الشيخ محفوظ نحناح في ذكراه
ثراء التجربة ومسؤولية التوثيق
جمال زواري أحمد ـ الجزائر
لقد آليت على نفسي أن أكتب مقالا حول حياة الشيخ محفوظ نحناح رحمه الله ، كلّما حلّت ذكرى رحيله ، وهذا من أقلّ حقوقه علينا كأبناء للحركة التي بذر بذرتها الأولى ، وسقاها بجهده وجهاده وفكره واجتهاده ، وقد تمحورت مقالاتي السابقة حول مناقبه وفضائله وهي أكثر من أن تحصى وأوسع من أن تحصر، لكن هذه المرة أريد أن أتطرّق إلى جانب آخر مهم يتعلّق بتراث الشيخ العلمي والفكري وتجربته التطبيقية والعملية ــ وإن كان الأمر لا يخلو بدوره من المناقب والفضائل ــ .
لقد كان لهذا التراث الزاخر والتجربة الثرية أثرهما البالغ الذي لم يقتصر على الجزائر كوطن والحركة كتنظيم ، بل امتد إلى العالم الإسلامي أجمع ، لأن الشيخ كان أكبر من كونه رجل حركة وجماعة وتنظيم وفقط ، بل كان رجل أمة ووطن ، فقد عمل وقدّم وضحّى وأنتج وأبدع وزرع ومكّن وفتح قلوبا وعقولا وحصونا للحق والخير والفضيلة ، كما أنه علّم ودرّس وحاضر وحاور وأصّل وشرح وأصلح وبادر وناقش وأقنع وأوضح وجلّى ، وسافر وطاف كل ربوع الدنيا ، عارضا لدعوته خادما لفكرته منافحا عن دينه وأمته ووطنه . فقد كان الشيخ محفوظ كتابا مفتوحا متنوّع المواضيع متعدّد المواهب ، تجد فيه من كلّ بستان باقة أزهار وليس زهرة واحدة ، جمع فيه ما تفرّق في غيره ، جهادا وإنجازا وإبداعا على كل الجبهات وفي كل المجالات ، فقد كان له في كل ساحة أثر وفي كل ميدان بصمة وفي كل زاوية نور.
فشخصية فذة مثل شخصيته بما تحمله من صفات وخصال وإنجاز وتميّز وتنوّع ، جعلت منه كاريزما دعوية وسياسية واجتماعية ، سواء داخل الحركة والصف الإسلامي عموما ، أو على مستوى المجتمع والوطن ككل بمختلف فئاته ، وإن على مستوى الأمة وقضاياها ، وكذلك الدعوة العالمية ونشاطاتها وفعالياتها ومؤتمراتها ومؤسساتها ودعاتها وأبنائها .
فكان لإسهامات الشيخ هذه واجتهاداته وإبداعاته اليد الطولى في ترشيد وتوجيه الصحوة والحركة الإسلامية وتسديد خياراتها ومواقفها الدعوية والسياسية وإثراء حتى قاموسها المفاهيمي والمصطلحي ، الأمر الذي جعله لا يقلّ إبداعا واجتهادا ومساهمة وتجربة على روّاد ومؤسسي الحركة الإسلامية العالمية بداية من الإمام البنا ومرورا بالسباعي والصواف والياسين ويكن وكذا الإمام المودودي وأربكان وغيرهم.
فأين هي كل هذه الإبداعات والمبادرات والإسهامات ؟؟؟
وأين هي كل هذه المحاضرات والدروس والحوارات ؟؟؟
وأين هو كل هذا التراث والتجربة ؟؟؟
وأتساءل كما يتساءل غيري : ماذا كان يفعل مرافقو الشيخ والمقربون منه أثناء مصاحبتهم إياه في حلّه وترحاله داخليا وخارجيا ، وقد عجزوا عن توثيق وتدوين وتسجيل ما رأوه وسمعوه بالشكل الكافي ، لحفظ كل ذلك للأجيال ؟؟؟
لأننا نخشى أن يكون الشيخ رحمه الله بمجرد أن انتقل إلى جوار ربه ، تكون قد طويت معه الكثير من الإبداعات والتجارب والاجتهادات والمبادرات والأفكار والإنجازات والمعلومات والأسرار وإلى الأبد ، كان يمكن أن يستفاد منها الشيء الكثير ، وتغني رصيدنا الحركي ، الفقير أصلا في هذا الجانب ، لو حفظت ووثقت وكتبت ودوّنت ونشرت.
