الشيخ عبد الرزاق عفيفي
الشيخ عبد الرزاق عفيفي
من بقية السلف
د. محمد بن لطفي الصباغ
فجع العالم الإسلامي بوفاة العالم العامل، والعلامة الداعية إلى الله على بصيرة الشيخ عبد الرزاق عفيفي، وذلك في صباح يوم الخميس الواقع 25 ربيع الأول سنة 1415هـ (الموافق 1/9/1994م)، ودفن في الرياض بعد صلاة الجمعة.
بلغني الخبر المؤلم وأنا في عمان، فآلمني ذاك الخبر إيلاماً شديداً، وشعرت بعظم الكارثة على وجه أكثر مما كنت أتوقع.
يالله !! مات العالم الذي قل نظيره في العلماء.. لقد أذهلني الخبر حقاً.
أشهد إني لقد جزعت لذاك النبأ جزعاً لم أجزعه إلا يوم وفاة والدي –رحمه الله- والشيخ عبد الرزاق عفيفي بمثابة الوالد.. ثم تماسكت وتصبرت وتذكرت الآيات القرآنية التي تقرر أن الموت سبيل كل حي "إنك ميت وإنهم ميتون" (الزمر: 30) وأن الأجل إذا جاء لا يؤخر "فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون" (الأعراف: 34) ومرت بخاطري كلمة عمر بن عبد العزيز:
(ما الجزع مما لا بد منه؟ وما الطمع فيما لا يرجىى؟ وما الحيلة فيما سيزول؟ وإنما الشيء من أصله، فقد مضت قبلنا أصول نحن فروعها، فما بقاء فرع بعد أصله؟ وإنما الناس في الدنيا أغراض تنتضل فيهم المنايا، وهم فيها نهب للمصائب، ومع كل جرعة شرق، وفي كل أكلة غصص)(1)
فاسترجعت قائلاً: إنا لله وإنا إليه راجعون، غفر الله له، وأكرم نزله، وعوضه الجنة، وعوض المسلمين خيراً.
صحبته ما يزيد على اثنين وثلاثين عاماً، ما تركت مجلسه في أسبوع إلا أن يكون أحدنا مسافراً، وقلما كانت سفراتنا تطول. وقد جاورته سنين عديدة فكان نعم الأستاذ والجار. لقد تعلمت منه في هذه الصحبة أموراً كثيرة: منها ما يتعلق بالناحية العلمية، ومنها ما يتعلق بالناحية السلوكية، ومنا ما يتعلق بالناحية الشخصية...
لقد كنت ألجأ إليه في كل أمر من هذه الأمور، وكان يمدني بالرأي السديد، والتوجيه القويم. لقد أكرمه الله بالعقل المسدد، والعلم الواسع، والرأي المحكم.
وعلى الرغم من تلمذتي عليه ما كان يعاملني إلا على أني زميل له تواضعاً منه وكرماً. أحسن الله إليه وجزاه عنا الخير.
ولد –رحمه الله رحمة واسعة- في شنشور من محافظة المنوفية من بلاد مصر في سنة 1323هـ ودرس في الأزهر وتخرج فيه من أعلى مستوياته، فقد حصل على الشهادة العالمية عام 1351هـ ودرس مرحلة التخصص في شعبة الفقه وأصوله، وتابع تحصيله الشخصي حتى أضحى من أكبر العلماء في عصره، وإني منذ طفولتي إلى هذه الساعة وأنا أعاشر العلماء، أتتلمذ على أيديهم وأتلقى منهم وأباحثهم، ولا والله لم ألق عالماً مثله في سعة اطلاعه، ودقة استحضاره وحفظه، وسلامة منهجه، واستقامة حياته، وجولان ذهنه، وقدرته على إعطاء الحكم الدقيق في المسألة المطروحة، ومعاصرته لأحداث زمانه، لقد كان يعيش عصره، ويدرك بعمق شراسة الغزو الفكري والاستعماري للمسلمين، ويعرف التيارات الفكرية والسياسية التي تسود العالم وتغزو بلاد المسلمين يعرفها تمام المعرفة، وهذه صفة لم تكن موجودة في كثير من علماء عصره.
