الحاج سليمان محمد أمين القابلي
الحاج سليمان محمد أمين القابلي
حازم ناظم فاضل
ولد الحاج سليمان محمد القابلي ، في محافظة كركوك بالعراق 1926 ، وأكمل الدراسة الابتدائية والثانوية فيها ، والتحق بكلية الحقوق ببغداد ، إلا أن نشاطه الدعوي في بغداد حالت دون إكمال دراسته بسبب تعرضه الى مضايقات من قبل السلطات آنذاك ، وقد تم تعينه موظفاً في دائرة كاتب عدل كركوك الى أن أحيل على التقاعد. كان القابلي مثقل القلب والفكر بهموم المسلمين ، وكان يتحرق ألماً لما يحدث لعموم المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها . وكان في غاية العمق في تفكيره وإدراكه للواقع الذي يعيش فيه ، كيف لا وقد لازم الشيخ أمجد الزهاوي رئيس رابطة علماء العراق والشيخ محمد محمود الصواف رئيس جمعية الأخوة الإسلامية.
قضى حياته كلها في النصح وتربية الشباب وتوجيههم ،وقد وجهه الشيخ الصواف بفتح مكتبة الأخوة الإسلامية في كركوك عام 1953 لنشر الكتب والكراسات الدعوية فبقي يديرها(1) الى أن وافاه الأجل في 9 صفر 1416 هـ / 7 تموز 1995. ونظراً لحماسه لحمل رسالة الدعوة والجهاد في سبيلها وقيامه بالتوجيه والنصح لعامة الناس والشباب خاصة فلم يجد الوقت الكافي للتأليف ، الا انه الف كتاباً في الاقتصاد الإسلامي:
(1) مبادئ الاقتصاد الإسلامي ، دار النذير ، بغداد .
وترجم مع المحامي نورالدين واعظ :
(2) أسرار الماسونية : ( عن التركية) تأليف : الجنرال جواد رفعت اتلخان ،بيروت، مكتبة المثقف، سنة 1376 .
وفي عام 1960م قدم السيد نعمان عبد الرزاق السامرائي، طلباً إلى وزارة الداخلية لتأسيس حزب سياسي باسم (الحزب الإسلامي العراقي) لكن وزارة الداخلية رفضت الطلب بقرارها المرقم ش / ج / 914 في 27/3/1960، فميز السيد نعمان السامرائي القرار المذكور لدى محكمة التمييز، فاحيلت الدعوى إليها لإجراء التدقيقات التمييزية عليها وبعد التدقيق والمداولة، وجد من محاضر التحقيق المرفوعة من الجهات المختصة انه ليس هناك مانع بقدر ما يتعلق الامر بتلك الجهات من منح الأعضاء المؤسسين إجازة. وقد صدرت موافقة محكمة التمييز على تأسيسه في 26 / 4 / 1960
وأعلنوا عن تشكيل الحزب الإسلامي العراقي والذي يعد واجهة سياسية لجماعة الإخوان المسلمين آنذاك، وعقد مؤتمره الأول في 29 / 7 / 1960. حيث انتخب المؤتمر اللجنة المركزية (المكتب السياسي) للحزب الإسلامي العراقي، وفاز الأستاذ نعمان عبد الرزاق السامرائي برئاسة الحزب، والشيخ إبراهيم منير المدرس بمنصب نائب الرئيس وعضوية كل من : فليح حسن السامرائي والمحامي فاضل دولان والشيخ عبد الجليل الهيتي ونظام الدين عبد الحميد وسليمان محمد أمين القابلي والشيخ طه جابر العلواني والشاعر وليد الأعظمي والمحامي عبد المجيد ذهيبة.
