أحمد بن بلة

أحمد بن بلة:

انكب على صنع الحياة .. حتى نسي الاستعداد للموت !

محمد خليفة

[email protected]

رغم علمي أنه "قرن" يمشي على الارض , رغم علمي أن الموت هو النهاية الحتمية لكل مخلوق , فلم أكن أنتظر نبأ موته , لا سيما في هذه الأونة , بصراحة كنت أظنه مستثنى من الموت إلى أجل غير مسمى . مصدر ذلك كله أني كنت أعرف مدى متانة صحته وقوة جسده . عندما كان يصطحبني معه لنتناول وجبة طعام , كان يختار مطاعم قريبة من الغابات , أو الحدائق , وكان بعد الطعام يمارس رياضة المشي لساعات حتى ينال الإعياء مني , وكان هذا ديدنه يوميا . طعامه أيضا ممنهج ليؤدي نفس الغاية , يكثر من شرب الحليب , وتناول الخضار ويقلل من اللحوم والحلويات , ولا يفرط في الطعام على اي حال , قال لي مرة إنه حين انقلب بومدين عليه وألقاه في غيابة السجن أعد نفسه لكي لا يمرض أبدا , لأنه يخشى ان يتناول أدوية ربما تكون وسيلة بومدين لقتله , وهكذا لبث في محبسه زهاء خمسة عشر عاما دون أن يحتاج حبة أسبرين واحدة , وظل يمارس رياضة المشي داخل السجن بانتظام . هذا الحرص على الصحة ليس نوعا من الهوس المتفشي بين كثيرين في عصرنا الحالي , وإنما هو نوع من المقاومة السياسية للضعف , وحرص على شحذ القدرات وحسن الاداء في كل المجالات , وخاصة الذهنية ,بفضل هذا وذاك ظل أحمد بن بلة نحو خمس وسبعين سنة في أفضل حالات عطائه ونضجه وتوقده . لا يعرف الكلل ولا الملل , يقاتل ويسافر ويحاضر ويقرأ ويستقبل ويعمل كما لو انه ابن اربعين أو خمسين

تأثرت لوفاته , وفقده , لأني أعرف جيدا ما له من خصال نادرة جدا , إنسانية وسياسية . قائد فذ من نوع خاص . ( كل انسان ميسر لما خلق له ) يقول الحديث النبوي الشريف , وبن بلة مخلوق ليكون قائدا وزعيما , لا يصلح لأي وظيفة اخرى . لم يحدث هذا بالصدفة له , بل حدث بشكل طبيعي وبتدرج منطقي . إنسان دافىء القلب , عاطفي , حميمي المشاعر مع جميع الناس , بسيط بلا تكلف ولا تصنع , مبتسم دائما , كريم معطاء , شجاع لا يعرف الخوف , ذكي لماح , مثقف رفيع المستوى , شخصية تتمتع بجاذبية قوية , يأسر الناس بسعة افقه وعفويته وصدقه ورهافته . لا يمكن استفزازه إلا في حالة واحدة هي مطالبته بأن يكف عن النضال , لا يتصور نفسه قابلا للاستكانة وهناك معذبون ومضطهدون في أي مكان . انشغل بالقضايا الجزائرية ثم العربية , والأفريقية التحررية , ثم اتسعت مروحة اهتماماته في العقدين الأخيرين إلى الهنود الحمر في امريكا , وقضايا البيئة والسلام ونزع السلاح والعولمة . وظل يعمل حتى بعد ان تجاوز التسعين .

