الشيخ الأعجوبة عليٌّ الطنطاويُّ

الشيخ الأعجوبة عليٌّ الطنطاويُّ

أستاذي وأستاذ الأجيال

الشيخ: علي الطنطاوي

د. حيدر الغدير

الشَّيخ عليٌّ الطَّنطاويُّ (1327-1420هـ / 1909-1999م) رحمه الله: أُعجوبَةٌ مِن أعاجيب عَصْره؛ عِلمًا وحِكمَةً، وعَقلاً وذكاءً، وبَيانًا وفَصاحةً، وطُرفةً ونادِرةً، وثَقافةً غنيَّةً مَوسوعيَّةً، وذاكِرةً قويَّةً، وقُدرةً على إيصال المعلومة للآخَرين بأُسلوبٍ شائق ينفرد به. وهو قارئٌ مُدمِن، وعِصاميٌّ حقيقيٌّ، وقد جعلَتْه عِصاميَّتُه مع الزَّمنِ نَسيجًا مُتميِّزًا، إنَّه عِصاميٌّ في طلَبِ الرِّزق، وعِصاميٌّ في تحصيل العِلم، وعِصاميٌّ في الأداء والبَلاغ المُبين، وعِصاميٌّ في المكَانة التي احتلَّها عن جَدارةٍ، وكان بها محلَّ التَّقدير والإجلال من الكَثيرين من العلماء، والأُمراء، والدُّعاة، والسَّاسَة، والأُدباء، من مُختلِف المستويات والشَّرائح.

تعمَّق في عُلوم الشَّريعة والأدب واللُّغة والقَضاء، وأحاط بقضايا عَصْرِه إحاطةً مُمتازة، وأحبَّ دِينه حبًّا جمًّا، ووهَبَ نفسَه له، فكان بحقٍّ من أعظَم دُعاة الإسلام وحُماته، وأضافَ إلى ذلك رغبةً في اليُسر والاعتِدال، وقُدرةً على رَبْط الجُزئيَّات بالكُليَّات، والأحكام بالمقاصِد، فَضلاً عن وَعْيٍ عميق بمَنطِق الأولويَّات والمُوازَنات، وإعطاء كلِّ قضيَّة حقَّها، ووضْعها في مكانها الذي تستحقُّه، لا تتقدَّم عنه ولا تتأخَّر.

ولأنَّه داعيةٌ إسلاميٌّ واعٍ جدًّا، جعلَ مِن دأْبِه أمرَين؛ الأوَّل: أن يعرِفَ خُطَطَ الأعداء ويتصدَّى لها، والثاني: أن يعرِفَ جوانبَ القُصور في العمَل الإسلاميِّ ويُحذِّرَ منها، وله في هذَين الأمرَين جُهدٌ مَشكورٌ، وخِبرَة تجعله حُجَّةً ينبغي للدُّعاة الاستِفادةُ منها.

ومع أنَّه كان مُذْ بدأَ عمَله الدعويَّ مِلْءَ السَّمع والبصَر، إنَّ له مواقفَ مَجيدةً زادَتْ من شُهرته ومَجْده، وجعلَتْه حديثَ الناس، وازدادَ أهلُ الخير حُبًّا له بسببها، وازدادَ أهلُ الشرِّ كُرهًا له بسببها أيضًا، ولو أنَّ الإنسان تتبَّع هذه المواقِفَ، لعاد منها بحَصيلة وافِرة جدًّا، ليس هذا مَكانَها.

يبدو لي أنَّ الشَّيخ الطَّنطاويَّ كان عدَّة رجالٍ في رجل، فهو: أُستاذ، وخَطيب، ومُربٍّ، وفقيه، وقانونيٌّ، ومؤلِّف، وأديب، وقاضٍ، وقَصَّاص، ومَسرحيٌّ، وصحفيٌّ، ورحَّالة، وناقِد، وداعية، وراوية، وساخِر، ثمَّ هو أحَدُ شُهود العَصْر النَّادِرين الذين تابعوا - بوَعْيٍ وإحاطَة - تَغيُّرَ الدُّوَل واختِلافَ الحُكَّام منذ نهاية الدَّولة العثمانيَّة حتَّى وفاته.