وبعد مرور ستة أشهر على تأسيسه نشر الحزب مذكرته الشهيرة التي دون فيها انتقاداته لسياسات عبد الكريم قاسم وقانون الأحوال الشخصية رقم 188 لعام 1959 الذي ألغى كل القوانين الإسلامية المتعلقة بقضايا الأحوال الشخصية، وقانون الإرث الذي ساوى فيه بين الإناث والذكور في الميراث مخالفاً الشريعة الإسلامية ، وللمذابح التي ارتكبت في عهده في الموصل وكركوك في جريدة (الفيحاء) . فتم على أثرها اعتقال جميع أعضاء المكتب السياسي مدة خمسة شهور ، وجرى التحقيق معهم في بناية محكمة المهداوي. وقد كان عبد الكريم قاسم ينتظر منهم استرحاما أو اعتذاراً ليطلق سراحهم فلم يتقدم أحد منهم بشيء.
وفي ليلة 27 رمضان 1380 هـ، منتصف آذار جمع عبد الكريم قاسم المعتقلين أعضاء المكتب السياسي في لقاء بمقره في وزارة الدفاع واشتكى من مذكرة الحزب مدعياً انهم ظلموه واخذ يستعرض نشاطاته الخدمية للشعب وتبريراته لما يعترض عليه، كل ذلك وقيادة الحزب ترد عليه وتجادله بشجاعة واستمر اللقاء على هذا المنوال من التاسعة مساءً حتى الرابعة فجرًا إذن لهم بعدها بالانصراف إلى بيوتهم مع منع الحزب من العمل وإغلاق ومنع كافة مقاره ونشاطاته، وعاد إلى العمل غير العلني. واستمر نشاط الحزب الإسلامي في ستينيات القرن الماضي بين السر والعلن .
ذكر لي الأستاذ أديب إبراهيم الدباغ :
كان من عادة الزعيم عبدالكريم قاسم أن يرسل الى المسجونين من قبله للمثول بين يديه .. وفي احد الأيام استدعى الحاج سليمان القابلي ورفقاءه وأظهر استعداده بأن يساعدهم في كل شيء ، وحتى لمح إعطاءهم الوظائف التي يرغبونها وقال :
( أنتم مثقفون وعلماء وأعطيكم مناصب عليا بالدولة) .
وهنا انبرى له الأستاذ سليمان فقال له :
( لسنا طلاب مناصب ولا أموال ولا أراض ، ولكننا جند الله ندافع عن أمتنا وعقيدتنا ، لا نبغي بعملنا شيئاً ، وليعلم سيادة الرئيس بان الإخوان لا يمكن استدراجهم الى أسواق البيع والشراء والمساومة ).
ثم فاجأ الزعيم عبدالكريم قاسم بقوله :
( يا أستاذ يقول الله سبحانه وتعالى :) للذكر مثل حظ الأنثيين ( بينما أنت جعلت حظ الذكر مثل حظ الأنثى ، وفي هذا تبديل وتغيير لأحكام القرآن . فلمَن نسمع ونصدق أنت أم القرآن ؟!) (2) .
كتب لي الاستاذ الدكتور محسن عبدالحميد :
كان الأخ سليمان القابلي قدوتنا في العمل والإخلاص والتضحية والتواضع وجدير بي أن أتحدث قليلاً عن هذه الشخصية الربانية التي كانت ترجو اليوم الآخر في كل لحظة من لحظات حياتها .
