الشاعر الإنسان إدريس حنبلة
شخصية عدنية من الزمن الجميل
أحمد علي عولقي
رغم ما يقال عن الوفاء انه من المستحيلات الثلاث وانه يشكل الركيزة الثالثة مع الغول والعنقاء .. إلا ان الحقائق تثبت غير ذلك وان الأمة لا زالت بخير وأنها تحمل الوفاء وانه يجري مجرى الدم في النفوس ومتأصل في القلوب والعقول والضمائر الحية .. باستثناء قلة من الناس معدومي الإحساس والضمير اصحاب القلوب الميتة المتعفنة .. ما أجمل ولا أروع من وفاء الإنسان لأخيه الإنسان في كل الأحوال ، وأجمل من ذلك حينما يكون لشخصية وطنية تركت بصمتها على ارض الوطن ..
ووفاءً وعرفاناً اكتب هذه السطور لمناضل وطني كبير من نوع فريد ، ورائد من رواد التربية والتعليم ، شاعر وكاتب من أبناء عدن الأبية الشامخة.. تفتخر عدن بروادها ورموزها وشخصياتها التي خدمت بإخلاص وأفنت حياتها من اجل وطنها وأمتها .. وبذلت الجهد والتضحيات الكبيرة 0
تسير بنا الأيام على خطى الرواد من المدعين ,ننهل من معينهم الذي لا ينضب ونقف على أطلال منابرهم التي لا يعرف النسيان لها طريق ، تتوحد الأحلام والطموحات والأهداف , ويجمعنا الانتماء والحب للوطن ، وعند ما نقرأهم إبداعا ونستظلهم خاطرة نشعر بأنهم يكتبوننا من الأعماق . الشاعر المناضل إدريس احمد حنبلة من بين تلك الأسماء المحفورة في الأذهان بعطاءاتها المخلصة في أكثر من موقع بدأت علاقته الوطنية في الحركة العمالية فقد كان رائد من روادها وساهم مساهمه فعاله في تكوين عدة نقابات وكان من ضمن قياداتها .. شارك في النضال ضد المستعمر البريطاني بالقول والفعل والكلمة كتابةً ونطقاً ، قبل إعلان الكفاح المسلح قاد المظاهرات وتزعم الإضرابات والمسيرات وألهبت خطاباته الثورية وإشعاره الحماسية جموع الجماهير الغفيرة المتظاهرة الرافضة بقاء الاستعمار البريطاني والمطالبة بالحرية 0
إدريس حنبلة مثله مثل كثير من ثوار العالم تعرض للاعتقال مرات عديدة 0 وكان يخرج من الاعتقال وهو اشد صلابة واقوي عزيمة وأكثر وطنية .. فشخصيته عصامية إلا انه يحب التحدي ولا يتراجع عن مواقفه ويفتخر بمبادئه ويعبر عنها في كتاباته بشموخ0
مسيرة حافلة بالعطاء للأستاذ القدير والمربي الفاضل إدريس حنبلة في مجلات عدة منها التربية والتعليم فقد تخرج على يديه أجيال متتابعة فقد كان مدرسا ومديرا لعدد من المدارس 0 وكما ذكرت ساهم في تكوين عدد من النقابات وساهم في كثير من النشاطات الثقافية والفنية والرياضية، ومن المؤسسين لحزب الشعب الاشتراكي 0 لهذا عند ما نتحدث عن قامة سامقة بحجم المرحوم حنبلة فإننا نتحدث عن تاريخ عريق ومشرَف لشخصية وطنية تربوية اجتماعية نعتز بها وتستحق منا كل الثناء والتقدير والوفاء فهو مثقف من فصيلة نادرة تستحق التعمق في دراستها وقراءتها، من خلال مواقفه النضالية ففي بدء الكفاح المسلح بعد قيام ثورة الشمال في 26 سبتمبر بقيادة المرحوم البطل عبد الله السلال تطوَر الكفاح المسلح في الجنوب بعد ان وجد الأرض والمناخ والمساندة والقاعدة التي ينطلق منها....