كان مما يمتاز به سعة صدره، وبعد نظره، وزهده في الدنيا ومتاعها، وحبه للخير للناس جميعاً، وبذله جاهه في مساعدة الآخرين.
وكان إذا تكلم في فن من فنون العلم ظن السامع أنه لا يحسن غيره وأنه متخصص فيه وحده. كان موسوعي المعرفة: كان محدثاً كبيراً قل أن يخفى عليه حديث، وكانت له مقدرة متميزة في تخريج الحديث والحكم عليه، وقد يرى في بعض الأحاديث من الرأي الصحيح ما لا تجده عند غيره سواء في تحديد درجته أم في فهمه والوقوف على دلالاته.
وله عناية خاصة بكتب الرجال، وقد بلغ من عنايته أنه فقد جزءاً من كتاب الرجال فكتبه بخطه وجلده، ولما رآه بعض الولوعين بحفظ آثار عظماء العلماء استهداه هذا الجزء فأهداه إياه بحضوري.
وكان مفسراً عظيماً، وإن أنس لا أنس دروسه الرائعة في تفسير القرآن التي كان يلقيها في مسجد الشيخ محمد ابن إبراهيم في دخنة في الرياض، وكنت ملازماً لها، وذلك من فضل الله علي.. لقد كان يغوص على المعاني العميقة في الآية ويذكر ارتباطها بما قبلها وبما بعدها، ويصل بين تلك المعاني وبين حياة الناس، ويشير إلى أسرار البلاغة ونواحي الإعجاز فيها، وكان لا يرضى تأويل المتأخرين ولا المعاصرين المفتونين بحضارة الغرب الذين تزعزعت عندهم الغيبات فراحوا يؤولون النصوص تأويلاً متكلفاً بعيداً.
وكان فقيهاً مجتهداً، وما كان يرضى التعصب لمذهب من المذاهب مع إحاطة بها لم أر مثلها، بل كان يمشي مع الدليل. وقد تكونت لديه ملكة فقهية عظيمة.
وكان إذا سئل لا يتسرع بالإجابة، بل يسأل عن دقائق الموضوع المطروح حتى يستوعبه ويقوم عنده تصور صحيح دقيق للموضوع ثم يجيب.
وكان أصولياً متبحراً في هذا العلم العظيم: على أصول الفقه، واقفاً على دقائقه، مطلعاً على كتبه مستحضراً لما فيها، فإذا سألته عن كتاب من كتب الأصول ذكر لك خصائصه ومزاياه وطريقته، والمآخذ التي قد تؤخذ عليه. وقد كان معجباً بكتاب "المستصفى" للغزالي وبكتاب "الموافقات" للشاطبي.
وكان من كبار علماء التوحيد على مذهب السلف رحمهم الله، يعرض القضايا الدقيقة فيه بأسلوب ميسر واضح، وقد كان رحمه الله واقفاً على كلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم في هذا العلم. ولقد استطاع أن يرد ما جاء في شرح الطحاوية وهو مقتبس من كلام ابن تيمية وتلميذه إلى مواضعه في كتبهما، وقد تضمنت طبعة المكتب الإسلامي الأخيرة للكتاب هذه الإحالات.
وكان في علوم العربية متمكناً، فقد كان في النحو مرجعاً تراه يورد في حديثه القاعدة النحوية إذا اقتضاه التضويح أن يوردها وكأنه من المتخصصين في النحو، وكان ذواقة للنصوص الجميلة وهذا يدل على موهبة بيانية أكرمه الله بها وعلى تمكنه من علوم البلاغة.
وكان في الكتابة ذا أسلوب متين جزل بليغ، لا يقل عن أساليب كبار الكتاب والأدباء، تتصف عباراته بالإيجاز والإحكام والبيان والوضوح والجزالة. ولدي عدد من رسائله الشخصية إلي وهي نماذج على ذاك الأسلوب العالمي.