حدثني الأخ سليمان قال : كنت طالباً في كلية الحقوق عام 1945 م وكنت أتجول يوماً في سوق الاعظمية ، فالتقيت بأخيك نظام الدين الذي كنت أعرفه عندما كنا طلاباً في المتوسطة الغربية في كركوك ، فقال : يا سليمان يوجد قريب من هنا درس إسلامي يلقيه أحد الأساتذة المصريين ، تعال معي لكي نذهب اليه ، فقلت : أنا مشغول لا أستطيع المجيء ، قال : فشد على يدي وجرني بقوة فاضطررت أن اتبعه ، فلما دخلنا وجدنا جمعاً من الشباب مع أستاذ مصري يلقي درساً إسلاميا شدني اليه جداً ، فلما سألت عنه ، قال نظام الدين هذا هو الدكتور حسين كمال الدين من تلامذة الأستاذ حسن البنا المرشد العام للإخوان المسلمين ، قال فواصلت الحضور وكان هذا بداية دخولي في جماعة الأخوان المسلمين ، ومن معالم شخصية الأخ سليمان تحمل المسؤولية وحده ، حدثني الأخ الدكتور عابد توفيق الهاشمي أن تنظيم الأخوان المسلمين في كركوك تكون في بداية الأمر من عدد من الأفراد كان الأخ سليمان القابلي واحداً منهم ، وكان يقول لنا : أن دخل علينا الأمن ليعتقلنا قولوا أن مسؤولنا هو سليمان حتى لا تتعرضوا إلى الأذى جميعاً ، يقول : بينما لم يكن هو المسؤول الأول .
ومن مواقفه صدقه مع الله تعالى ، ومظهر ذلك أنه لما كان كاتباً للضبط في المحكمة الشرعية في كركوك ، نبه القاضي عبد الواحد الهيتي في أحدى مرافعات إيقاع الطلاق أن المترجم يخطئ في ترجمة لفظ الطلاق من اللغة الكردية إلى اللغة العربية ، أي أن الطلاق ليس واقعاً ، فظل القاضي ينبهه أن المترجم الرسمي المسؤول لا أنت ، فأضطر سليمان أن يكتب قرار الأيقاع ، ولكن لم يكن مرتاح الضمير ، لأن القرار الخاطئ من وجهة نظره كتب بقلمه ، وكان الوقت وقت الصيف من شهر رمضان المبارك ، ولما رجع سليمان إلى البيت أراد أن ينام فلم يستطع ، فرجع في ذلك الحر إلى بناية المحكمة وأخرج الأضبارة المتعلقة بإيقاع الطلاق فمزقها ثم أحرقها .
سألت القاضي عبد الواحد الهيتي عندما نقل إلى بغداد عن هذه الحادثة فقال : لما رجعت في اليوم التالي إلى المحكمة طلبت الأضبارة لإصدار الحكم النهائي والتوقيع عليه دخل عليَ سليمان ، فقال : أحرقت الأضبارة ، قال : سيطرت على غضبي في هذه المخالفة القانونية الصريحة الصارخة فطلبت من رئيس المحكمة نقله إلى شعبة أخرى ، لأنني كنت أعرف سليمان معرفة جيدة في صفاء قلبه وصدقه مع ربه وخوفه من عذاب الآخرة ، فغفرت له ذلك ، ولم أدع أن يصبيه أذى .
وأما عن مشاعره الأخوية تجاه أخوانه ، فقد روى لي أخوة لنا أن أثناء هجوم الجيش العراقي على المناطق الكردية في كركوك عام 1991 م خرج الأخ سليمان وحده من بيته مخترقاً مناطق القتال والنار والمخاطر يسأل عن أخوانه من العوائل الكردية التي كان معظم أفرادها تركوا بيوتهم ، وكان يريد أن يعلم ماذا جرى لهم ، وهل يحتاجون إلى المعونة وهل هم باقون على قيد الحياة أم لا .
هذا هو سليمان القابلي من خلال شخصيته الإيمانية فهمنا معنى الإسلام والأخوة والإخلاص والانضباط الدعوي .
والحق أن المبادئ العظيمة لا يظهر أثرها إن لم تتجسد في رجال صادقين يؤمنون ويخلصون لها ويضحون من أجل تمكينها وأسعاد الناس بها .
وكم قدمت الحركة الإسلامية المعاصرة من نماذج عالية وقدوات راسخة في الأيمان والأخلاص والشجاعة والإقدام والتضحيات الهائلة في سبيل إحقاق الحق ونشر العدل وإسعاد البشر .