في بدء نشاط العمل الفدائي حُدث أمر جلل وخطير أدى بالبلاد الى شر مستطير، فقد تم اغتيال المواطن ابن الوطن علي حسين قاضي رئيس المؤتمر العمالي على اثر ذلك كرد فعل تم اغتيال المواطن ابن الوطن عبد الله السلفي احد قيادات النقابات الست ... ففي هذا الحدث كانت بداية المأساة التي تطورت فيما بعد الى كارثة الكوارث ومصيبة المصائب ، نعم بداية الاستهانة بقتل النفس وبداية حسم الخلاف بالقتل , بدية عدم قبول الرأي الآخر ، بداية الاقصاءات بداية التكتلات بداية كيل التهم والاتهامات الباطلة وإحقاق الباطل ومحق الحق ، توالت بعد ذلك الاغتيالات .. حتى أصبحت كلمة ( أطلق مجهولون النار على.. ) سمه مميزة نسمعها من إذاعة عدن في ذلك الوقت ... ذهب الاستعمار وتحررت البلاد ولكن المأساة ظلت حيه تمارس طقوسها بشكل عنيف فقد تأججت الاختلافات والاقصاأت وتحولت الى صراعات وانتهت الى تصفيات 0[ أرى تحت الرماد وميض نار... ويوشك ان يكون له ضرام ] 0
البداية كانت غلط – علي حسن قاضي مناضل ووطني بامتياز عبدالله السلفي كذلك مناضل ووطني وكلهم أبناء الوطن ،ولكن التعصب والإصرار على فرض الرأي والأفكار الدخيلة وعدم الوازع الديني والاستهانة والاحتقار بقتل شخص واحد تختلف معه ، فالقتل لا يأتي إلا بمزيد من القتل 0 صدق الشاعر..[ لا تحقرن صغيرة..إن الجبال من الحصى .. وإن النار من صغار الشرر ! ]
من خلال هذا الجو القاتم المخيف الملبد بالقيوم وتطور الانشقاق والخلاف بين ابناء الوطن الواحد الصغير فقد أدرك الأستاذ إدريس حنبلة منذ البداية حجم المأساة المقبلة على الوطن فلديه الكم الوافي من الثقافة والوعي والفهم والإدراك السياسي الصائب الذي يجعله يدرك ما ستؤول اليه البلاد0 من هنا اتخذ القرار كانسان يعرف قيمة الإنسان وكمربي ومعلم أجيال وأبن رجل فاضل معلم ومربي أجيال استمد من والده الاخلاق الحميدة ، وقبل ذلك كله فهو مسلم يعلم عظمة النفس الإنسانية التي كرمها الله وحرم قتلها .. أتخذ القرار الصائب ان يبتعد عن التنظيمات والجبهات والصراعات السياسية وتوجه الى الشعب فاخذ يخاطب الجماهير من خلال المسيرات والمظاهرات بشعره الحماسي لإيقاظ الروح الوطنية0
من أهم الأعمال الوطنية التي قام بإنشائها في وقت مبكر، بداية الخمسينات من القرن العشرين مركز للتوثيق ( مركز حنبلة للتوثيق ) هذا المركز يعد من أهم المعالم الثقافية والعلمية كما انه يعتبر من أقدم المراكز التوثيقية في الجزيرة العربية فهو ذا قيمة علمية وتاريخية كبيرة 0
وأنا اختصر واكتب عن هذه السيرة في عجالة عن شخصية وطنية كبيرة وأتعمق فيها وفي مسيرتها ... فكثير من رفاقه من القيادات العمالية سوى من المؤتمر العمالي او النقابات الست أو حزب الشعب الاشتراكي . منهم من انظم الى الجبهات المسلحة وانغمس في اتوانها وذاق حلوها أو مرها .. وبالتأكيد حتى من تذوق حلاوة النصر القذر لم يدم به الأمر طويلا فقد كان الثمن غاليا 0 وهناك من آثر الهزيمة النظيفة وفضلها على الانتصار المخضب بالدماء ، وتأتي النهاية المحزنة والمؤلمة اننا جميعا الخاسرين الوطن هو من دفع الثمن كم أم وأب فقدوا أبنائهم وكم زوجة فقدت زوجها وكم ابن فقد أبوه.. وكم أخت وأخ.. وكم .. وكم 0
إدريس حنبلة وطني ووحدوي من طراز رفيع كتب إشعار وقصائد عن الزعيم عبد الناصر وعن مصر العروبة قلعة الحرية وكتب عن الحلم العربي الشامل الوحدة العربية ، وعن الوحدة اليمنية التي حلمنا بها جميعا وفرحنا بتحقيقها فإذا بهذا الحلم يتحول الى كابوس يؤرقنا ويكتم على أنفاسنا بسبب نظام كامل فاسد ترك المفسدين يعيثون فسادا في كل شبر من ارض الجنوب 0
يبقى إدريس حنبلة الرقم الصعب في المعادلة الحسابية لدي مؤرخي التاريخ ، فقلة من الناس الذين كانت تؤرقهم حقائق التاريخ وفهموها بوعي كبير فخرج من بينهم من سطر انصع الصفحات وخلدوا مآثر بعدهم ومن تذكرهم ترحم عليهم بالدعاء والغفران والرحمة من الرحيم الرحمن .. منهم إدريس حنبلة اسكنه الله فسيح جناته ، عاش حميدا ومات عزيزا سعيدا وخلد ذكرا طيبا... الحديث لم ينتهي
دموع القلم
كلما أدبني الدهـــر أراني نقص عقلي .. و إذا ما زدت علما زادني علماً بجهلي
* شاعر يمني من مواليد عدن ولد 1922م.