وكان ذا بيان مشرق متدفق إذا تكلم أو درس، لا يتلعثم ولا يتوقف ولا يلحن.
وكان مناظراً قوي الحجة مستحضر الدليل يحيط بأطراف الموضوع الذين يناقشه.
وكان مدرساً ناجحاً سواء كان درسه في الجامع أو في الجامعة، فلقد كان له درس أسبوعي في مسجد الشيخ محمد كما ذكرنا آنفاً، ثم لما انتقل إلى بيته في شارع الخزان كان يؤم الناس في المسجد الذي يقابل بيته وكان يلقي بين الفينة والأخرى دروساً تأخذ الألباب في روعتها وعمق معانيها وغزارة أدلتها.
وقد حدثني –رحمه الله- أنه أراد أن يحذر إخوانه في مصر من دجل الدجالين من القصاص والوعاظ الذين يأتون في دروسهم بالأقاصيص الممتعة التي تشد السامعين وتمتعهم وتستحوذ على إعجابهم ولا أصل لها، والعامة هذا شأنهم في أغلب البلاد، فألقى عليهم درساً ملأه بمثل تلك الأقاصيص الغريبة فأعجبوا بالدرس واستمتعوا فلما رأى ذلك بادياً على وجوههم سألهم: ما رأيكم: أهذا الدرس أحسن أم الدروس السابقة؟ قالوا: بل هذا: إنه درس جميل ممتع. فقال لهم: هذا كله غير صحيح وما كنا عليه في دروسنا السابقة هو الصواب.
فأفهمهم بهذه الطريقة العملية أنه ليس عاجزاً عن أن يأتي في درسه بما يستحوذ على إعجابهم، ولكن الحق هو الذي ينبغي أن يكون رائد الموجه والعالم.
إن العالم ينبغي أن يكون مربياً مرشداً يقول الحق ولا يخشى في الله لومة لائم، لا يداري ولا يتكلف التأويل ليسوغ للناس ما يحبون من الخرافات والأباطيل.
وقد ابتلي المسلمون من زمن بعيد بالقصاص الذين يملؤون مواعظهم بالأحاديث الموضوعة والواهية، ويأتون بالقصص الغريبة ولو كانت باطلة ليجعلوا الناس يقبلون عليهم فكان الشيخ رحمه الله يحذر الناس من الوقوع في أحاييلهم.
وكانت إحاطته بمفردات اللغة العربية تكاد تكون إحاطة شاملة، فلقد كان يصحب القاموس المحيط، وقد حدثني أنه يجد متعة في قراءة مواده. والناس عادة لا يرجعون إلى القاموس إلا عندما يريدون معرفة معنى كلمة، أما الشيخ رحمه الله فقد كان يقرأ فيه كما يقرأ أي كتاب من الكتب.
أما فهمه لعبارات الأقدمين في كتبهم فقد كان شيئاً مدهشاً حقاً، وبعض العبارات بالغة التعقيد بسبب الرغبة عند هؤلاء المتقدمين في تحميل الألفاظ القليلة المعاني الكثيرة.. لقد كان ينظر في العبارة العويصة فيحلها ويشير إلى مراميها ومقاصد كاتبها،. على نحو لا تجده إلا عند قليل من أهل العلم.
والعلماء نوعان: علماء ينعزلون عن الناس، ويتفرغون لكتابة الكتب والمصنفات وعلماء يعنون ببناء النفوس وتوجيه العامة وإرشادهم، وبالإجابة عن أسئلتهم وحل مشكلاتهم، وقد كان فقيدنا العظيم من النوع الثاني وقد انتفع بعلمه وتوجيهه خلق كثير، وهناك عدد من مشايخنا كانوا من النوع الثاني وهم جبال من العلم، وكذلك في العصور السابقة كان أكثر العلماء من هذا القبيل، وأحسب أن فقيدنا كان يحمله على ترك التأليف عامل آخر وهو زهده في الشهرة والسمعة والمناصب.
