العلامة سعيد الأفغاني فقيد العربية
العلامة سعيد الأفغاني فقيد العربية
د. محمد بن لطفي الصباغ*
في مساء الثلاثاء الحادي عشر من شوال سنة 1417هـ الموافق لـ 18/2/1997م توفي أستاذنا العلامة سعيد الأفغاني عن عمر مديد يناهز الثامنة والثمانين، ففقدنا بفقده عالماً عظيماً من علماء العربية، ورجلاً غيوراً على الإسلام ومستقبله، رحمه الله رحمة واسعة، وجزاه عن لغة القرآن خير الجزاء.
وأرى أن من واجب الوفاء أن أذكر فضله على جيلنا في تدريسه العربية، وعلى الأجيال المقبلة في خدمته اللغة العربية والفكر الإسلامي فيما حقق من تراثنا الأصيل المضيء وفيما كتب من كتب نافعة أصيلة، وإني لأرجو أن يكون ذلك من العلم الذي ينتفع به والذي يدخل في عموم قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاثة: إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له" رواه مسلم.
إنه سعيد بن محمد جان الأفغاني الدمشقي، ولد في دمشق سنة 1909م ولقد كان والده رجلاً من الصالحين، هاجر من كشمير إلى بلاد الشام، وسكن دمشق، واستقر به المقام فيها، على أنها من البلاد التي شرفها الله، وليس من شك في أن لبلاد الشام من الشرف والفضل ما دلت عليه الآيات القرآنية، ولقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية عدداً من الآيات التي دلت على فضل بلاد الشام، وأشهرها قوله تعالى: "سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله" (الإسراء: 1)،
ودلت على فضل هذه البلاد الأحاديث النبوية الصحيحة الثابتة، ومنها حديث عبد الله بن حوالة: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ستجندون أجناداً: جنداً بالشام، وجنداً بالعراق، وجنداً باليمن" قال عبد الله: فقمت فقلت: خِر لي يا رسول الله إن أدركت ذلك، فقال صلى الله عليه وسلم: "عليك بالشام فإنها خيرة الله من أرضه، يجتبي إليها خيرته من عباده، فإن أبيتم فعليكم بيمنكم، واسقوا من غدركم، فإن الله توكل لي بالشام وأهله" رواه أبو داود بسند صحيح جداً وأحمد في المسند.
استقر والده في الشام وعمل فيها عملاً متواضعاً، ودعاه الناس بالأفغاني، وما هو من الأفغان، بل هو من كشمير كما ذكرنا، وتزوج من دمشق من أسرة الأبيض، وأنجب سعيداً وأختاً له، ثم توفيت الزوجة وكان عمر سعيد حينذاك ثلاث سنوات، فوقف الوالد حياته على تربية ولديه ولم يتزوج.
في هذه البيئة المتواضعة نشأ أستاذنا سعيد الأفغاني، فدرس في مدارس دمشق الابتدائية والثانوية، ثم في كلية الآداب التي تخرج فيها سنة 1932م، وعمل في التدريس في مراحله المختلفة: الابتدائية والمتوسطة والثانوية من سنة 1928م إلى سنة 1948م، وكان له أثره الصالح في طلابه علماً وتوجيهاً.
وفي 22/2/1948م عين مدرساً في كلية الآداب بالجامعة السورية، ثم أستاذاً مساعداً، ثم أستاذاً... ثم رئيساً لقسم اللغة العربية، ثم انتخب عميداً لكلية الآداب، وبقي يعمل في الجامعة إلى أن بلغ سن التقاعد في 1/1/1969م، ويعد الأستاذ سعيد من بناة كلية الآداب في الجامعة في عهدها الجديد، وكان أستاذ النحو فيها.
كنت ممن تلقوا على يديه علوم العربية في المستوى الجامعي، وكان منهجه في تدريس النحو منهجاً جديداً، إذ كان يقف من كثير من القواعد موقف الناقد لها، فيرد كل قاعدة مبنية على شاهد لا يعرف قائله، وكان حريصاً على أن يدرب طلابه على البحث والنقد والترجيح، ويعمل على تكوين الملكة العلمية فيهم عدا عنايته التامة بتكوين مهاراتهم اللغوية، وكان يخص طلابه على حفظ مقادير من كتاب الله تعالى تمكيناً للقدرة اللغوية لديهم.
وكان الطلاب يهابونه ويحبونه، وكان – على الرغم من صرامته في التدريس وجده يشجع الطلبة المتفوقين ويثني عليهم.
وقد درس أيضاً في الجامعة اللبنانية والجامعة الأردنية والجامعة الليبية وجامعة الملك سعود في الرياض.
وكان – رحمه الله - على مستوى خلقي رفيع، يأخذ نفسه بمكارم الأخلاق، وكان صادق الوعد دقيقاً فيه، وكان عف اللسان فما سمعت منه كلمة مرذولة.. بل كان يعرض بنبل وتأفف عمن يتلفظ بشيء من هذه الألفاظ، وكان يتذوق النكتة المهذبة من غير إسفاف.
وكان لا يستريح إلى نظام الاختلاط في التدريس الجامعي، فكان يجمع الطلاب في قاعة والطالبات في أخرى، إذا كان العدد كبيراً يقتضي قسمهم إلى شعبتين، فإن كان العدد قليلاً كان يمنع جلوس الطلاب والطالبات معاً، وكان يلزم الطالبات بالجلوس في المقاعد الأمامية.
