حدث في الثالث والعشرين من ذي الحجة
زاهد أبو غدة
في الثالث والعشرين من ذي الحجة من عام 147 ولد الفضل بن يحيى بن خالد بن بَرْمَك البرمكي، أخو الخليفة العباسي هارون الرشيد من الرضاع، ووزيره وواليه على خراسان فيما بعد، واتسم الفضل بحسن التدبير، وكان من أجود الناس على ما عُرِف عن أسرته البرامكة من الكرم وسعة الجود.
وكان جدهم برمك من مجوس بلخ، وكان يخدم النوبهار وهو معبد كان للمجوس بمدينة بلخ توقد فيه النيران، واشتُهِر برمك المذكور وبنوه بسدانته، وكان برمك عظيم المقدار عندهم، قال ابن خلكان: ولم أعلم هل أسلم أم لا.
كان والده يحيى البرمكي، المولود سنة 120 والمتوفى سنة 190، سيد بني برمك وأفضلهم، وزيراً سرياً جواداً، ورضع الرشيد من زوجة يحيى مع ابنها الفضل، فكان يدعو يحيى: يا أبي! وكان يحيى مؤدب الرشيد ومعلمه ومربيه، فقد أمره المهدي سنة 163، وقد بلغ الرشيد الرابعة عشرة من عمره، أن يلازمه ويكون كاتبا له، ولما ولي هارون الخلافة سنة 170 دفع خاتمه إلى يحيى، وقلده أمره، فبدأ يعلو شأنه، ومن وصايا يحيى لبنيه: اكتبوا أحسن ما تسمعون، واحفظوا أحسن ما تكتبون، وتحدثوا بأحسن ما تحفظون.
وأم الفضل جارية اسمها زبيدة من مولدات المدينة، وقد أرضعت كما أسلفنا هارون الرشيد، وكذلك الخيزران أم الرشيد أرضعت الفضل، وفي ذلك قال مروان بن أبي حفصة يمدح الفضل:
كفى لك فضلا أن أفضل حرة ... غَذَتك بثدي والخليفةَ واحدُ
لقد زِنتَ يحيى في المشاهد كلها ... كما زان يحيى خالدا في المشاهد
وسار الرشيد على سنة والده فجعل ولده محمدا الأمين في حِجر الفضل بن يحيى، والمأمون في حِجر جعفر، ولذا كان للفضل دور حين عين الرشيد في سنة 175، ابنه محمد بن زبيدة بولاية العهد، ولقبه الأمين، وأخذ له البيعة وعمره خمس سنين، وذلك أن جماعةً من بني العباس مدُّوا أعناقهم إلى الخلافة بعد الرشيد، إذ لم يكن له ولي عهد، فجاء خال الأمين، عيسى بن جعفر بن المنصور، إلى الفضل بن يحيى فحثه على ذلك، وقال له: إنه ولدك، وخلافته لك. فوعده بذلك، وسعى فيها لدى الرشيد حتى بايع الناس له بولاية العهد، وعُهِد بتأديب الأمين لهيثم بن بشير الواسطي، فقال له الفضل بن يحيى: ليكن أكثر ما تأخذ به وليّ العهد تعظيم الدماء، فإني أحب أن يُشرِبَ الله قلبَه الهيبةَ لها والعفاف عن سفكها.
استوزر الرشيد الفضل بن يحيى مدة قصيرة، ثم أراد أن يستبدله بأخيه جعفر وكان جعفر أبلغ في الرسائل والكتابة منه، فقاللأبيهما يحيى: يا أبت، إني أريد أن أجعل الخاتم الذي لأخي الفضل لجعفر - وكان يدعوه يا أخي - وقد احتشمت من الكتاب إليه في ذلك فاكفنيه، فكتب والده إليه: قد أمر أمير المؤمنين بتحويل الخاتم من يمينك إلى شمالك. فكتب الفضل إلى والده: قد سمعت مقالة أمير المؤمنين في أخي وأطعت، وما انتقلت عني نعمة صارت إليه، ولا غربت عني رتبة طلعت عليه، فقال جعفر: لله أخي ما أنفَسَ نفسه، وأبينَ دلائل الفضل عليه، وأقوى منة العقل فيه، وأوسع في البلاغة ذرعه.