ومع ذلك فقد كتب تعليقات نافعة على أجزاء من تفسير الجلالين كانت مقررة على طلاب المعاهد العلمية. وكتب تعليقات موجزة نافعة على كتاب الإحكام للآمدي، وطبعت له مذكرة في التوحيد وهي الأمالي التي كان يلقيها على الطلبة.
وقد كتب عدداً من الفتاوى والبحوث وذلك خلال عمله في اللجنة الدائمة. وكتب عدداً من المقدمات لكتب علمية أو رسائل جامعية.
وكان إذا رأى كتاباً خفيفاً لأحد المحدثين ليس فيه أصالة ولا دقة ولا استيفاء قال: يا ليته ما ألف! ويا ليته اقتصر على الانتفاع بما كتب الأئمة.
ومهما يكن من أمر فإني لا أستطيع أن أنقل للقراء صورة حقيقية لعلم الرجل الواسع في هذه الكلمة.
وكان تغمده الله بالرحمة سلفي العقيدة، يدعو إلى الحق على بصيرة، وكان رئيس جماعة أنصار السنة في الاسكندرية يوم أن كان في مصر.
وكان يتصف بسعة الصدر وحسن المناقشة والحلم وإلانة القول لمن يسأله ويناقشه، فقد ذكر لي الشيخ ناصر الدين الألباني أنه في أول قدمة جاء فيها إلى المملكة من بضع وأربعين سنة قابل عدداً من المشايخ وذاكرهم في مسألة قررها شيخ الإسلام ابن تيمية وهي مشكلة في نظره، وقد أنكرها، فاشتدوا عليه إلا واحداً وكان هو الشيخ عبد الرزاق عفيفي الذي تلطف به وناقشه في الموضوع، وكان الشيخ الألباني يذكر هذه القصة مشيداً بالصفات الكريمة التي تميز بها الشيخ رحمه الله.
أما الأعمال التي قام بها فقد عمل مدرساً في المعاهد الأزهرية في مصر، ثم هاجر إلى المملكة العربية السعودية في سنة 1368هـ فدرس في المعارف ثم في دار التوحيد في الطائف، وكان الملك عبد العزيز قد استدعى شيخنا الشيخ محمد بهجة البيطار ليكون مديراً له، فعمل فقيدنا فيه، ثم انتقل إلى نجد فدرس في الرياض وعنيزة، ولما أنشئت كلية الشريعة في الرياض كلف القيام بالتدريس فيها، ولما جئت للتدريس في كليتي الشريعة واللغة عام 1381 – 1382 هـ كان لي شرف لقائه والاجتماع به. وكان من أقدر الأساتذة على نقل المعلومات إلى أذهان الطلاب، يبسط المسألة المعقدة ويوضحها، وما ذلك إلا لتمكنه من العلم؛ لأن الإنسان عندما تكون المعلومة واضحة في ذهنه يستطيع أن ينقلها بيسر إلى الآخرين مهما كانت دقيقة وصعبة.
ثم أنشئ المعهد العالي للقضاء في سنة 1385 هـ وكان الشيخ من المخططين لمناهجه، وعين مديراً له، وقد تخرج على يديه عدد كبير من العلماء.
ثم انتقل إلى دار الإفتاء عام 1391 هـ فكان عضواً في اللجنة الدائمة للبحوث العلمية ونائباً لرئيسها وبقي فيها حتى وفاته، رحمه الله رحمة واسعة. وكان أيضاً عضواً في هيئة كبار العلماء.
وقد أشرف على عدد من الرسائل الجامعية للماجستير والدكتوراه وناقش عدداً آخر منها.
وكان الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله مفتي المملكة يقدره ويستشيره ويعتمد عليه في كثير من الأمور تقديراً لعلمه الواسع، ورأيه الصائب، وإخلاصه الجم.
والفضل يعرفه ذووه. وكذلك كان الشيخ عبد العزيز ابن عبد الله بن باز حفظه الله وأطال عمره.
