كله، ولا يفتر عن ذكر الله والثناء عليه وحمده، وإنه ليعيد إلى ذاكرتنا ابتلاء رائد العمل الإسلامي في الشام الدكتور مصطفى السباعي – رحمه الله- الذي كتب أرق كتبه وأغزرها عاطفة في حال ابتلائه، ومدرسة الدعاة تجعل الداعية شمعة تحترق لتضيء لغيرها الطريق.
والسمة الرابعة التي يعرفها كل إخوان أبي حمزة – رحمه الله - هي غضبه لله وغيرته على دينه لا يخشى في الله لومة لائم، يقول كلمة الحق ولو كانت مرة حتى ليتخلى عنه أقرب الناس إليه فلا يضعف، وبمقدار ما كان موطأ الأكناف لإخوانه مذلل النفس معهم بمقدار ما كان حريصاً على نصحهم لا يسكت عن خطئهم، وهو يعلمنا – رحمه الله- أدب الخصومة، فهو يكره الخطأ لا الرجل، قلبه موصول بالله، وعمره مسخر لله، ولسانه رطب بذكر الله، ومشاعره وغضبه دائماً لله.
نسأل الله تعالى له رفيع الدرجات عنده، وتكفير السيئات، وأن يحشره مع الصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً، وأن يحسن مآبه، ويصبر وذويه وأهله وأحبابه على فراقه، وأن يعوض المسلمين والدعاة عن خسارتهم به، وأن يتعلم الدعاة منه أدب الدعوة ومستلزماتها لتحقق الأهداف التي نيطت بها: "ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم(34)وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا دو حظ عظيم(35)"(فصلت).