قابلته عام 2006 وكان متعبا من رحلة طويلة في البرازيل , فقلت له يا سيدي إن لجسدك عليك حقا . ابتسم وقال لي : وللناس علي حقوق ..! تدخلت ابنته ( بالتبني ) وسألتني : لم لا تعيدون تجديد كتابكم الرائع ( حوار معرفي شامل مع احمج بن بلة - صادر 1984 عن دار الوحدة ببيروت ثم ترجم لعدة لغات ) ؟؟ فأحبت عندما يتوفر الوقت لدى سي أحمد .. أنا جاهز , فقال لنا : لا أمانع لكن عندما أتفرغ للكتابة والمراجعة , وهذا لم يحن وقته بعد .. لدي اشياء كثيرة أريد تسجيلها قبل أن أرحل . يبدو أنه هو أيضا كان يهيء نفسه لعبور قرن حياته الاول والانتقال للقرن الثاني دون أن يعير الموت أي اهتمام . ولا أدري إن كان قد سجل ما يريد أو بعضه في السنوات القليلة الأخيرة , لكني على علم أنه سجل أشياء كثيرة عندما كان رهين المحبس الجزائري ورفض نشرها , وحدثني مرات عن مؤلف له في الفكر الفلسفي يزيد حجمه على الف صفحة . لم يهدر وقته في السجن , اغتنم الفرصة وبدأ سباقا مع المعرفة لتعويض ما فاته في سن الشباب , قال لي إن أحسن ما قدمه له السجانون هو سماحهم له بالكتب , فكان يسلمهم قوائم طويلة بعناوين الكتب , وكانوا يحضرونها له من بيروت والقاهرة وباريس بالعربية والفرنسية . كان يجيد سبع لغات , ويتذوق الفن والادب ويحب الفكر والفلسفة والدين , وشغوف بالسياسة والتاريخ , ويقرأ من هنا وهناك , ولكنه تعمق في سنوات السجن بالتراث الاسلامي وقضايا الفكر العربي , فضلا عن التاريخ الاوروبي واسرار العلاقات بين ضفتي المتوسط . لم تدفعه مرارة السجن نحو التطرف والكراهية والحقد , وأشهد أني حاولت كثيرا وفشلت في أن أحمله على التصريح بعبارات حادة أو مسيئة للرئيس هواري بومدين الذي انقلب عليه وسجنه , لم يذكره بأي لفظة مسيئة , ولكنه كان يهاجم عهده وحكمه وانقلابه من دون أن يذكره بالاسم , وكذلك كان موقفه الأخلاقي من شخص الرئيس الشاذلي بن جديد الذي أفرح عنه عام 1980 . والأمر نفسه يتكرر بالنسبة لفرنسا والفرنسيين , إذ أن تجربة الاحتلال الرهيبة لم تجعله حاقدا أو كارها لفرنسا والفرنسيين , وكان يعشق الثقافة الفرنسية الراقية , وكان له أصدقاء كثر من الفرنسيين , ولا ينسى أن منهم من ساند الثورة الجزائرية بالمال والسلاح والفعل . وكان في اسلامه وتدينه معتدلا وأقرب ما يكون للصوفية , وكان في كل الاحوال عقلانيا ومنطقيا , يحاور ويتقبل الاختلاف , ويجيد عقد الصلات والعلاقات مع جميع الناس يسارا ويمينا , عربا وأفارقة واوروبيين وأسيويين ويهودا , وظل حتى أخر حياته وفيا لأصدقائه التروتسكيين الذين قاتلوا معه إبان حرب التحرير , وخاصة ميخالي رابتس زعيم هذا التيار الذي انشق عن الحركة الام في الخمسينات على خلفية الموقف من الثورة , لأن تيارا أخر رفض دعم استقلال الجزائر وأيد الموقف الفرنسي الذي يعتبر الجزائر فرنسية . وظل إلى أخر أيامه يدعم مناضلين وحركات سياسية ثورية في السنغال ومالي وجنوب أفريقيا . أقام علاقات وثيقة بالايرانيين في بداية حكمهم لإيران حيث تصادف ذلك مع خروحه من السجن , ولكنه ما لبث بعد سنوات محدودة أن اعتزلهم بهدوء لأنه رأى جنوحهم نحو العداء الشعوبي للعرب , وظل يهاجم صدام حسين لتسببه بالحرب مع إيران وبسبب ديكتاتوريته , ولكنه