الشيخ محمد بن إبراهيم سلقيني

الشيخ محمد بن إبراهيم سلقيني

هو الشيخ محمد بن إبراهيم بن محمد سعيد خطيب المشهور بسلقيني. ولد في مدينة حلب عام 1328هـ، الموافق 1910م، في أسرة علم وورع. فوالده الفقيه الشيخ إبراهيم سلقيني إمام الفقه الحنفي في مدينة حلب، ومحيي مدرسة الخسروية التي كانت مهجورة بهجران العلم وقلة العلماء، ووالدته امرأة صالحة صوامة قوامة، وكثيراً ما كان –يرحمه الله- يعزو الفضل إليها في عبادته، وزهده، وصلاحه.

بدأ تعليمه الشرعي على يد والده، فأخذ عنه الفقه واللغة العربية، ومن الكتب التي قرأها عليه نور الإيضاح في الفقه الحنفي، وحاشية ابن عابدين. دخل المدرسة الخسروية بحلب في عام 1923م وتلقى العلوم الشرعية فيها. وكانت بمستوى علمي يفوق التعليم الجامعي في يومنا هذا. أنهى بنجاح صفوفها النهائية العليا، وحصل على شهادتها بتفوق في 30 يونيو 1929م بعد أن درس فيها: التفسير، والحديث، والأصول، والفقه، ومجلة الأحكام العدلية، والفرائض، والمصطلح، والسيرة، والتاريخ، والأخلاق، والنحو، والبلاغة، والصرف، والأدب، والتجويد، وعلم الكلام، والمنطق، والرياضيات، والجغرافيا.

كما تلقى الفقيد الراحل العلوم المختلفة عن كبار علماء حلب كل في اختصاصه: الشيوخ: أحمد الزرقا والد الشيخ مصطفى الزرقا في الفقه، وحسين رضا الأورفلي في أصول الفقه، وعبد المعطي في الفرائض، وأحمد الشماع في التفسير، وأسعد العبجي في التجويد، وفيض الله الأيوبي في التوحيد وعلم الكلام والمنطق، وعيسى البيانوني في علوم الأخلاق، وراغب الطباخ في السيرة والتاريخ، وكامل الغزي في الأدب، وأحمد الكردي في الفقه والنحو والصرف والبلاغة –يرحمهم الله جميعاً- وقد التقى الشيخ أبا النصر خلف –يرحمه الله- وصحبه إلى القرى ليأخذ من شذا علمه وخلقه، وقد أذن له بالوعظ والإرشاد. كما حضر بعض دروس محدث الديار الشامية الشيخ بدر الدين الحسني –يرحمه الله- في مدينة دمشق.

لقد كان لهذا الزخم العلمي تأثيره الواضح عليه، إذ تولى التدريس في سن مبكرة، وهو لا يتجاوز الثامنة عشرة، وبالأخص في مادتي الفقه والأصول اللتين برع فيهما، إذ كثيراً ما كان يوكله والده في التدريس. ثم درس في مدارس حلب ومساجدها سنين طويلة؛ خاصة مسجد الطواشي في باب المقام، إذ كان له فيه ثلاثة دروس يومياً؛ كما كان يخطب الجمعة ويؤم الناس هناك أكثر من خمسين عاماً، إضافة إلى تقديمه درسين أسبوعياً بشكل دوري ومتنقل بين مساجد أحياء حلب بعد صلاة العشاء. كما درس مادتي الفقه والأصول في الثانوية الشرعية للذكور أكثر من خمسين عاماً، ودرس أيضاً المادتين المذكورتين في الثانوية الشرعية للإناث منذ تأسيسها، إضافة إلى درسه الأسبوعي الخاص بالعلماء والمشايخ في المدرس السباهية صباح كل جمعة، ودروس في السجن كانت سبباً في توبة وهداية الكثير من أصحاب الجرائم.