لأننا ونحن نشير إلى أهمية تراث الشيخ الفكري وثراء تجربته العملية ــ وهو ما يعترف به الجميع ــ لا بد أن نشير كذلك إلى ما يقابل ذلك من مسؤولية توثيق هذه التجربة وحفظ هذا التراث ونشره إعلاميا ، حيث أن الأمر أصبح يشكل أكثر إلحاحا وضرورة وأولوية ، وغير قابل إطلاقا للتقصير والتأجيل والتبرير وصناعة الأعذار ، ويتطلب من الجميع ــ خاصة القائمين على شؤون الحركة ــ أن تتظافر جهودهم في تدارك الوضع وإنقاذ هذا التراث قبل فوات الأوان ــ هذا إن لم يكن بعضه قد فات عليه الأوان أصلا ــ ، وعدم الاقتصار على المظاهر البروتوكولية في إحياء ذكرى رحيله ، والانتقال إلى خطوات أكثر احترافية وشعور بالواجب والمسؤولية تجاه الرجل وتراثه وتجربته ، فكم كنا نتمنى ــ ونحن نعيش أجواء الذكرى التاسعة لرحيله ــ أن نرى على الأقل الأعمال الكاملة (من محاضرات ودراسات وشهادات ومداخلات كقراءة في فكره وتجربته) للملتقيات الدولية الثمانية ــ ونحن في التاسع ــ المنعقدة منذ وفاته ، مطبوعة وجاهزة على شكل كتب ومجلدات ، تكون في متناول أبناء الحركة والدارسين والمتابعين والمهتمين من ناحية ، وتحفظ للأجيال من ناحية أخرى كسائر ملتقيات الدنيا.
لأننا نخشى هنا كذلك أن يكون هذا التراث والمادة المقدمة خلال ثمانية أو تسعة ملتقيات قد ضاعت أو فقدت أو بعضها على الأقل ، لنكرر النداء للقائمين على شؤون الحركة بضرورة طبع أعمال هذه الملتقيات وهو من مسؤولية التوثيق التي نتحدث عنها في هذا المقال.
كذلك من مسؤولية التوثيق هذه ، والاهتمام الواجب بتراث الشيخ وتجربته ، أن نرى كذلك موقعه الرسمي الخاص على الانترنت ، الحافظ لتراثه وتجربته ونشاطاته ومساهماته ورحلاته وصوره ، ليكون متاحا للعالم أجمع ، حتى لا يشكّل الشيخ رحمه الله نشازا لمعظم قادة وعلماء ودعاة العالم الإسلامي الأحياء منهم والأموات ، الذين لهم مواقعهم الخاصة بهم والجامعة لإنتاجهم العلمي والعملي.
لأن القصور في توثيق التجربة ، سيؤثر سلبا على حسن تسويقها إلى الآخرين في داخل الوطن وخارجه ــ وهو الحاصل للأسف ــ ، لذلك ليس مستغربا أن تسمع في الحصص التحليلية في الفضائيات منذ سنوات ، وتقرأ في الجرائد والمجلات والدوريات ، وتتصفح مواقع الانترنت ، وتتطلع على تقارير مراكز الدراسات ، الراصدة لتجارب الحركات الإسلامية وقادتها ومفكريها ، فتجد التحليل والحديث والتقييم والثناء على تجارب إسلامية في المغرب واليمن والأردن ومصر وتونس وموريتانيا وتركيا وماليزيا واندونيسيا وحتى جزر المالديف ، ويضرب بها المثل الإيجابي ، أما عندما يصل الأمر عندنا في الجزائر لا نذكر إلا على سبيل المثل السيئ ، ولا يشار إلا إلى الجوانب السلبية ، أو يتم تجاهل التجربة تماما ، أو يتم التوقف عند بداية التسعينات من القرن الماضي ، ولا تكاد تسمع اسم الشيخ محفوظ يتردد في كل ذلك إلا ما ندر ، وكأنه لا وجود لشيء إيجابي في تجربة الحركة في الجزائر ، رغم أنها أغنى وأثرى وأنضج بكثير من معظم التجارب التي ذكرتها من قبل ، ولكن اللوم في الأول والأخير يقع على أصحاب التجربة وورثة الشيخ وتلاميذه ، لأن لديهم خلل في التدوين والتوثيق والتسويق ، بحيث لم يحسنوا الحديث عن أنفسهم ، كما أنهم لم يسوّقوا تجربتهم إلى الآخرين كما ينبغي ، الأمر الذي ولّد جهلا بالتجربة ، أو وصلت الصورة في كثير من الأحيان مشوّهة أو ناقصة أو قاصرة ، ويعلوها الكثير من والغبش ولا تفي بالغرض.
فلا بد أن نعترف ونؤكد بشكل صريح أن من إشكالياتنا الكبرى كأبناء للحركة الإسلامية الجزائرية ، أننا في الكثير من الأحيان لا ندرك نفاسة ما عندنا ، ولا نحسن الحديث عن أنفسنا ، فالسلعة التي لا تجد عارضا جيدا خبيرا ، سيصيبها الكساد والبوار والزهد فيها مهما كانت نفاستها ، أو يتم تجاهلها وعدم الاهتمام بها أصلا.
