غانم حمودات داعية فقدناه
غانم حمودات
داعية فقدناه
إبراهيم النعمة
القى هذه الكلمة الشيخ إبراهيم النعمة في حفل استذكار جهود الداعية غانم حمودات قي قاعة أمجد نوري في الموصل بتاريخ 28/4/ 2012.
قبل أن ابدأ بإلقاء كلمتي، أحب أن انوه ، إلى أن أولاد فقيدنا واقرباءه ومحبيه، لا يريدون أن يجددوا العزاء، ولا أن تذرف العيون الدموع بهذا اللقاء، بل يريدون أن تكون اسلوباً من أساليب تبيان دعوة الله كيف تكون، لعلَّ في هذا شحذا للهمم، وتقوية للعزائم لمواصلة الطريق الذي سلكه فقيدنا، وبهذا يكون فقيدنا داعيةً في حياته وبعد مماته، متمثلين بقول شاعرنا القديم:
وتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم إن التشبـه بالكرام فـلاح
أيها الإخوة في الله:
إن نعم الله علينا كثيرة لا تعد ولا تحصى، وإن أجلَّ هذه النعم أن ارتضى الله لنا الإسلام دينا.
ولقد قام المسلمون بتطبيق شريعة الله تعالى خير تطبيق في عهد الخلفاء الراشدين ومن جاء بعدهم. وكلما حدث انحراف عن هذه الشريعة أو تقصير في تطبيقها، ظهر من المصلحين من يقوِّم الميل، ويعدِّل الإعوجاج، ويصلح الخلل، ويرأب الصدع. وفي القرن العشرين سقطت الدولة العثمانية التي كانت تحمل لقب الخلافة، ومن قبل ذلك وبعده، احتلت جيوش الغرب البلاد العربية، وحكمت البلاد بالعلمانية اللادينية. والله U لا يترك الأمة الإسلامية، فيرسل على رأس كل مائة سنة من يجدد لهذه الأمة أمر دينها، فكان المجدد للقرن العشرين هو الإمام الشهيد حسن البنا رحمه الله، فقد ظهر في هذه الأحوال القاسية، وأسس جماعة (الإخوان المسلمين) وامتدَّ فكر هذه الجماعة في العالم كله، فما من دولة من دول العالم، إلا تجد فيها من يدعو إلى الله، متأثراً بهذا النهج. وفي العراق تولى قيادة دعوة (الإخوان المسلمين) فضيلة الشيخ محمد محمود الصواف رحمه الله، حين درس في الأزهر الشريف، والتقى الشهيد حسن البنا هناك، فهو الذي أدخل هذه الحركة إلى العراق، متعاونا مع ثلَّةِ من المؤمنين في عدد من محافظات العراق.
وفي مدينة الموصل تولى القيام بهذه المهمة الأستاذ الداعية غانم حمودات –أمطر الله قبره بشآبيب رحمته- مع عدد من الإخوة الدعاة.
لقد تحلى الداعية حمودات بكل خلق نبيل وأدب رفيع وهو يدعو إلى الله؛ ليعيد الأمة إلى سالف عزها ومجدها، لا يهمه غير هداية الناس إلى صراط الله المستقيم.
ومن أولى خصائص الدعاة إلى الله: عدم اكتراثهم بالعيش الرغيد، فهم يفرِّطون حتى بالضروريات، مقدمين الدعوة على كل شيء، وهذا ما نجده في فقيدنا أبي صهيب، واليكم هذا المثال الواحد من أمثلة كثيرة، أذكره للتاريخ، ولمعرفة تجرده للدعوة رحمة الله عليه.
لم يكن يملك داراً للسكن، فاشترى دارا في محلة القنصلية في الموصل وصار مدينا عليها، وأُصيب بسبب ذلك بضائقة مالية خانقة! في هذه الأحوال جاءه عقد من السعودية للتدريس فيها، وذلك في اواسِط الستينات، وكان كثير من المدرسين يتمنون الحصول على ذلك بل ويتوسطون من أجل الحصول على هذا العقد؛ لأنهم يأخذون مرتباتهم من العراق ومرتباتهم من السعودية، فكَّر فقيدنا في هذا العقد ثم رفضه لسببين اثنين:
اتعلمون -أيها الإخوة- ما هذان السببان؟
أما السبب الأول، فهو إقامته ليلةَ السابع والعشرين من رمضان التي تسمى ليلة القدر مع طلبته في الإعدادية الشرقية في كل سنة من رمضان، فهو لا يريد أن يفرِّط بهذا العمل الذي فيه ما فيه من الخير.
وأما السبب الثاني، فهو خروجه إلى الوعظ بعد فجرِ كلِّ جمعةٍ إلى ساعة متأخرة من الليل، يتنقل فيها من قرية إلى اخرى ، يعظ الناس ويبصرهم بامور دينهم، وسلوا أهالي تلك القرى في شرق الموصل وغربها وشمالها وجنوبها، ليتحدثوا اليكم عن جهوده هنا وهناك.