وكان كاتباً مجيداً، وأسلوبه أسلوب متين متميز موجز واضح، فهو من أصحاب الأساليب المبينة، وكان ينشر مقالاته في مجلة الرسالة المصرية، وكان الأستاذ أحمد حسن الزيات صاحب مجلة الرسالة ومؤسسها يعرف قدره، ويعده من أدباء العربية في عصره.
ومن صفاته التي تميز بها جرأته في الحق، ولا يخشى في ذلك لومة لائم، وقد كانت له مواقف محمودة في مقاومة الانتداب الفرنسي والمتعاونين معه.
وكان رحمه الله مثلاً أعلى في الاستقامة، فقد عرفته منذ أكثر من خمس وأربعين سنة، فلم يتغير نهجه، ولم يتلون فكره بالوضع القائم، كما هو شأن كثير من الناس، وقد قال لي مرة: إن على الإنسان أن يعمل وفق ما يملي عليه دينه ولا يبالي، فالرزق بيد الله، والأجل مكتوب، ولو كان قول الحق سبباً في قطع الرزق لانقطع رزقي من زمن بعيد.
وكان – غفر الله له - كما يقول هو – يعيش كما يريد هو، لا كما يريد الناس، يأكل ما يطيب له، وينظم وقته على الشكل الذي يريحه، ولا يجامل الآخرين في أمر لا يراه.
وكانت علاقاته بالناس محدودة مقتصرة على من يثق بدينهم واستقامتهم وفكرهم، ويعرف لكل قدره، وكان أستاذنا الشيخ علي الطنطاوي من أعز أصدقائه من بدء حياته، ثم كان عديله.
وكان يخاف الله ويرعى حدوده، وكان حريصاً على صلاة الجماعة، بعيداً عن المحرمات والشبهات في معاملاته المادية، ينكر على من يتساهل في ذلك من الناس ولاسيما إن كانت له سمعة دينية.
أما معرفته بالرجال فشيء عظيم جداً، لقد أتاه الله بصيرة سديدة، فكان واقفاً على حقائق كثير من الناس، ولا ينخدع بالمظاهر، بل كان تقويمه للرجال تقويماً يتجاوز المظاهر إلى الأعماق، فالجرح والتعديل عنده منضبط بميزان الشرع والعقل، وما ذكر لي رأيه في إنسان إلا ثبت لي بالتجربة صحته وسداده.
وكان موضوعياً فهو يفرق بين الحكم على الرجل وبين ذكر تفوقه العلمي إذا كان متفوقاً، فقد كان يشهد بعلم بعض الرجال ومقدرتهم وإن كان ينكر سلوكهم واتجاههم وفكرهم.
وكان بعيداً عن الرياء، فقد بلغني من طرق أنه كان ينفق نصيباً من دخله في سبيل الله مخفياً ذلك عن كل من حوله.
وكان معواناً على الخير، نصيراً لدعاة الإسلام الذين يثق بهم، وإني لأذكر أن الأديب الإسلامي الكبير الذواقة الأستاذ سيد قطب عندما زار دمشق سنة 1953م رغبنا أن يحاضرنا في الجامعة، وكانت الظروف العامة في البلد صعبة، فاستعنت بالأستاذ سعيد، وحصلنا على دعوة رسمية من الكلية للأستاذ سيد، واستطاع أن يقنع العميد الأستاذ شفيق صبري بتقديم الأستاذ سيد قطب، وقد قدمه بكلمة بليغة وألقى الأستاذ سيد محاضرة استمرت ما يقرب من ساعتين في دراسة آيات من سورة البقرة.
وكانت للأستاذ سعيد مكانة علمية في العالم العربي كله، فقد قام بزيارات علمية إلى المغرب والجزائر وتونس وليبيا، ومصر والعراق والسعودية وكان يعكف على المكتبات العامة وينقب في المخطوطات وينشر بعض ما يراه.
وقد شارك في عدد كبير من المؤتمرات العلمية قدم فيها بحوثاً علمية ذات قيمة كبيرة: فقد شارك في المهرجان الدولي لابن حزم الأندلسي المعقود بقرطبة تحت رعاية رئيس الدولة فرانكو سنة 1962م وقدم فيه بحثاً عنوانه: "اللغة عند ابن حزم"، وشارك في حلقة تيسير النحو التي عقدت بدار العلوم في جامعة القاهرة سنة 1962م.
وشارك في المؤتمر العالمي لتاريخ الشام المعقود في عمان سنة 1974م، وكان بحثه الذي ألقاه بعنوان: "معاوية في الأساطير" وقد أجاب عن الأسئلة التي دارت حول هذا الموضوع.
وانتخب عضواً مؤازراً في المجمع العلمي العراقي سنة 1960م.
وانتخب عضواً مراسلاً في مجمع اللغة العربية بالقاهرة سنة 1970م وشارك في مؤتمراته السنوية كل عام.
وكان حريصاً على اقتناء كتب التراث.
أما كتبه التي صدرت فقد وصلت إلى 23 كتاباً منها "الموجز في قواعد اللغة العربية" وكتاب "في أصول النحو"، وكتاب "أسواق العرب في الجاهلية والإسلام" هذا غير المقالات والبحوث التي قدمها إلى المجامع اللغوية والمؤتمرات والمجلات الأدبية.
وقبل أن أنهي كلمتي هذه أحب أن أقرر أن كتب التراث التي حققها كانت على أعلى درجة من الإتقان والتثبت والتعليقات النافعة النفيسة الغنية بالفوائد.
* أستاذ علوم القرآن والحديث في كلية الآداب جامعة الملك سعود – الرياض.