وفي مقابلة الاستاذ إحسان قاسم الصالحي مع الاستاذ احمد رمضان احد طلاب رسائل النور يومي 11و26/10/2011 في اسطنبول وملاطيا:
في ختام اللقاء ذكرت له ما كان يذكره الأستاذ سليمان القابلي في كركوك وسمعته منه ؛ أنه قال:
" كنت أبيت عند أحمد رمضان لدى سفري إلى بغداد ، فكنا نصلي الفجر معاً وبعد قراءة الأذكار وقبل طلوع الشمس بقليل كان أحمد رمضان يصعد إلى السطح يومياً. وفي أحد الأيام قلت له: ما هذا العمل؟ هل أنت تعبد الشمس فتصعد السطح مع طلوع الشمس؟ فسكت. ولما أصررت عليه وألححت بالجواب قال: إنني أجد يومياً ربع دينار عراقي في السطح وهو ما يقابل قوت يومي ".
قلت له: ما حقيقة هذه الرواية؟ قال: إنها صحيحة ولكن انقطع عني ذلك المبلغ بعد ما ذكرته للأخ سليمان. ولما ذكرتها للشيخ فؤاد الآلوسي ، قال: لأنك قد أفشيت السر.
وعندما سألت استاذي احسان الصالحي عن الحاج سليمان القابلي ، كتب لي :
" لقد أثر فينا الاخ سليمان تأثيراً بالغاً ولكن سرد هذا الامر اعجز عنه في الوقت الحاضر. وأول ما تأثرت منه وفي مقدمتها الانسلاخ من التعصب القومي .. وبدأ يستقر في النفس حب الله ورسوله وحب المسلمين عامة وترك كراهية الاقوام الاخرى بل كان أعز الاقربين إليّ من قوميات أخرى والحمد لله على سلامة الصدر هذا ببركة الاخ سليمان
ثم تعلمت منه التعظيم : تعظيم حرمات الله وتعظيم الرسول (صلى الله عليه وسلم) وتعظيم كل ما يمت الى الاسلام من صلة وكان يقوم بكل عمل بعفوية تامة دون تكلف او تصنع قط ولا يحمل لأي مسلم في قلبه حقدا ولا ظغينة ورغم انه كان كثير المزاح الا انه كان شديداً جداً في مواقف تخص الاسلام.
شجعني كثيرا على الترجمة وكان يعتقد جازماً ان (رسائل النور) ذات اهمية قصوى في هذا العصر بل حتى من الكتب الاسلامية المنتشرة بين الايدي في ذلك الوقت وكنا نعقد بعض الدروس النورية في بيته.
وكان ينبهني الى الاغلاظ التي اقع فيها واحياناً يقول لي: يا اخي هذه الفقرة فيها رائحة الترجمة او فيها ركاكة ، وقد قرأ اكثر الترجمات قبل طبعها وما اسمع الآن من اساتذة كبار في العربية والادب العربي من مدح وثناء على الترجمة يعود فضلها الى الله سبحانه ثم الى الاخ سليمان الذي كان عنده حاسة غريبة في معرفة رائحة العجمة وقد نبهني اليها كثيراً .
ويخطرني الآن الآتي :
في ليلة من الليالي انا والمرحوم اورخان محمد علي كنا نناقشه حول سقوط الاتحاد السوفييتي وانهيار الشيوعية وكنا فرحين به فكان يقول لنا لا تفرحوا كثيراً فان امريكا تتتولى الموقف وحدها في الميدان دون منافس وهي تعادي الاسلام واحتدم النقاش وطال كثيراً وكأننا افترقنا وبقي عليه شيء في قلوبنا لآننا افترقنا على سخط وقلب مثلوم.
وفي الصباح اتى الى البيت وكأن لم يحدث شيء أمس وقال والله عرفت انكما تناقشاني لله وانا والله يشهد كنت اتكلم لله فليس بيننا خلاف .