وإذا كانت هذه المزايا الكَثيرة التي أكرَمَه الله - عزَّ وجلَّ - بها، من أسباب شُهرته من ناحية، ومن أسباب سَعَة نفْعِه للمُسلِمين من ناحية، فإنها قد جارَتْ عليه؛ ذلك أنَّها أدَّت به إلى كثير من الشَّتات، وكثير من التَّكرار، ولو أنَّه نجا من ذلك بالتركيز على ما هو أقدَرُ عليه وأنفَعُ فيه، وانصرف عمَّا سِوى ذلك، لكان حظُّه من النَّجاح والنفع أكبَرَ بكثير مما حازَه؛ ولذلك أرى أنَّ كَثيرًا من جُهدِه سوف يَطويه الزَّمن فيما يَطويه، ولستُ أدري كيف غابَ عنه هذا الأمرُ مع ذكائه ونُبوغِه! إنَّ التاجِر الحَصيف يستغني عن صَفقةٍ رابِحة؛ مِن أجلِ صَفقة أكبرَ رِبحًا، وهذا الأمر يصحُّ في عالَم الأفكار، كما يصحُّ في عالَم الأموال. وللإمام العبقريِّ أبي حامدٍ الغزاليِّ رحمه الله، جملةٌ وَجيزةٌ عبقريَّة، يَحسُن إيرادُها في هذا السِّياق يقول فيها: تَركُ الترتيب بين الخيرات من جُملة الشُّرور.

وأنا من الجيل الذي تفتَّح وَعْيُه، والطَّنطاويُّ مِلْء السَّمْع والبصَر، فبهَرني جدًّا، واتَّصلتُ به من خِلال الخُطبة والإذاعة والتلفزة والكِتاب، ثُمَّ اتَّصلتُ به صِلةً شخصيَّةً سَمعتُ فيها منه وسَمعَ منِّي؛ لذلك لي أن أقولَ وبفَخْرٍ: إنَّه أحَدُ أساتذتي الذين وضَعوا بصَماتِهم عليَّ فِكرًا وبيانًا.

كنتُ أَحرِصُ جدًّا على زيارة الشَّيخ الطَّنطاويِّ حين يُتاح لي ذلك في بيتِه في مكَّة المُكرَّمَة أو بيتِه الآخَر في جدَّة، وكنتُ أَحرِصُ على أن أُوجِّهَ إليه بعضَ الأسئلة التي تَشغَلُني؛ حتى لا تكونَ الزِّيارة مُجرَّد تَحيَّة ومُجامَلة وإضاعة للوقت، وأهمُّ من هذا وذاك كنتُ أَحرِصُ على أن أَعرِضَ عليه ما يَجدُّ في ذِهْني من أفكار، أشكِّلُها ببُطْء وأتشبَّثُ بها بإصرار - مع أنَّ كثيرًا ممَّن حولي يلومونَني عليها - وأَطلُب رأيه فيها، ومُحاوَرةُ العُقَلاء الصُّرَحاء الفُضَلاء هي الطريقةُ المُثلى لِمعرفة الصَّواب والخطأ مما نؤمنُ به، وفي كثير من الأحيان كان الشَّيخ يُؤيِّدُني ويَربِط على قلبي، ومع الزَّمَن ومع استمرار العَرْض والحوار، بدأ الشَّيخ يُثني عليَّ ويُشجِّعُني؛ حتَّى إنَّ أحد تلاميذه الآخَرين - وهو في الوقت نفسِه أخي وزميلي وتِرْبي - كان يقول لي في سياقٍ مِن الدُّعابة والثناء: يا حَيدر، إنَّ الشَّيخ يُؤمِن بكَ.

وكنتُ حَريصًا جدًّا على أنْ أَعرِفَ رأيَه في شِعري؛ لأنِّي خَشيتُ أنْ أكونَ مُجرَّد ناظِم، ولأنَّه قرأ لي قِطعةً قصيرةً، فأخبرَني أنَّها لم تُعجِبْه، ثم شاء الله - عزَّ وجلَّ - لي أنْ أزورَه برُفقة أخي وزميلي وتِرْبي الذي سبقَت الإشارةُ إليه في بيتِه في مكَّةَ المكرَّمة يوم الجمعة (6/2/1412هـ) (16/8/1991م).

