المفتي محمد أمين الحسيني
وصلته بجمعية العلماء المسلمين الجزائريين
أ.د مولود عويمر
أستاذ بجامعة الجزائر
محطات مضيئة
نشر الحاج محمد أمين الحسيني مذكراته في مجلة "فلسطين"، لسان حال الهيئة العربية العليا لفلسطين في 75 حلقة. ثم جمعها عبد الكريم العمر وصدر الكتاب في عام 1999 في دمشق. ولا تمس هذه المذكرات إلا جزء يسير من حياة الشيخ الحسيني، وهي تمتد بين عامي 1937 و 1948، غير أن دراسات عديدة تناولت مساره الطويل بالتفصيل، وعالجت بإسهاب نضاله السياسي.
ولد محمد أمين الحسيني في القدس في عام 1897. وتوفي في 4 جويلية 1974. درس العلوم الشرعية واللغتين العربية والفرنسية في القدس ثم واصل دراسته العليا في جامع الأزهر، ولازم دروس الشيخ محمد رشيد رضا في دار الدعوة والإرشاد. كما كان يتابع في كلية الآداب بالجامعة المصرية محاضرات بعض الأساتذة المشهورين. وتعرف خلال هذه الفترة على عدد من الزعماء العرب والمسلمين، واطلع على أحوال العالم الإسلامي.
شارك الحاج الحسيني في الحرب العالمية الأولى كضابط في الجيش العثماني، واشتغل بعدها بالعمل الفكري والسياسي في النوادي والمعاهد العلمية منها: النادي العربي وكلية روضة المعارف بالقدس.
وفي ديسمبر 1931، نظم مؤتمرا إسلاميا عالميا في القدس لتدويل القضية الفلسطينية، وشارك فيه مندوبون من كل الأقطار الإسلامية، وشارك من الجزائر الشيخ إبراهيم أطفيش. وفي عام 1936 تأسست اللجنة العربية العليا لفلسطين فترأسها الشيخ الحسيني. وهي تضم الأحزاب الرئيسية في فلسطين. وكانت تدعو إلى: منع الهجرة اليهودية إلى فلسطين، وتحريم بيع الأراضي العربية لليهود، وإنشاء حكومة وطنية مسؤولة أمام مجلس نيابي. وشكلت جيش الجهاد المقدس بقيادة عبد القادر الحسيني لتحرير الوطن من الانتداب البريطاني، ومواجهة المنظمات الصهيونية المسلحة.
وغادر الحاج الحسيني فلسطين مكرها في عام 1937 ولم يرجع إليها إلا في عام 1967. وقضى هذه السنوات متنقلا بين عدة دول منها: لبنان وألمانيا وسويسرا وفرنسا ومصر. وقام خلالها بنشاطات متعددة من أجل فضح الإرهاب الصهيوني، وكشف معانات الشعب الفلسطيني.
وقد ساهم في تأسيس هيئات عديدة من أجل تحرير وطنه، منها: اللجنة المركزية لإعانات المنكوبين، واللجنة العربية العليا لفلسطين. وتقديرا لجهاده وعرفانا بجهوده، أنتخب رئيسا للمجلس الشرعي الإسلامي، والهيئة العربية العليا لفلسطين، ورئيسا لمؤتمر العالم الإسلامي، ورئيسا شرفيا لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين.
الحسيني وقضايا المغرب العربي
اغتنم الشيخ الحسيني فرصة إقامته في ألمانيا بين 1941 و1945 لحث القادة الألمان الذين تربطه بهم علاقات قوية على مساعدة المغاربة على نيل الاستقلال. وحذر من خطورة نزول الحلفاء بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية بشمال إفريقيا في 2 نوفمبر 1942، وتحوّله جراء ذلك إلى مستعمرات أمريكية. وبالمقابل يضمن المفتي للألمان إذا وافقوا على اقتراحه تجنيد الآلاف من المغاربة الذين سيحاربون إلى جانبهم. و في هذا السياق قدم مذكرة إلى وزارة الخارجية الألمانية في 18 نوفمبر 1942 تضم ست نقاط، منها: تحرير المغرب العربي والاعتراف باستقلاله وسيادته ووحدته؛ إبرام الدولة المغربية المتحدة معاهدة مع دول المحور، وتصبح حليفة لها على قدم المساواة والتعاون المتبادل...الخ.