وكان الشيخ عبد الرزاق عفيفي رحمه الله متواضعاً زاهداً في متاع الدنيا ومناصبها، لا يغشى منازل الوجهاء والأغنياء إلا إن دعي، وكان يتعفف إن حضر ولا يقول إلا ما يرضي ضميره، ولعل زهده هذا هو السبب في عزوفه عن إلقاء المحاضرات وحضورها.
وكان يبذل جاهه في خدمة الصالحين ومعونتهم، ولا يرد صاحب حاجة يستطيع أن يقضيها له.
كان يحج كل عام منذ أن هاجر إلى المملكة، يدرس في الحرم ويفتي الناس في شؤون دينهم ولاسيما في أمر المناسك. وله اقتراحات نافعة أخذ ببعضها بالنبسة إلى الضحايا والهدي. وقد حججت معه مرات، وأشهد أنه كان في المواقف ولا سيما في عرفات كثير التضرع، يدعو ربه ويجتهد في الدعاء والدموع تنهمر على لحيته ويسأل الله المغفرة والرضوان وإصلاح أحوال المسلمين ويطيل في ذلك. وقد حج في هذا الموسم الأخير على الرغم من ضعفه بسبب الشيخوخة وإصابته ببعض الأمراض.
كان يعرف للناس أقدارهم ولا سيما إن كانوا غرباء، وكان متواضعاً يكرم الصبيان والفتيان ولا يدعوهم إلا بألقاب التكريم، ويتودد إليهم. وقد رأيته يوم أن جاء الشيخ حسن حبنكة أحد كبار علماء بلاد الشام لزيارة مفتي المملكة الشيخ محمد بن إبراهيم رأيته في قمة التواضع، إذ كان يؤثر الكثيرين في الجلوس في المقاعد المتقدمة مع أنه أجدر منهم بهذا التقديم.
وكان حكيماً في تصرفاته يفرض احترامه على الآخرين مهما كان رأيهم فيه، فما يقدم على تصرف يعرضه إلى الحرج أو الانتقاد.
وكان بعيداً عن المراء والجدل الذي لا طائل من ورائه، ولا يخوض في الموضوعات التي لها حساسية ويتركها للآخرين.
كانت له آراء خاصة في بعض المسائل العلمية لا يذكرها إلا للخاصة من أصحابه، ولا يسوؤه أن يكون من يخالفه فيها، وإذا ذكرت الآراء المخالفة له أمامه لا ينفعل ولا يتشنج لأنها تخالفه بل يقول: لكل رأيه. وهذا خلق عظيم ما أحوج العلماء إليه. لماذا نمنع أن يكون للعالم المؤهل للاجتهاد والنظر آراء تخالفنا؟ إن الحق ليس مقصوراً على مذهب معين، ولا يحتكره ناس معينون، وقد يدرك المتأخر أمراً لم ينتبه إليه المتقدم.
وكان صابراً.. نزلت به كوارث شديدة فلم تضعضعه ولم تخرجه عن اتزانه وخلقه:
أصيب في عام 1376 هـ بشلل نصفي وعافاه الله منه، وأصيب بعدد من الأمراض كان فيها نعم العبد الصابر، وقتل ولده الكبير أحمد عاصم رحمه الله في حرب 1967م التي قامت بين اليهود ومصر، فتلقى الخبر صابراً محتسباً، وكان في مجلسه يحمد الله، ويحدث الحاضرين وإذا غلط أحد المعزين في قول يجاوز به الحد الشرعي أنكر عليه ورده إلى الحق.
ثم توفي ولده الأصغر عبد الرحمن رحمه الله فكان كذلك في غاية الصبر والرضى بقضاء الله وقدره.
ثم توفي ابنه عبد الله في 30/6/1413هـ فجأة في جدة، فكان أيضاً مثلاً في الصبر والاحتساب والتسليم.