خواطر سليمان القابلي عن الشيخ أمجد الزهاوي :
كان سليمان القابلي يذكر شيخه الزهاوي بكل احترام وتقدير ، حتى انه لا يخلو مجلس من مجالسه إلا وذكره ، او أشار الى ان الشيخ فعل كذا وكذا ، او ان رأي الشيخ في هذه المسألة كذا وكذا ، وكان يشير الى تاريخ الواقعة او الحادثة مع ذكر أسماء الحاضرين في المجلس . وهذه بعض خواطره عن شيخه علامة العراق الشيخ أمجد الزهاوي :
(1)لهجة الشيخ الزهاوي:
كان يتكلم بلهجة بغدادية أصيلة ، ولا يتقعر في الكلام ، وانما يخرج كلامه العربي بلهجة بغدادية صرفة (3) .
(2)الخط العربي ومنزلته عند الشيخ :
وقد لاحظ القابلي وطلاب الشيخ أن شيخهم كلما رأى علبة سجائر تركي يلتقطها من الأرض، فسألوا عن ذلك ، فأجاب الشيخ: ألم تروا ما كُتب على العلبة؟ أليس هذا لفظ الجلالة؟ وأشار إلى اسم صاحب الشركة (عبدالله لطفي) المدون على كل علبة سجائر، فلما علم صاحب الشركة بذلك بدل اسمه من «عبدالله» إلى «عبود »(4).
(3)علمانية التعليم :
كان على رأس إدارة المعارف والمدارس في العراق أيام الملك فيصل الأول رجل علماني اسمه ساطع الحصري (5) ، وأحس علماء بغداد انه يوجه معارف العراق وجهة غير إسلامية ، فشكلوا وفداً وقابلوا الملك فيصل الأول وافهموه انهم لا يرضون ببقاء هذا الرجل موجّهاً لسياسة وزارة المعارف ، وإلاّ هيجوا عامة الناس وخاصتهم على الدولة . فقال الملك : (إن هذا الأمر هيّن جداً ، لا يستحق كل هذه التعقيدات ، وان شاء الله سنحقق طلبكم ) .
ومرت الأيام والشهور وساطع لا يزال في منصبه ، فعاد العلماء لمقابلة الملك لاستيضاحه عن سبب عدم تنفيذ ما وعدهم به . فقال لهم : ( إن الانكليز مصرّون على بقاء ساطع في منصبه في الوزارة ، بل لقد قالوا لي : ( لك أن تغيّر جميع المدراء العامّين في جميع الوزارات ، إلاّ ساطعاً ) .
ثم قال الشيخ : انظروا مدى ما يولي أعداء الإسلام التوجيه التربوي والعلمي والإعلام من أهمية(6) .
(4)تبليغ الدعوة المباركة :
كان الشيخ امجد يستغرب ركون علماء عصره الى التأليف والشرح وترك الدعوة الى الإسلام وعدم إهتمامهم بمصالح المسلمين . وكان يكرر هذا على مستمعيه ، وقد خاطب الشباب في مسجد أبي حنيفة بالاعظمية بقوله :
(مما يؤلمني أني قضيت أكثر عمري أعمل في أمور فقهية ، وقد غفلنا عن أمر عظيم جداً ، وهو تبليغ هذه الدعوة المباركة ، دعوة محمد صلى الله عليه وسلم ، لان هذا الأمر غاية مبعث الرسول صلى الله عليه وسلم ، لذا أطلب منكم ايها الشباب ان ترفعوا راية الجهاد بالدعوة الى الله ) (7).