وقد حَرَصتُ على تأريخ هذا اليوم - وبغايَة الدقَّة - لفرَحي بما ظَفِرتُ به من الشَّيخ فيه؛ لقد طلَبتُ منه أن يقولَ لي رأيَه في شِعري بصَراحة تامَّة، وقلتُ له: سوف أقرأ لك قَصيدةً أَعدُّها من أجود شِعري، وبعدها قُل لي: دَعِ الشِّعرَ فأنت لم تُخلَقْ له أو امضِ فيه، إنَّه شَرطي للقِراءة؛ فربَّما لا أَصلُح للشِّعر، فأبى الشَّيخُ أن يَعِدَ بشيء، فكرَّرتُ الطلب، فأبى الشَّيخ؛ ذلك أنَّه أراد أن يَدفَعَ عن نفسِه الحرَج، وعنِّي الإحباطَ لو كانتِ النَّتيجةُ سلبيَّة. على كلِّ حالٍ قرأتُ القصيدةَ للشَّيخ عليٍّ، وكانت "جُرح الشَّآم" فسُرَّ كثيرًا، وطَرِبَ واهتزَّ، وكرَّر كلمةَ "عظيم" عدَّة مرَّاتٍ، ثمَّ أردَفَ: إنَّ المَرْء يسكُت أحيانًا من شدَّة الإعجاب. ففَرحتُ بذلك كثيرًا جدًّا، وعَدَدتُّ ذلك إجازةً من الشَّيخ لشِعري، وقُلت له: يا سيِّدي شَهادتُك عِندي أعلى من شهادة مَن منحوني الماجستير. ولم أكُنْ قد حَصلتُ على الدكتوراه يومَذاك.

ومِن المعروف أنَّ الشَّيخ الطَّنطاويَّ اعتزل الدُّنيا كلَّها في العِقْد الأخير من عُمره، وظلَّ بين بيته في مكَّةَ المكرَّمة وبيته الآخَر في جدَّة حتَّى مات عام (1420هـ / 1999م) رَحمه الله رحمةً واسِعة، ومع اعتِزاله الاختياريِّ هذا، ومع مكانته الجليلة المُقرَّرة، ومع معرفته بسوء رأيي في بعض خاصَّته، أبَى عليه كرَمُه وإنصافه، وقُدرتُه على الفَصْل بين الأمور، ووَضْع كلِّ أمر في حجمه ومكانه، إلا أنْ يتَّصلَ بي هاتفيًّا لمَّا عرَف أنِّي حصَلتُ على الدكتوراه عام (1414هـ / 1994م)؛ ليقولَ لي من حيثُ يُقيم في مكَّةَ المكرَّمة إلى حيثُ أُقيم في الرِّياض: أنا ما اتَّصلتُ بك لأهنِّئكَ بالدكتوراه؛ بل لأهنِّئَ الدكتوراه بكَ. فاستبدَّ بي فرَحٌ غامِر، وشَكرتُ الشَّيخَ شُكرًا جَزيلاً، وقلتُ له: هذا الثَّناء أجلُّ عِندي من رأي اللجنة العلميَّة التي منحَتْني الدكتوراه.

وحين طبَعتُ بحثَ الدكتوراه - وكان عن الشَّاعر الكبير عُمر أبو ريشة رحمه الله - وقرأه الشَّيخُ الطَّنطاويُّ، أثنى عليه كثيرًا، ووصفَ الكِتابَ بأنه مُدهشٌ ومُمتاز، ووصف اللغة بأنها عالية، وقال لي: لقد أنصفْتَ الشاعِر، وكنتُ أُقرُّ بجَودتكَ كاتِبًا، لكنْ لم أكنْ أظنُّك بهذا المستوى، وأنا الآن أُشيد بمَقْدرتك كاتبًا بعد أن أشدتُّ بمَقْدرتكَ شاعِرًا. عِندها تشجَّعتُ وأحسَسْت أنِّي أريد أن أظفَرَ من الشَّيخ بمَزيد من الثَّناء، فقرأتُ له قَصيدتي "يا شام"، فسُرَّ بها كثيرًا، وكان اختياري لهذه القصيدةِ بالذَّات مُوفَّقًا؛ لأنَّ الشَّيخ عاشِقٌ لدمشقَ من ذُروة رأسه حتى أخْمَص قدمَيه، وربَّما كان في اختياري لهذه القصيدة نوعٌ من المَكْر المُباح، على كلِّ حالٍ فرحتُ كثيرًا بثَناء الشَّيخ وسُروره، وهو ما دفَعني إلى تَدوين هذه الزِّيارة وتأريخها فورًا، وكأنَّها وثيقةٌ أَزهُو بها، وأخاف أن تتسرَّبَ من الذَّاكرة، لقد كانت الزِّيارة في بيته العامِر في جدَّة، يوم الخميس (21/2/1418هـ) (26/6/1997م).

وفي زيارة أخرى للشَّيخ تاريخها (24/1/1411هـ) (15/8/1990م)، سألتُه عدَّة أسئلة عِندي أجوبةٌ حاسمة لها تمامًا؛ ليَرُدَّ عليَّ إنْ رفَضَها، وليَربطَ على قلبي إنْ أقرَّها، فأقرَّها جميعًا.