كما طالب مرارا السلطة الألمانية التدخل لدى حكومة فيشي لإطلاق سراح الأمير عبد الكريم الخطابي والزعيم التونسي الحبيب بورقيبة وبعض رفقائه. غير أن الحكام الألمان رفضوا كل المطالب التي قدمها الشيخ الحسيني باسم المغرب العربي لأنهم كانوا حريصين على حسن علاقتهم مع الحكومة الفرنسية الموالية لهم.
جمعية العلماء والقضية الفلسطينية
وكتب العلماء الجزائريون عن القضية الفلسطينية من كل جوانبها، وتابعوا تطوراتها المختلفة. وسأقف هنا عند محطتين هامتين: مشروع تقسيم فلسطين (1937)، وتأسيس دولة إسرائيل (1948).
وجّه الشيخ الطيب العقبي انتقادات شديدة إلى عصبة الأمم التي تخلت عن قيمها، وأهملت رسالتها فتهاونت في القيام بواجباتها الأساسية حين أوكلت مصير الشعب الفلسطيني إلى لجنة التحقيق الانجليزية المنحازة للصهاينة، والتي أوصت في تقريرها بتقسيم فلسطين إلى ثلاث مناطق توزع على الفلسطينيين واليهود والانجليز. وهو قرار عارضته جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، وأرسلت في هذا الشأن رسالة احتجاج إلى وزير الخارجية الفرنسي تطالبه بتدخل حكومته " بكل سرعة لمنع هذا التقسيم".
واعتبر الشيخ أبو يعلى الزواوي قرار تقسيم فلسطين قرارا جائرا وغير شرعي، ودعا اليهود إلى رفضه لأنه قائم على باطل، وحثهم على البقاء في دولة فلسطينية عربية تصون حقوقهم كما صانت مختلف الدول الإسلامية حقوق أجدادهم عبر التاريخ.
وأكد الشيخ أبو يقضان أن إستراتيجية الاستعمار لا تستهدف فقط فلسطين وحدها فهي تسعى إلى تقسيم العالم الإسلامي كله، ولهذا السبب يجب على كل مسلم أن يشعر أنه هو المستهدف وليس الفلسطيني وحده: "كل من يمس فلسطين يمس العرب والمسلمين، وكل عدوان يوجه إليها فهو يوجه إليهم جميعا".
ونشرت جريدة البصائر البيانات والنداءات التي كانت تصلها من داخل فلسطين والجمعيات الفلسطينية في الخارج والهيئات الجزائرية المناهضة لمشروع التقسيم. منها: بيان شباب المؤتمر الإسلامي الجزائري، وبيان اللجنة القومية للدفاع عن فلسطين بالمغرب الأقصى.
وتحدث الشيخ الطيب العقبي في نادي الترقي الأيام الثلاثة 3 و6 و8 أوت 1937 كشف خلال مداخلاته عن مخاطر تقسيم فلسطين وتمكين الصهاينة في قلب العالم العربي والإسلامي. وتأسست بعد هذه الدعاية في نادي الترقي لجنة إغاثة فلسطين والدفاع عنها برئاسة الشيخ الطيب العقبي، وتولى كتابتها العامة الأستاذ محمد الأمين العمودي. وقررت إرسال برقية إلى وزير خارجية فرنسا تعبر فيها عن احتجاجها على مشروع تقسيم فلسطين، ورسالة دعم ومساندة إلى الشيخ محمد أمين الحسيني بوصفه رئيس اللجنة العليا في القدس.
وفي عام 1948 عادت القضية الفلسطينية للواجهة، وتنافس الكتاب على تناولها بالدراسة والتحليل. وفتحت البصائر صفحاتها فكتب حولها العديد من العلماء الجزائريين وعلى رأسهم الشيخ محمد البشير الإبراهيمي. وأسرع بعضهم إلى تشكيل هيئة لتجسيد أفكارهم وأقوالهم على أرض الواقع، فأسس الشيخ الإبراهيمي والشيخ العقبي والشيخ إبراهيم بيوض والأستاذ أحمد توفيق المدني والسيد فرحات عباس "لجنة إعانة فلسطين".
