الشيخ أحمد جاموس

الشيخ أحمد جاموس

فدوى محمد سالم جاموس

في الشمال الشرقي من سورية، وفي مدينة حلب، وفي حي متواضع، برز فيه الوطنيون والمثقفون، وأشاد بذكره الزعماء، ولد الشيخ "أحمد طه جاموس" من أبوين كريمين، كان لهما شهرة في التقوى والصلاح.

كانت ولادته عام 1937م، ومنذ نعومة أظفاره، بدت عليه ملامح الذكاء فكان يحفظ كل ما يسمع، مما لفت نظر أبويه، فأرسلاه إلى الكتاب، وبدأ يحفظ القرآن الكريم غيباً، وأتقن تجويده، وأحسن تلاوته، وتلقى العلوم الدينية على يد فحول المشايخ، ونهل من علومهم الدينية بأنواعها... ثم ألحق بالمدرسة الكلتاوية، وقرأ على أساتذتها، وكانوا جهابذة في العلوم الشرعية، ولهم شهرة واسعة وصيت ذائع، فقرأ علم التفسير والتوحيد والنحو والإعراب، والصرف والفقه.

ثم انتقل إلى الثانوية الشرعية بحلب، فتابع دراسة العلوم الدينية، ولازم مشايخه، واستفاد من علومهم، فظهر ذكاؤه، ونبوغه، وسعة اطلاعه، وتفنن في علم القراءات، فوجهه أستاذه الشيخ نجيب خياطة، إلى المتابعة للحصول على إجازة في القراءات السبع.

وكان له اطلاع واسع على المذهب الشافعي، وقد وثق أساتذته بصحة فهمه وبعد نظره، وكان يعتمد عليه في النقل عن مذهب الشافعي.

وقد رافق نبوغه في العلوم الشرعية ذكاءه واجتهاده، ومثابرته على البحث والتحصيل الشرعي، فسما على اقرانه في الفهم عن مشايخه، فأصبح مرجعاً لزملائه.

تابع الفقيد دراسته الجامعية، في كلية الشريعة بجامعة دمشق، وحصل فيها على شهادة الليسانس في العلوم الشرعية، ما بين عام 1969م – 1970م، وكان من الأوائل والمبرزين.

ولقد أتم نصف دينه، فتزوج امرأة فاضلة ذات حسب ودين، رافقته في حله وترحاله، وأنجبت له ثلاثة أولاد وأربع بنات، أحسن تأديبهم، فعرفوا بالصلاح والتقوى.

درس الفقيد في بعض المدارس الإعدادية والثانوية في ريف حلب، ثم نقل إلى ثانويات حلب العامة والثانوية الشرعية.

كل هذا وهو ينتقل بين المساجد والجوامع، والحلقات والمجتمعات، داعياً إلى الله، منادياً بالبعد عن المنكرات، آمراً بالمعروف، ناهياً عن المنكر، ساعياً إلى مساعدة الفقراء، وذوي الحاجة.

وقد شهد له كل من عرفه بالخلق القويم، فقد درس الأجيال الأخلاق الحميدة، وجعلها خميرة فاعلة في الشباب.

فكان حريصاً على أن يقوم المجتمع على أيدي شباب مسلم واع يوصل إليهم الدين بأسلوب سهل، ونفس رضية سمحة.

وكان جل اهتماماته ينصب على مكتبته العامرة، فهي رأس ماله الأساسي، وثروته الحقيقية، فلا يضن بها على قريب أو بعيد، فكانت له صدقة جارية في حياته.

وقد نهب معظمها في مرحلة معينة، فترك نهبها غصة أليمة له، ولكن دأبه في الحفاظ عليها دفعه من جديد إلى ملئها بالكتب القيمة.

وأرادت له الأقدار أن ينفع بعمله أبناء المسلمين خارج بلده، فغادر حلب إلى السعودية، وفي مدينة أبها تابع دعوته معلماً ومربياً، تخرجت على يديه أجيال وأجيال.

زرع الله في قلبه رحمة، تجلت في رقة مشاعره، وغزارة دموعه، ورفقه بالناس، كل ذلك في تواضع جم، وخلق حسن، وحيثما حطت رحاله، سما بتقواه وخلقه، فكان عابداً كما كان عالماً.

ولقد عاش زمن الصحوة الإسلامية، فدعا إلى الله بأسلوب سهل جذاب، فكان الناس يتسارعون إلى دروسه كما لو أنها حديقة غناء، يتفيؤون ظلالها، ويتناولون من ثمارها المتنوعة.

ولقد كان الشيخ داعية مؤهلاً، ووجيهاً اجتماعياً بارزاً، يساعد الناس في حل مشكلاتهم، فكانوا ينظرون إليه بإجلال واحترام وحب وتقدير.

وقد كان حريصاً على بذل علمه، فكان يقيم حلقات الوعظ والإرشاد والتجويد، كل هذا في جاذبية خاصة تنبعث من حلاوة حديثه، ونفسه الطيبة، وخلقه القويم، وسمعته الحسنة، هذه الصفات التي لا يحرص الكثيرون من الناس في زماننا على التحلي بها.

عرف الميدان الحقيقي الذي يكون فيه الإنسان إنساناً، ويكسبه الفلاح في الدنيا والآخرة، فنافس فيه، وترك للناس ما يتنافسون فيه.

عرف أن ما يتنافس فيه غالبية البشر من مال ومتاع، ومناصب زائلة.. ما هو إلا زبد، ما يلبث أن يذهب جفاء، ولو علا وطما حيناً من الدهر. أما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض، في حياة صاحبه وبعد وفاته.. فأدرك المعنى الحقيقي للبطولة، في زمن التبست فيه المعاني.

ولقد كان وضع المسلمين يقض مضجعه، ويمزق صدره، فتسلل المرض الخبيث "السرطان" إلى صدره، واستمر معه سنوات عدة..

وبرغم معاناته الجسدية، وآلامه المبرحة، لم يشك يوماً، وما سمع إلا حامداً شاكراً لله عز وجل، إلى أن استشرى في جسمه المرض.

وعندما أحس بدنو الأجل، قرر العودة من الإمارات العربية المتحدة، حيث كان يدرس فيها، إلى حلب، وظل يمارس الخطبة حيناً، ويقعده المرض عنها حيناً، حتى وافاه الأجل في يوم الجمعة في 2/8/2002م.

رحم الله الشيخ الجليل، وأسكنه فسيح جنانه، وجعل علمه زاداً ينفع الناس في الدنيا، وينفعه في الآخرة، وجعل خلقه الرفيع وسيلة تقرب منزلته من منزلة نبي الرحمة الذي قال: "ألا أخبركم بأحبكم إلي وأقربكم مني مجلساً يوم القيامة؟ أحاسنكم أخلاقاً....".

أجل!

لقد مات الشيخ أبو طه..

ولكن مات كما يموت الأبطال، يد على الصدر الموجع، ويد ترفع راية الإسلام عالية خفاقة، فما رفع الأولى عن صدره، حتى أسلم الروح.

وما غاصت الثانية في الثرى، حتى أسلمت الراية لمن بعده من بنين بررة، وإخوة درب أخيار.

* في أثناء حصار مدينة حلب وتمشيطها وتفتيشها في عهد حافظ أسد (الموقع).