وحتى بعد انتقاله إلى منزله في سيف الدولة على بعد خمسة كيلومترات من مسجده في باب المقام لم يكن يتخلف عن الإمامة والدروس هنا، فكان كثيراً ما يذهب سيراً على الأقدام قبيل الفجر لمتابعة إمامته ودروسه. وفي أواخر حياته كان له درس يومي الأحد والإثنين في جامع الروضة، ودرس للنساء في منزله بمساعدة ابنته.

لهذا السبب كان انصرافه –يرحمه الله- للتدريس والوعظ أكثر من التأليف، فتخرج على يديه جمع من علماء حلب المعاصرين. بل وحتى من هم في طبقته بسبب التصدر المبكر للتعليم، فكان من بين الآخذين عنه: الشيوخ: عبد الفتاح أبو غدة – يرحمه الله، وعبد الله سراج الدين، وعبد الستار السيد وزير الأوقاف الأسبق يرحمه الله، وكبار علماء حلب المعاصرين الذين درس غالبهم على يديه، من أمثال الدكاترة: محمود ميرة، وعدنان كامل سرميني، ونور الدين عتر رئيس قسم التفسير والحديث في كلية الشريعة بجامعة دمشق، وأحمد حجي الكردي خبير الموسوعة الفقهية في الكويت، والمحقق محمد عوامة، والدكتور محمد أبو الفتح البيانوني رئيس قسم الفقه والأصول في كلية الشريعة بجامعة الكويت، والدكتور عبد الحكيم أنيس مدير تحرير مجلة الأحمدية المحكمة الصادرة عن دار البحوث للدراسات الإسلامية وإحياء التراث، إضافة إلى أولاده الدكتور إبراهيم، والدكتور عبد الله والشيخ أحمد.

وفاته.. ووصاياه

قضى حياته –يرحمه الله- في العبادة والصلاة والقيام وقراءة القرآن لساعات طويلة، برغم ما كان يعتريه من ضعف النظر. ومن صفاته التي ميزته طوال حياته ورعه وخشيته لله صلى الله عليه وسلم، فقد كان بكاء، يستعظم ما يفعله من الصغائر ويخشى المحاسبة عليها. وكان زاهداً في الدنيا راضياً بالقليل برغم ما فتح الله عليه وعلى بنيه، ويحذر أبناءه دائماً من التعلق بالدنيا وزينتها. ولا ينقطع عن زيارة الأرحام من الأحياء ومساعدة المحتاج منهم، كما كان يزور قبور الأموات من أرحامه في أيام الجمع عملاً بوصية والده، وعندما ثقلت حركته أوكل تلك المهمة لولده عبد الرحمن.

أما لسانه فلم يكن يتوقف عن ذكر الله وتسبيحه والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يوصي كل سالك إلى الله بأن يحيي الصلة بينه وبين الله بذكره سبحانه، وبينه وبين رسوله صلى الله عليه وسلم باتباعه والصلاة عليه والتزام منهجه.

وكان يقول –دوماً- لتلاميذه وأبنائه وأحفاده: يا أبنائي؛ أنا لم أحسن لأحد، وعندما يذكره الحاضرون بعلمه وفضله على تلاميذه وأمته كان يقول: "إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها" (الإسراء: 7). هذه قاعدته في التواضع: نسبه الفضل إلى الله تعالى، والإنسان هو من يجني جزاء إحسانه من رب العالمين.

أجاب دعوة ربه –يرحمه الله- يوم الثالث من صفر 1422هـ، الموافق 26 أبريل الماضي عن عمر جاوز التسعين عاماً؛ فغص جامع الطواشي بالمصلين عليه، وخرج في جنازته ربع مليون شخص من تلاميذه وتلاميذ تلاميذه ومحبيه شباباً وشيباً حتى امتلأت الطرقات بين مسجده في باب المقام ومقبرة الشيخ جاكير لا يدفعهم للخروج إلا حب الإسلام وأهله، ثلاثة أجيال خرجت في وداعه، كيف لا وقد أفنى عمره في توجيه الناس ليتوجهوا إلى الله بقلوبهم ويعبدوه حق عبادته.

المجتمع 1451