الدكتور حسان مريود
د. معن بشور
جمع الدكتور حسّان أحمد مريود، رحمه الله، بين دبلوماسية رصينة والتزام أصيل، بين دراية سياسية وحيوية نضالية، جعلته يرحل وهو ابن السادسة والثمانين وقد ترك بصمات له في أكثر من صفحة من حياته وحياة وطنه.
وإن أنسى، لا أنسى حين رنّ الجرس في منزلي، من ساعة متأخرة من ليل شتوي قارص، لأجد أمامي رجلين قاربا السبعين من عمرهما أولهما منصور سلطان الأطرش، وثانيهما حسان أحمد مريود (رحمهما الله) وأعترف أنني خفت للوهلة الأولى من أن يكون قد حصل أمر جلل استدعي مجيء الرجلين الكبيرين، مقاماً وعمراً، من دمشق إلى بيروت، كما شعرت أيضاً وكأنني في أحد أيام الثورة السورية الكبرى ضد الاستعمار الفرنسي عام 1925، حيث كان سلطان باشا الأطرش قائدها العام وأحمد مريود شهيدها الأبرز وقد أبليا بلاءً حسناً في مقارعة مسلحة مع جنود الاحتلال امتدت عدّة سنوات.
قال لي منصور الأطرش: أتينا على عجل لنحصل على توقيعك مع النائبين آنذاك، عصام نعمان وأحمد سويد، على نداء يدعو إلى كونفدرالية تضم سوريا والعراق والأردن (وكان العراق تحت الحصار بعد الحرب العالمية التي شنتها واشنطن عليه عام 1991)، وقد اخترنا ثلاث شخصيات قومية من البلدان الثلاثة بالإضافة إلى لبنان، واتفقنا أن يذاع البيان غداً في العواصم الأربعة في الوقت ذاته.
امتلكني يومها شعور بالإعجاب والاستغراب، الإعجاب بهذه الروح القومية المتأججة في صدري الرجلين الكبيرين والتي تدفعهما إلى المجيء ليلاً من دمشق إلى بيروت في ذلك الليل الماطر، وربما المثلج، والاستغراب لهذا التفاؤل بأن يكون لنداء يحمل تواقيع عدداً من الأشخاص تأثير في مستنقع آسن يضج بالخلافات والأحقاد، ومع ذلك وقعت على النداء دون تردّد، وطلبت من الرجلين المبيت فأصرا على العودة بعد الحصول على توقيع نعمان وسويد، وأوصيانا أن نوزع النداء صباح اليوم التالي على وسائل الإعلام في بيروت لموقعهما الإعلامي الهام.
بعدها توثقت علاقتي بحسان مريود، الذي كانت تجمعني به دورات سنوية لمؤتمرات قومية، وقومية – إسلامية، وعربية عامة، وكذلك ملتقيات ولقاءات بما فيها لقاء تكريمي أقامه على شرفه المنتدى القومي العربي، وأخذت أتعرف عن كثب على هذا الرجل الذي اختارته بلاده سوريا ليكون أول سفير لها في الجزائر بعد الاستقلال في رمزية لافتة تشير إلى أن من يمثل دمشق لدى ثورة المليون ونصف شهيد، هو ابن شهيد رائد في الكفاح ضد الاستعمار الفرنسي (أحمد مريود)، وابن بلدة لها سجل حافل بالمعارك البطولية ضد جنود الاستعمار (جباتا الخشب).
وكلما توثقت علاقتي بهذا الرجل كان احترامي له يزداد ويترسّخ، فلقد علمت أنه لم يستمر طويلاً في وزارة الخارجية التي اختير لها أواخر 1963، ولا في عضوية مجلس الرئاسة التي انتخب لها عام 1965، لأنه كان من تيار داخل حزبه (حزب البعث)، وداخل حكومته، يرفض استمرار حال الجفاء والتوتر بين دمشق والقاهرة في الستينات إدراكاً منه بخطورة الخلاف المحتدم بين قامة عربية كبيرة كجمال عبد الناصر، وحزب قومي مؤثر كحزب البعث، على مستقبل الأمة ونضالها وكفاحها.