قلتُ له: إنَّ علوم الفلسفة ليس لها فائدة، ولن تَخسرَ البشريَّةُ شيئًا لو هلكَتْ جميعًا، فوافَق. وقلتُ له: إنَّ علوم البلاغة العربية - خاصَّةً في القرون الأخيرة - لن تَخسَرَ العربيَّةُ بفِقدانها شيئًا؛ لأنَّها تقومُ على تقسيماتٍ عقليَّة لا تبقى في الذِّهن، ولا تصنَع من حافِظها أديبًا بليغًا، فوافق وسُرَّ كثيرًا، وقال مُمازحًا: لو كنتَ جَميلاً لقبَّلتُك. وقلتُ له: إنَّ طريقة تدريس علوم الدِّين عامَّةً والتَّوحيد خاصَّةً طريقةٌ حِفظيَّة تَلقينيَّة قليلةُ الجَدوى، فأيَّد ذلك. وقلتُ له: إنَّ كثيرًا مِن المتديِّنين الذين ارتبطَتْ أرزاقُهم بالدِّين، هم - بسُلوكهم وعاداتهم وتَكلُّفهم وضَعْف ملَكاتهم - قليلو النفع للدِّين، وربَّما كان بعضُهم يَضرُّ، فأيَّد الشَّيخُ ذلك، وذكر أنَّ له مقالاً طريفًا عن هذا الموضوع عنوانه: "صِناعة المَشيَخَة".

وبعدُ؛ فإنِّي لا أدَّعي للشَّيخِ عليٍّ الطَّنطاويِّ - رحمه الله - كَمالاً ولا عِصمَةً، فالكَمالُ لله وحدَه جلَّ جَلالُه، والعِصمَة للأنبياء الكِرام فقط، لقد كان بشَرًا من البشَر له وعليه، ولكنْ لي أنْ أُقرِّرَ ومعي شواهِدُ كثيرةٌ جدًّا: أنَّ ما له أكبرُ بكثير جدًّا ممَّا عليه، وأنَّه من أنبغ النُّبَغاء، وأذكى الأَذكياء، وأنَّه إضافة مُتفرِّدة في عَصْره، وأنَّه من أعظَم دُعاة الإسلام وحُماته، وأنَّ سيرتَه جَديرةٌ أنْ تُدرَسَ وتُحتَذى، ويتعلَّمَ منها الكِبارُ قبلَ الصِّغار.

إني أنتقدُه لِما وقعَ فيه من الشَّتات والتَّكرار، وأنتقدُه أيضًا لمزاجه الخاصِّ الحادِّ الذي ضيَّق دائرةَ من أرادوا الاستفادةَ العلميَّة والدعويَّة والتربويَّة من خلال القُرب منه، وأنتقدُه أيضًا لحجب بعض مُروءاته التي هو قادرٌ عليها عن بعض مُستحقِّيها الأخيار لحساباتٍ خاطئة، وأنتقدُه كذلك لأنه لم يؤلِّف لنا كتابًا مستقلاًّ عن العمل الإسلاميِّ الحديث يصفُه، ويقوِّمُه، ويقترح له خططًا ومعالمَ مستقبليَّة تجعله أكثرَ صوابًا، ولو أنه فعلَ لقدَّمَ خِدمةً متميِّزةً جدًّا نافعةً جدًّا. إن في كتاباته وأحاديثه أشياءَ جيِّدةً تتصلُ بذلك، لكنَّها مُبعثَرةٌ هنا وهناك، وتشكو من التجزئة والتكرار، والوصولُ إليها في مَظانِّها الكثيرةِ الممتدَّة زمانًا ومكانًا أمرٌ شاقٌّ جدًّا.

وثمَّةَ اعتِذارٌ أضعُه بين يدَي القارئ الكريم، حول حِرصي على الحَديث عن صِلَتي به وثنائه عليَّ، ويغفرُ الله تعالى لي إن أخطأتُ، لقد أردتُّ للشابِّ أنْ يحفظَ مَنزلةَ أساتذته، ولكنْ ليس له أن يَذوبَ فيهم، وأردتُّ له أنْ يسألَهُم عمَّا يصلُ إليه من أفكار؛ ليَربطوا على قلبه أو ليُصحِّحوا له، وأردتُّ له أيضًا أن يفرَحَ بثَناء عُقلائهم عليه وتشجيعهم له؛ فذلك حافِزٌ قويٌّ جدًّا له على المُثابَرَة والنجاح. ولقد كنت ولا أزالُ أرى أنَّ الحوار مع العُقَلاء الصُّرَحاء الفُضَلاء مَغنمٌ كبير جدًّا، وخُطوةٌ في الترقِّي، وعَونٌ على تطوير الذَّات، وزيادةِ مِساحَة الصَّواب، وتَقليل مِساحَة الخطأ.