لذلك نجد الكثير من أعلامنا وعلمائنا ومفكرينا ودعاتنا ينطبق عليهم ما قاله الإمام الشافعي عن الإمام الليث بن سعد المصري رحمهما الله:(الليث أفقه من مالك ، ولكن ضيعه قومه).
فكم من عالم نحرير دفناه بجهلنا وتقصيرنا، وكم من داعية بارع أهملناه بمنطق :(مغنية الحي لا تطرب) ، وكم من مفكر مبدع ضيعناه وزهدنا فيه بسبب ما نعانيه من شغف مبالغ فيه بكل ما هو وافد على حساب ما هو بين أيدينا .
هذا الأمر جعلنا لا نعرف قيمة مالك بن نبي رحمه الله ، إلا بعد عناية أهل الشام ومصر وشرق آسيا(الماليزيون تحديدا) به وبفكره ، ولا ندرك قيمة ابن باديس والإبراهيمي والورتلاني رحمهم الله ، إلا بعد اهتمام إخواننا المشارقة بهم ، ولم نهتم وننتبه ــ بالشكل الكافي ــ لمحفوظ نحناح رحمه الله ، إلا بعد المقالات والشهادات التي سطرها دعاة العراق ومصر والخليج والشام واليمن والمغرب في إبداعاته واجتهاداته الدعوية الموفقة بعد موته، ــ هذا إن كان هناك معرفة واهتمام وإدراك وانتباه يمكن أن يذكر ــ وقد وصدق الإمام ابن باديس رحمه الله لمّا قال:(( إنما تقاس درجة الأمم بما تنتجه من الرجال ، وإنما تكون منجبة للرجال يوم تصير تعرف أقدار العاملين من أبنائها)).
وكأن الأستاذ مالك بن نبي رحمه الله كان يدرك ويعي هذه الحقيقة المرة ، لما أوكل مهمة نشر تراثه الفكري وكتبه من بعده إلى المحامي والوزير اللبناني عمر مسقاوي ، وكذا ترجمة أغلب كتبه إلى العربية من طرف الدكتور عبد الصبور شاهين رحمه الله ، ولم يوكل ذلك لأحد من الجزائريين.
إن تصحيح هذا الوضع والتحرر من هذا الانطباع وتجاوز هذا التقصير ، في حق أعلامنا الكبار وفي مقدمتهم الشيخ محفوظ رائد مسيرتنا الدعوية والحركية ، وما يمثله تراثه من هوية فكرية ومفاهيمية للحركة ، إضافة إلى أصالتها وتجربتها العملية ، يعتبر من واجبات الوقت المهمة التي لا تحتمل التأخير أو التسويف ، وفاء للرجل وخدمة للأمة وتوريثا الأجيال ، لأن
ثراء تجربة الشيخ وغزارة تراثه وعمقه ، تحتم على أبنائه وخلفائه ومحبيه مسؤولية كبرى في توثيق ذلك وتدوينه ونشره وتسويقه .
فما أعظم الكتلة الجمالية لهذا الرجل ــ كما سمّاها الشيخ الراشد ــ لو وجدت من يستجمع كل مكوّناتها ويبرزها بشكل أكثر جلاء ، لأن الشيخ محفوظ رحمه الله من الرجال الذين ينطبق عليهم بامتياز ما قاله المرشد عمر التلمساني عن الإمام حسن البنا رحمهما الله :(( حسن البنا كلما باعدت الأيام بيننا وبين يوم استشهاده ازدادت شخصيته وضوحا وإشراقا وإثارة نور وبهاء .. إنه كاللوحة الفنية البديعة .. كلما ابتعدت عنها محملقا في روعتها كلما وضح أمام ناظريك رواؤها ودقة الإبداع فيها. وحقا ما مضي عام إلا ازداد تاريخ حسن البنا وضوحا في ميادين الدعوة الإسلامية ، وظهر ما أجراه الله من خير على يديه للإسلام والمسلمين)).
في الأخير لا يسعنا إلا أن نترحم على الشيخ في ذكرى وفاته ، ونعاهده على الثبات على منهجه ، والمضي قدما على خطاه ، للتمكين للأفكار التي جاهد في سبيلها ، ومات من أجلها ، إلى أن نلحق به ونحن على ذلك غير مبدّلين ولا مغيّرين ، متمنين من كل قلوبنا أن تقر أعيننا بتراثه الفكري وتجربته وما قيل عنه والقراءات المتعددة في فكره وأعمال ملتقياته التي عقدت ، مطبوعة بين أيدينا بثوب قشيب وحلّة بهية ، لينهل الجيل بكاملة مشرقا ومغربا من معينها الرقراق ، وتكون نبراسا هاديا للحركة الإسلامية في العالم العربي والإسلامي وهي في أمس الحاجة إليه في هذه المرحلة المفصلية والحاسمة ، وما ذلك على الله بعزيز.