إن هذا درس للدعاة إلى الله في كل مكان، ليقدموا إلى الناس هذا الدين بأقوالهم وأفعالهم، ولا ينتظروا من الناس أن يأتوا اليهم، بل يأتون هم إلى الناس في قراهم وبيوتهم وأماكن عملهم، ولا يكتفون بتقديم النزر القليل من جهودهم.
أجل، هكذا ينبغي أن يكون الداعية، تملك الدعوة عليه حياته كلها، وتصير جزءا من كيانه، يتحدث بها في الوقت المناسب يفرح لها، ويحزن ويبكي من أجلها، ويألم ويحزن إذا اصيب أحد المسلمين بظلم، ولقد رأيت فقيدنا يبكي حين يسمع أخبار إخوتنا في سورية وهم يُقتلون وتنزل بهم المجازر من الطاغية.
أيها الإخوة في الله:
إن الحديث في جهود فقيدنا في الدعوة، يذكرنا بفتوى من الشيخ أمجد الزهاوي، وكثيرا ما كان استاذنا الفقيد يتحدث فيها؛ ترغيباً لكل مسلمٍ في الدعوة إلى الله، وقد ذكرها في مقدمته لكتابي المتواضع (فقه الداعية) وأرجو أن تتأملوا فيها لتعلموا فضل الدعوة أولا، وحكم المقصر فيها بعد ذلك، فقد قال الشيخ أمجد الزهاوي -رحمه الله- لجمع من الشباب الذين نذروا أنفسهم للدعوة إلى الله سبحانه وخدمة دينه سنة 1955: -وكان فقيدنا حاضرا لذلك الجمع- قال الشيخ أمجد (انتم تقومون اليوم بعمل هو أفضل من عمل الأئمة الأربعة رضوان الله عليهم. لا أقول أنتم أفضل منهم، بل هم أفضل منكم، إنهم عملوا للإسلام وللإسلام دولة وقوة، وأنتم اليوم تعملون للإسلام وليس للإسلام دولة وقوة، ولو أني اليوم قاض وجاء رجل شاهد يقطع الليل والنهار بالعبادة وأنا أعلم أنه لا يعمل اليوم للإسلام أردّ شهادته وأعتبره فاسقاً. ولو جاءني إبراهيم بن أدهم شاهداً وأنا قاض فإذا علمت أنه لا يعمل للإسلام أردّ شهادته وأعتبره فاسقاً...)
ولقد نقل الإستاذ غانم كلام الشيخ الجليل هذا إلى أحد كبار العلماء والدعاة إلى الإسلام هو الدكتور عبد الكريم زيدان –وهو يقِّدر علم الشيخ وورعه حق قدره– فقال: هذه فتوى من الشيخ أمجد.
أيها الإخوة الأحباب:
لقد كان فقيدنا –رحمه الله- ولا نزكيه على الله -مخلصاً في أقواله وأعماله؛ لذلك نرى الأثر الكبير الذي يتركه في خطبه في الاحتفالات، وفي دروسه وفي احاديثه الخاصة كذلك. كانت تقام احتفالات بمناسبات المولد النبوي، والإسراء والمعراج، وليلةِ القدر والهجرةِ في الجامع الكبير وفي غيره من الجوامع، والناس في لهفةٍ وشوقٍ لسماع كلمته، وكانت تُجعل آخر الكلمات؛ خشية أن ينفضَّ الناس إذا سمعوا كلمته، ومَن كان يستطيع أن يمسك دموع عينيه وهو يلقي بكلماته المنبثقة من قلبه فيؤثر بالناس؟! وهذا يذكرنا بقول الشيخ النحاس:
(من أخلص لله النية، أثَّر كلامُه في القلوب القاسية فليَّنها، وفي الألسن الذرِبة فقيدها، وفي أيدي السلطة فعقلها).
وهذا يذكرنا –أيضاً- بما قاله (ذر بن عمر) فقد سأل والده يوما السؤال الآتي (ما بال المتكلمين يتكلمون ولا يبكي أحد، فإذا تكلمت انت سمع البكاء من هنا وهناك؟ فردَّ عليه والده قائلاً: (يا بني ليست النائحة المستأجرة كالنائحة الثكلى). وهذا ينطبق على فقيدنا رحمة الله عليه.
وبعد:
فإن في النفس الكثير الكثير عن استاذنا غانم حمودات وأقول بعد ذلك:
يا من بلغت العلا زهدا ومعرفة |
|
لم تكترث جذلا مما بدنيانا |
وعزاؤنا ونحن نودع داعيةً قلّ نظيره.. عزاؤنا فيكم أيها الإخوة المجتمعون هنا، فأنتم مصابيح هدى ودعاةُ خير، ومن حقِّ آل حمودات أن يفخروا بغانمهم في كل مكان.
وإني إذ أرجو الله U أن يأجرنا في أبي صهيب أن يعوضنا عنه، وأملنا في الله لا يضعف، ورجاؤنا فيه لا يخيب!.
اللهم رحمتك نرجو، ومغفرتك نأمل، والخلفَ في أبي صهيب ننتظر، وما شيء عليك بعزيز، ولا نقول إلا ما يرضيك.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.