سافرت زوجته مرة إلى مصر، وعندما أرادت أن تعود إلى الرياض إلى زوجها وأولادها منعت من العودة مدة طويلة، لمضايقة الشيخ وإيذائه، فصبر وصابر حتى أذن الله بالفرج وعادت إلى بيتها.
وكان ذا روح خفيفة قلما يخلو مجلسه من إلقاء نكتة مهذبة واقعية تنشط السامع وتسره، وتؤدي غرضاً توجيهياً.
وكان بعيد النظر، عميق الفكر، له جولات نقدية موجزة يدركها الواعي من جلسائه، ولا يذكر في مجلسه أحد بسوء.
وكانت معرفته بالرجال المعاصرين من الأعلام معرفة دقيقة، وكان حكمه عليهم حكماً سديداً، يعرف أوضاعهم الاجتماعية وعادات بيئاتهم ومدى تأثرهم بذلك كله.
وكان كريماً كرماً أصيلاً لا يتكلف يريد المباهاة والمفاخرة، بل يقدم ما تيسر وما كان أعده لنفسه، وكان بذلك قادراً على أن يقيم في كل يوم وليمة. وكان إذا علم بمجيء عالم يعرفه دعاه إلى الطعام، وقد حضرت الكثير من هذه الولائم. وبيته مفتوح كل ليلة للزائرين وطلاب العلم والمستفتين والذين يبغون الشفاعة في أمر من أمورهم.
أما أسرته في مصر فهي أسرة كريمة في شنشور تعد من أعيان البلد وأفاضلهم وتعرف بأسرة النوبي، وقد حدثني رحمه الله عن والده وصفاته الكريمة حديثاً طويلاً. والشيخ هو عبد الرزاق بن عفيفي بن عطية.
وقد تزوج سيدة فاضلة من أسرة كريمة من الاسكندرية هي أسرة سالم، أنجب منها عدداً من البنين والبنات وهم المهندس الزراعي أحمد عاصم رحمه الله، والأستاذ محمد نبيل حفظه الله والأستاذ محمود حفظه الله والأستاذ عبد الله رحمه الله، والأستاذ عبد الرحمن رحمه الله.
وأما البنات فثلاث وقد أكرمه الله بأصهار صالحين بررة.
وكان يهتم بتربية أولاده، فكانوا مثالاً في الاستقامة والبر، ولقد كان الأستاذ محمود منقطعاً لخدمة والده وضيوفه، فكان هو الذي يصحبه إلى الصلاة، ذلك لأن الشيخ في آخر حياته كان لا يقوى على المشي، فكان يستخدم كرسياً طبياً، وما كان الشيخ رحمه الله يترك صلاة الجماعة في المسجد في وقت من الأوقات الخمسة، وكان الأستاذ محمود –أحسن الله إليه- يجلس معه يقوم بخدمة والده وتقديم الضيافة للضيوف وتنفيذ أوامر الشيخ. وكان يلازمه إذا مرض لا يتركه.
إن حياة شيخنا المباركة تستحق أن نكتب فيها مؤلفات، ولست أدعي أن هذه الكلمة قد وفت فقيدنا العظيم حقه من الترجمة، ولكنها كلمة وفاء وعرفان بالجميل. رحمه الله وغفر له وأحسن جزاءه. كانت حياته حافلة بالجد النافع من الأعمال. فلم يكن يشغل الشيخ عن العلم والعبادة ولقاء الناس وتعليمهم شيء مما يشغل الآخرين. فلم يكن الشيخ يسمع الإذاعة ولم يكن يرى التلفاز ولم يكن يعنى بقراءة الجرائد، بل كان ينفق وقته كله في قراءة القرآن ومطالعة مسائل العلم. ونحسب أنه كان ممن طال عمره وحسن عمله ولا نزكي على الله أحداً.
رحم الله شيخنا عبد الرزاق، وأبدله داراً خيراً من داره، وأهلاً خيراً من أهله وأحله في الفردوس الأعلى من الجنات مع النبيين والصديقين والشهداء وحسن أولئك رفيقاً وإنا لله وإنا إليه راجعون.