حبيب بولس كما عرفته
سيمون عيلوطي
حين تلقيتُ نبأ وفاة الصّديق الدكتور حبيب بولس، تسلّل إلى احساسي بلوعة الفقد والحسرة، شريط رأيته يدور أمامي بصور أعادتني إلى بداية توطَد علاقتي به سنة 1986 ، فظهر أمامي بوجهه الوسيم وطلعته البهيّة وبسمته التي لا تفارق ثغره، وتقاطرت إلى ذاكرتي تلك المحادثة الهاتفيّة، يوم اقترحتُ عليه أن يقوم بافتتاح وتقديم "مهرجان الفن القطري الأول" الذي أشرفتُ على ادارته آنذاك بتكليف من صاحبيه " فرقة احياء الفلكلور ألفلسطيني بقيادة الفنان فوزي السعدي ، "والمؤسسة الشعبيّة للفنون" التي كان يرأسها الشاعر سميح القاسم.
استقبل عرضي بترحاب، ومن أجل مناقشة التفاصيل، اقترح أن نلتقي في اليوم التالي في "مطعم الصداقة" في الناصرة.
شريط الصور لم يغادر ذاكرتي..استمرّ في الدوران .. ثمّ توقّف عند لقائنا الأول الذي يعود إلى سنة 1978 ، حين قمتُ بمرافقة الشاعرين سالم جبران وطه محمد علي إلى قرية معليا، للمشاركة في ندوة أدبية دعا إليها الكاتب عصام خوري ، ويشارك فيها هناك أيضًا الباحث اللغوي إلياس عطا لله والناقد حبيب بولس.
أخذتني الصور إلى موعدنا في "مطعم الصداقة"، للتشاور في موضوع تقديمه للمهرجان المذكور آنفًا، وما أن جلستُ قبالته حول المائدة ، حتى أخذ يحدّثني عن الأدب الشعبي وعن قصائدي العاميّة التي أنشرها في بعض الصّحف والمجلات الأدبيّّّّّّّّة، وأن هذا النوع من الأدب يسحره ويدهشه لشدّة ارتباطه بالأرض والإنسان، وبأنه لم يرَ في الشعر العربي وربما العالمي شعرًا يصوّر بأربعة أبيات قصّة كاملة مثل بيت "العتابا" وبأنّه يفكّر أن يخصّ هذا الأدب بدراسة يستحقّها.
حديثه الشّائق افقدني الشعور بمرور الوقت، وما أن هممتُ أن أوضّح له انشغالي بالتزامات أخرى، والأجدر أن نحدّد موعدًا آخر ، حتى رأيته يقف ويقول بصوته الجهوري العذب : الوقت لا يرحم ... ينتظرني موعد آخر ... واتّفقنا على أن نلتقي في اليوم التالي بنفس المكان.
لم استطع بعد هذا اللقاء أن أميّز بين حديثه وكتاباته ، فهو بكل الأحوال يدهشك بسعة اطلاعه وثقافته الموسوعيّة، ولا شك أن أبحاثه القيمة خاصة حول القصة والشعر ، شكلّت في حركة النّقد الفلسطيني نقلة نوعيّة أخرجت النقد من باب العلاقات العامة، إلى النقد الموضوعي المتوازن، بحيث لم يعد من الممكن دراسة أدبنا الفلسطيني دون اعتماد الدّراسات النقديّة للدكتور حبيب بولس.
أعادتني الصور إلى لقائنا في اليوم التالي، أطلعته على كل ما يتعلق بالمهرجان وبأننا لم نجد أفضل من حبيبنا حبيب ليتولّى إدارة أمسيته الافتتاحية. راقته الفكرة، ولا أبالغ إذا قلت أن أسلوبه بعرض فكرة المهرجان، والطريقة التي قدّم فيها فقراته، دلّت على مقدرة برزت فيما بعد في برنامجه التلفزيوني "بين الكلمات" الذي التقى خلاله مع عشرات الكتاب والمبدعين الفلسطينيين.
الصورة التي أربكتني وجعلتني أقف حائرًا في شأنها ، كانت تلك الصورة التي التقطّها له العام الفائت في احدى مدارس المشهد التي جمعتنا مع كوكبة من الأدباء لتقديم محاضرات بمناسبة يوم اللغة العربيّة ، بدت ملامحه في تلك الصورة تعبة بشكل لم يظهر على ملامحه خارج الصورة، اعتقدتُ أن هذه الصورة غير موفّقة .. التقطت له صورة ثانية وثالثة ورابعة ، وفي كل صورة كانت تظهر على وجهه نفس الملامح التعبة، سألته:هل أنت متعب؟ أجاب: بين الحين والآخر أشعر بألم ..ولكنني أعرف كيف أتغلّب عليه ، لا تخف: عمر الشّقي بقي.
لم يمضِ شهران على ذلك اللقاء حتى تلقّيت اتّصالا من الصّديق بروفيسور سليمان جبران يسألني إذا كنت أريد مرافقته لعيادة صديقنا الدكتور حبيب بولس في بيته؟ أجبته دون تردد : صدقت الصورة كما أفهم! قال: بكل أسف صور الأشعة أثبتت اصابته بالدّاء الخبيث.
وداعا ايها الأديب البارز والخالد في ثقافتنا .