زار بغداد وأعرب عن تضامنه مع الشعب العراقي في ظل الحصار الطويل والمعاناة الرهيبة خلال التسعينات و رفض الغزو الأمريكي للعراق . كنت في زيارة لي لبغداد عام 1990 فقال لي مسؤول عراقي : نريد أن تنقل الى السيد بن بلة دعوة رسمية لزيارة بغداد وسنستقبله كزعيم عربي كبير , فقلت له سأنقل الرسالة لكنني لا أظنه يلبيها , لقد أعرب عن موقفه منكم علانية مرات عديدة ولا اعتقد أنه غيره . وبالفعل عندما أخبرته بالهاتف الدعوة , رفضها بشدة وهاحمهم بشدة أكبر . وذات مرة اتصل بي وقال أريدك أن تحضر الى عندي فورا , سافرت اليه في جنيف فأطلعني أن الرئيس السوري أنذاك حافظ الاسد أرسل اليه عضوين من القيادة القومية للبعث لدعوته لدمشق حيث سيجري تكريمه , وطلب رأيي فقلت : لو ذهبت الى دمشق والتقيت الاسد ستخسر محبة عشرين مليون سوري ومثلهم من اللبنانيين والاردنيين والفلسطينيين والعرب ...إلخ . قال لي : هذا هو شعوري أيضا , وظل بعدها يهاجم الدور السوري في لبنان والساحة الفلسطينية , ويؤيد المعارضة السورية ويلتقي برموزها ومنهم الاخوان المسلمون , وسار ذات مرة على رأس تظاهرة سورية ضد النظام وجرائمه في حماة وتدمر جرت في باريس عام 1982 . ورفض دعوات مماثلة على حد علمي من حكام المغرب والسودان والاردن واليمن , وحافظ على مسافة فاصلة بينه وبين حكام الزمن العربي الرديء , ويرفض محاولات احتوائه واستثماره شعبويا من قبلهم . وواظب على لقاءاته مع عدد كبير من الثوريين العرب المجهولين وخاصة من جيل الشباب , كان يستقبلهم ويستمع اليهم ويساعدهم قدر ما يستطيع , ويتواصل مع عشرات المنفيين والملاحقين والثوريين العرب وغير العرب , ويجد نفسه بينهم وقريبا منهم . كان دائما مع التغيير والتحرر , ولا بد ان يذكر التاريخ له أنه لم يكن فقط من الطليعة الاولى التي خططت لثورة تحرير الجزائر وأعدت لها العدد التنظيمية والسياسية والعسكرية في نهاية الاربعينات وبداية الخمسينات , بل سيذكر له أيضا أنه أول من أطلق النداء لانتقال الجزائر من عهد الحزب الواحد الى عهد التعددية والديمقراطية فور خروجه من السجن , وأول من عمل على ترجمة النداء الى عمل تنظيمي بتأسيسه حزب ( الحركة من أجل الديمقراطية في الجزائر ) وظل مثابرا على دوره حتى نهاية الثمانينات حين ظهرت الحركات الاسلامية وخاضت مواجهتها الدامية مع النظام , بل زاد عليها بالعودة للجزائر إثر انتفاضة 1988 الشعبية من ناحية وبالدعوة دائما للمصالحة الوطنية والعمل عليها مع رفيق طريقه وخصمه القديم حسين أية أحمد من ناحية ثانية , لكن صوت الرصاص طغى على ندائه العقلاني والديمقراطي مثلما داست الانقلابات العسكرية المتتالية على فرص السلام , فأثر الخروج ثانية من الجزائر ومتابعة نشاطاته الانسانية والعالمية من أجل السلام وحقوق الانسان والديمقراطية والبيئة ونزع التسلح .

رحم الله أحمد بن بلة كان كبيرا في كل تصرفاته في كل مراحل حياته وفي كل مواقفه , وأظنه مات مطمئنا الى مستقبل أمته وهو يتنشق نسائم الربيع العربي تهب من تونس الى سوريا ومن مصر الى اليمن . كان طوال حياته يفرح ويستبشر خيرا بكل انتفاضة خبز أو هبة حرية في أي مكان , فكيف لا يسعده ربيع عربي كامل بهذا الزخم والقوة والاشراق ..؟؟!!