ولقد لاحظت أيضاً أن الرجل ديمقراطي دون استعراض وتبجح، وحواري من طراز رفيع، قادر على التمييز دوماً بين ما هو محق ومشروع من مطالب الناس، وبين ما هو خطير ومشبوه من أجندات الأعداء، لذلك قاد حسان مريود مع منصور الأطرش (رحمهما الله)، ومحمود الجيوش (رعاه الله) والعديد من شخصيات سوريا الموالية والمعارضة حركة شعبية لنصرة العراق بوجه الحصار والعدوان، وكان مع رفاقه من أوائل زوار بغداد بعد قطيعة دامية دامت عقدين تقريباً ويوم كان جوازا سفر البلدين يسمحان بالسفر إلى كل بلدان العالم ما عدا "إسرائيل والعراق للسوريين"، و"إسرائيل وسوريا للعراقيين" في مرحلة تاريخية من المراحل الأبشع في حياتنا العربية المعاصرة.
كان حسان يعلّق ممازحاً على نشاطه في تجمع "لجان نصرة العراق" في سوريا في التسعينات وبعدها بالقول: لقد بدأنا حياتنا في "لجان نصرة العراق" يوم قامت ثورة رشيد عالي الكيلاني المجيدة ضد الاستعمار البريطاني وأدواته، ويبدو أننا سننهي حياتنا ونحن ننتصر للعراق بوجه العدوان الاستعماري، وهو البلد الذي تربط شعبه بالسوريين أعمق الأواصر وأوثق الروابط أيّاً تكن العلاقة بين الأنظمة.
ولم تكن "جباتا الخشب" مجرد مسقط رأس لحسان مريود، بل كانت محل فخر واعتزاز، لاسيّما حين كان يروي لنا وللكثير من أصدقائه العرب، حكايات المعارك التي خاضها أهلها، وقصص الشهداء الذين رووا بالدم ترابها، بل موقعها في الجولان العربي السوري المترابط جغرافياً وتاريخياً واجتماعياً بفلسطين والأردن ولبنان وصولاً إلى العراق، وهو ترابط قلّما تخلو منه عائلة جولانية، فأهل مريود أنفسهم هم عائلة من جذور أردنية تنتسب إلى عشيرة "المهيدات"، ولهم مصاهرات مع عائلات لبنانية في شبعا، وفلسطينية وعراقية، وقد أشار النائب اللبناني السابق منيف الخطيب في مذكرات لوالده المجاهد أحمد الخطيب (رحمه الله)، عن دور العائلتين المتصاهرتين (مريود والخطيب) في العديد من المعارك ضد الاستبداد التركي والاستعمار الفرنسي، كما دورهما بصون الأخوة الوطنية التي تجمع المسلمين والمسيحيين في وجه رياح الشر والفتنة التي تهبّ على المنطقة بين الفينة والأخرى، فلطالما كان حسّان، وهو المؤمن دون تعصّب، يردد الآية الكريمة "محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم"، في إلحاح منه على وحدة الوطن في وجه شرور الأعداء.
يبقى إن التواضع هو أحد أبرز فضائل هذا الرجل الكبير، فلم تبعده المناصب يوماً عن شعبه، وأما المواقع السياسية والدبلوماسية وقد بلغ منها أعلى المراتب (بما فيها نيابة رئاسة المجلس التنفيذي لليونسكو في باريس) فلقد كان يضعها في خدمة مبادئه وأهدافه وإيمانه العميق بالوحدة العربية.
ومن يعرف حسّان مريود يدرك أن آخر نبضات قلبه الكبير قبل توقفه كانت تخفق بالحزن العميق على سوريا، وعلى الشهداء من أبنائها، وبالقلق على أمنها واستقرارها ووحدتها ودورها القومي المميّز، ولقد كان في كل لقاءاته مع المسؤولين في دمشق يعرب عن قلقه من أخطاء وخطايا في الممارسة، كما كان يعرب عن خشيته دائماً من أن تكون سوريا مستهدفة من أعداء الأمة بعد العراق.