(5)تفسيره للرؤيا :
حدثني أستاذي إحسان قاسم الصالحي – مدير دراسات وبحوث رسائل النور باسطنبول – خواطره عن الحاج سليمان قائلاً :
(حدثني الأخ سليمان القابلي ان شيخه الزهاوي قال له أثناء إحدى الدروس العلمية : هل تحب السلطان عبدالحميد ؟. فقلت له: نعم .. ولكنني اندهشت عن سبب سؤاله هذا ، فإذا احد الأشخاص يأتي ويقص على الشيخ انه رأى في منامه ان الرسول صلى الله عليه وسلم حيّ يتجول في الأناضول ، وأراد تفسيره ، ولم يرد الشيخ على السائل واستمر بالدرس ، وإذا بأحد الإخوة وهو محام ٍ من شباب الكرخ يدخل ويقول : إن الأذان بالعربية قد أُعيد في تركيا بعد منع طويل .. فالتفت اليه الشيخ رأساً وقال له : الله يخليك .. هذا هو تفسير رؤياك) .
(6)توعية الأمة الإسلامية :
(إن الدرس في هذه الظروف الحالكة المحيطة بالعالم الإسلامي من ضعف العدة ،وتفرق الكلمة، وتكالب الدولة المعادية للأمة الإسلامية ليس في مصلحة المسلمين، بل الأفضل هو العمل على جمع الكلمة ، ووحدة الصف ، والعمل على توعية الأمة الإسلامية على الخطر المحيط بها . والاستعداد للجهاد في سبيل الله خير من الدروس والتأليف ، إلقِ بنفسك في عباب العمل ، وكوّن جماعات تعمل على توعية المسلمين فكرياً، وإرشادهم الى التعاليم الإسلامية ، وغرس روح الثقة بالله في النفوس المؤمنة ولمّ شمل الأمة الإسلامية على عقيدتها ، تحت راية واحدة ، لتعود كما كانت ، خير أمة أُخرجت للناس )(8).
(7)العلم والقوة :
وفي لقاء مع علال الفاسي (9) والذي حضره القابلي ، سأل الفاسي الشيخ الزهاوي عن عمه جميل صدقي الزهاوي ، الشاعر العراقي المعروف ، فأجابه : بأنه يخالفني الرأي .
وذكر الشيخ امجد بأنه جرى بينه وبين عمه الشاعر نقاش عن كيفية إعادة الحكم الإسلامي ومجد الإسلام ، فكان عمه يقول : العلم .. العلم هو الذي يعيد مجد الإسلام ، اما الشيخ فكان يقول : القوة .. القوة .. كن قوياً تجد العلماء والأدباء وغيرهم من أهل العلم والأدب كلهم مجتمعين حولك يخدمونك(10) .
وكان الشيخ يقول :
(ان حاكماً متردداً واحداً يقضي على الأمة وعلى آمالها كلها ، اعمل واخطىء ولا تتردد . وهذا طبعاً ليس في أمور الحلال والحرام والعقيدة ، وانما في الأعمال الحربية والسياسية ومصالح المسلمين الأخرى )(11) .
وكان الشيخ يستشهد دائماً بمواقف بعض الأقوياء ، من قادة وأفراد ، فقد تحدث مرة الى بعض الشباب عن قوة المؤمنين قائلاً :
(بعد ان احتل الانكليز بغداد كان من بين جنودهم مسلم هندي سمع احد البغدادببن يسبُّ الرسول محمداً صلى الله عليه وسلم في الطريق ، فهجم عليه وقتله .
وعندما حكم على الهندي بالإعدام وسيق الى المشنقة أسرع مهرولاً وهو يصيح : الله اكبر .. الله اكبر .. الله اكبر .. لا إله إلا الله محمد رسول الله ، وتعلو وجهه الفرحة ، وصعد الى المشنقة وهو واثق انه ذاهب الى الجنة )(12).