وكانت باكورة أعمالها هي إرسال برقية احتجاج إلى الأمين العام لجامعة الدول العربية وأخرى إلى الأمين العام لهيئة الأمم المتحدة، وقد جاء في هذه البرقية الأخيرة: " إن لجنة إعانة فلسطين التي تشمل كل المنظمات والشخصيات الممثلة للشعب المسلم الجزائري تحتج على ما مس العالم الإسلامي من عدوان صريح قامت به الصهيونية، وهي تحاول إقامة دولة يهودية فوق أرض فلسطين. واللجنة تعتقد أن هذه المحاولة تناقض ميثاق هيئة الأمم المتحدة وتمثل تهديدا صريحا للسلام العالمي. واللجنة تؤكد تضامن المسلمين الجزائريين مع الشعب العربي الفلسطيني في حربه مع الصهيونية الامبريالية الاستعمارية."
وجندت هذه اللجنة حوالي 100 متطوع للجهاد في فلسطين وجمعت 7 ملايين فرنك.
وخلاصة القول، أن العلماء الجزائريين سخروا أقلامهم وجندوا منابرهم للدفاع عن القضية الفلسطينية، فكتب عنها كل القادة البارزين في جمعية العلماء، فارشدوا الرأي العام إلى الاهتمام بها، وتعميق صلة الجزائريين بالقدس. كما نبّهوا مبكرا إلى الأطماع الصهيونية في فلسطين، وبيّنوا المؤامرات الاستعمارية لتقسيم هذه البلاد العربية. كما ساهم العلماء الجزائريون في تأسيس جمعيات للترويج لهذه القضية الإنسانية، وجمع المساعدات لإعانة الفلسطينيين.
الحسيني يشيد بمواقف علماء الجزائر
لقد راسل محمد أمين الحسيني أهل الرأي وأصحاب القرار في العالم الإسلامي للدعاية للقضية الفلسطينية وجمع التبرعات لها، ومنهم العلماء الجزائريين. وقد استجابوا كل مرة لهذه النداءات -كما أشرت إلى بعضها من قبل- بما تسمح به ظروف الجزائر المستعمرة، فالإمكانات قليلة بينما معوّقات الإدارة الفرنسية كثيرة.
وكاتب في هذا الشأن الشيخ محمد البشير الإبراهيمي للتعبير عن سعادته بدعاية جمعية العلماء المسلمين الجزائريين من أجل نصرة القضية الفلسطينية، وشكرها على تأسيسها للهيئة الجزائرية لإعانة فلسطين، وتمنى لها التوفيق والنجاح. كما دعاها إلى " رفع الأصوات جهرة في أنحاء الجزائر لحمل المؤمنين الصادقين على نجدة إخوانهم حماة الأرض المقدسة الذين هم في هذا الجهاد بالقاسي في أمس الحاجة على إسعاف الجرحى وإعالة المنكوبين والإنفاق على اللاجئين وتسليح المجاهدين." ثم عبّر عن ثقته الكاملة في كرم الجزائريين وسخائهم من أجل نصرة القضايا العادلة وتحرير الأوطان المغتصبة: "وإننا لواثقون من إخواننا في الجزائر سيشتركون بنصيبهم في هذا الجهاد المقدس ويشدون عضدهم ويمدونهم بالمال سراعا وبما تصل إليه أيديهم من وسائل القوة والمعونة التي تساعدهم على دفع العدو عن المسجد الأقصى وما حوله من أراضي وديار مباركة."
كما بعث المفتي الحسيني رسالة إلى الشيخ الطيب العقبي عبّر فيها عن تقديره لجهوده في توعية العقول وشحذ الهمم لتحرير فلسطين، وكشف عن إعجابه بالشعب الجزائري الذي أقبل على مساعدة إخوانهم الفلسطينيين رغم المضايقات والمعوّقات، فقال في هذا السياق: " أشكركم والإخوان الجزائريين على العواطف الشريفة التي أظهرتموها تضامنا مع الإخوان الفلسطينيين ودفاعا عن البقاع المقدسة، ونرفع أكف الابتهال للعلي القدير ونسأله أن ينيلكم ما تستحقون من الثواب لما بذلته أنفسكم الكريمة من الجهود الجبارة."
وبقي المفتي محمد أمين الحسيني على صلة وثيقة بالعلماء الجزائريين مشيدا بمواقفهم الشجاعة ومساندتهم المستمرة للقضية الفلسطينية. وكان من الزعماء والعلماء الأوائل الذين استقبلوا الشيخ محمد البشير الإبراهيمي حين زار القاهرة في عام 1952. ونظم حفلة عشاء على شرف رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين دعا إليها كبار رجال الفكر والسياسة.