(8)سيطرة الغرب على العالم الاسلامي:
ذكر لنا الحاج سليمان القابلي يوماً نقلاً عن شيخه الزهاوي :
لقد حضرت المؤتمر الإسلامي الذي عقد في باكستان عام 1953 ، ودار الحديث بشأن سيطرة الغرب على العالم الإسلامي، وكيفية التخلص منها ، فكان جميع المؤتمرين متهيبين من قوة الغرب إلا ممثل الأفغان الذي استغرب هذا التهيب وعجب من تخوف الأعضاء، لذا فكرت في الأمر ، وقلت في نفسي : إن هؤلاء الأفغان لم يروا طوال تاريخهم سيطرة أجنبية ، فلذا هم يختلفون عن بقية المسلمين ، فدخول الجيش الأجنبي الى البلد يؤثر على عقلية أهله .
(9)رأيه في التكفير:
كان الشيخ أمجد الزهاوي يركز دائماً على الوحدة والتآلف ويكره القيل والقال والخلاف .
وما كان يكفر أحداً من الفرق الإسلامية من السنة ، او السلفية ، او المرجئة ، او الصوفية ، او الشيعة ، وكان دائماً يكرر قوله :
( الله يخليكم .. الذي يختلف في تأويل القرآن ليس كالذي يختلف في القرآن نفسه .. التكفير أمر عظيم .. لا تتسرعوا في تكفير أحد .. إن الامر ليس سهلاً .. ما يصير .. ما يصير ) (13) .
(8)السلطان عبدالحميد الثاني:
تهجم اثنان على السلطان عبدالحميد الثاني في احد المجالس ، وكان الشيخ أحد الحاضرين ، فغضب ، واسكتهما قائلاً :
(ان السلطان عبدالحميد كان حاكماً مسلماً ورعاً شديد الغيرة على مصالح المسلمين ، وان الدنيا لم تشهد حاكماً مسلماً مثله في العصر الحديث ، أنتم يا أهل المكاتب – خريجي دار المعلمين – أفسدتم عقائد الطلاب ) (14).
رحم الله أستاذنا الحاج سليمان القابلي وادخله فسيح جناته .
الهوامش :
(1) انظر : الدباغ ، ايمان عبدالحميد : الإخوان المسلمون في العراق 1959- 1971،دار المأمون ، عمان ، 2011 ، ص94-96 .
(2) والحادثة ذكره لي كذلك : الا ستاذ عابدين رشيد وذكره المحامي فاضل دولان في لقاء صحفي معه . وقد ذكرت الحادثة في مجلتي الرحيق ، العدد ، 4 السنة الثانية ، كركوك ، أيلول 2004 .
(3)المشايخي، كاظم احمد ناصر ، (الإمام امجد بن محمد سعيد الزهاوي )، ص 110 ، المعهد العالمي للفكر الاسلامي .
(4) المصدر نفسه ص 132 .
(5) ساطع بن محمد هلال الحصري، أبو خلدون(1883 - 1968 م): كاتب باحث، من علماء التربية. تترك ثم تعرب. حلبي الأصل. ولد بصنعاء. وكان والده رئيس محكمة فيها، تعلم في إسطنبول، وتنقل في التعليم والإدارة . وصنف أكثر من 50 كتابا عربيا كان أصدقاؤه يساعدونه في إصلاح لغتها قبل الطبع. منها (مبادئ القراءة الخلدونية) و (دروس في أصول التدريس) و (العروبة أولا) و (الدفاع عن العروبة) و (مذكرات عن العراق) و (دراسات عن مقدمة ابن خلدون) جزآن، و (آراء في التاريخ والاجتماع) و (آراء في التربية والتعليم)( انظر : الأعلام ج3/ص70 ، للزركلي ، دار العلم للملايين ، 2002)
(6) الإمام امجد بن محمد سعيد الزهاوي،ص180 .
(7) المصدر نفسه ، ص 219
(8)المصدر نفسه ص 230
(9) علال الفاسي (1908 - 1974 م) زعيم وطني، من كبار الخطباء العلماء في المغرب.
(10) الإمام امجد بن محمد سعيد الزهاوي،ص235 .
(11) المصدر نفسه ، ص236 .
(12) المصدر نفسة ،ص 238 .
(13)المصدر نفسه ،ص 248-249