وفي سنة 176 خرج على الرشيد يحيى بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب في بلاد الدَيْلَم، وهي المنطقة الواقعة في أواسط إيران اليوم وتسمى كذلك الجبال، والديلم هم سكانها، ولجأ إليها يحيى بحماية أميرها، واشتدت شوكته، وكثرت جموعه، وأتاه الناس من الأمصار، فاغتمَّ الرشيد لذلك، فندب إليه في سنة 178 الفضل بن يحيى في خمسين ألفاً وولاه على المشرق بأكمله من شَروَان إلى أقصى بلاد الترك، وهي منطقة تبدأ من جنوبي شرق البحر الأسود وتنتهي في سمرقند وتسمى في الجملة خراسان، فلجأ الفضل إلى الأساليب السلمية فكاتب يحيى بن عبد الله، ولطف به، وحذره، وأشار عليه، وبسط أمله، وكاتب أمير الديلم، وبذل له ألف ألف درهم على أن يسهل موافقة يحيى بن عبد الله، واستجاب يحيى للصلح، على أن يكتب له الرشيد أماناً بخطه يشهد عليه فيه القضاة والفقهاء، وجلة بني هاشم ومشايخهم، فأجابه الرشيد إلى ذلك، وسر به، وسير الأمان مع هدايا وتحف، فقدم يحيى مع الفضل بغداد، فلقيه الرشيد بكل ما أحب، وأمر له بمال كثير، وعظمت منزلة الفضل عنده، وتلقاه الرشيد خارج بغداد في جمع من الناس وأكرمه غاية الإكرام، وأمر الشعراء بمدحه والخطباء بذكر فضله، حيث حقق الصلح بين العباسيين والفاطميين، ففي ذلك يقول مروان بن أبي حفصة يمدح الفضل بن يحيى ويشكره على صنيعه هذا:
ظفرتَ فلا شُّلت يدٌ برمكية ... رتقتَ بها الفَتق الذي بين هاشمِ
على حين أعيا الراتقين التئامُه ... فكفوا وقالوا ليس بالمتلائم
فأصحبت قد فازت يداك بخطة ... من المجد باق ذكرها في المواسم
وتولى الفضل خراسان وهو شاب في الثلاثين من عمره، ويبدو أنه مع انشغاله بالنزاع مع يحيى بن عبد الله انصرف إلى الصيد واللهو، فكتب بذلك صاحب البريد بخراسان إلى الرشيد، فوصله الكتاب ويحيى جالس بين يديه، ومضمون الكتاب أن الفضل بن يحيى متشاغل بالصيد وإدمان اللذات عن النظر في أمور الرعية، فلما قرأه الرشيد رمى به إلى يحيى، وقال له: يا أبت، اقرأ هذا الكتاب واكتب إليه بما يردعه عن هذا، فكتب يحيى على ظهر كتاب صاحب البريد: حفظك الله يا بني وأمتع بك، قد انتهى إلى أمير المؤمنين مما أنت عليه من التشاغل بالصيد ومداومة اللذات عن النظر في أمور الرعية ما أنكره، فعاوِد ما هو أزين بك، فإنه من عاد إلى ما يزينه أو يشينه لم يعرفه أهل دهره إلا به، والسلام. وكتب في أسفله هذه الأبيات:
انصب نهارا في طلاب العلا ... واصبر على فقد لقاء الحبيب
حتى إذ الليل أتى مقبلا ... واستترت فيه وجوه العيوب
فكابد الليل بما تشتهي ... فإنما الليل نهار الأريب
كم من فتى تحسبه ناسكا ... يستقبل الليل بأمر عجيب
غطى عليه الليل أستاره ... فبات في لهو وعيش خصيب
ولذة الأحمق مكشوفة ... يسعى بها كل عدو رقيب
والرشيد ينظر إلى ما يكتب، فلما فرغ قال: أبلغت يا أبت! فلما ورد الكتاب على الفضل لم يفارق المسجد نهارا إلى أن انصرف من عمله.
وسار الفضل في أهل خراسان بالعدل وأزال الجور، وبنى المساجد والحياض والربط، واتخذ بخُراسان جنداً من العجم يبلغ عددهم خمسمئة ألف، وسماهم العباسيّة، وضمن بذلك ولاء هؤلاء ومن وراءهم، وفي ذلك يقول مروان بن أبي حفصة:
ما الفضل إلا شهاب لا أفول له ... عند الحروب إذا ما تأفل الشهبُ
أمست يدٌ لبني ساقي الحجيج بها ... كتائبٌ ما لها في غيرهم أرب
كتائبٌ لبني العباس قد عَرَفت ... ما ألفَّ الفضلُ منها العجمُ والعربُ
أثبتَّ خمس مئين في عدادهم ... من الألوف التي أحصت لها الكتب
يقارعون عن القوم الذين هم ... أولى بأحمد في الفرقان إن نسبوا
وفتح الفضل بن يحيى كابل، وغزا في سنة 178 منطقة ما وراء النهر من بخارى، فاستأمن له صاحب أشروسنة، وكان متمرداً على الخلافة، ووصلَ الفضلُ الوزراءَ والقواد والكتاب في سنة 179 بعشرة آلاف ألف درهم، واتجه الفضل لتوطيد الدين الإسلامي في بلاد أجداده، ولما دخل إلى بلخ وهي وطنهم، أراد هدم بيت النار النوبهار، فلم يقدر عليه لإحكام بنائه، فهدم منه ناحية وبنى فيها مسجدا.
وعزله الرشيد عن خراسان سنة 180، وولى علي بن عيسى بن ماهان، فعسف الناس ولم تحمد سيرته، وركب الرشيد يوماً مع يحيى بن خالد البرمكي فرأى الرشيد في طريقه أحمالا فسأل عنها فقيل له: هذه هدايا خراسان بعث بها علي بن عيسى بن ماهان،فقال الرشيد ليحيى: أين كانت هذه الأحمال في ولاية ابنك؟ فقال يحيى: كانت في بيوت أصحابها! فأُفحِم الرشيد وسكت. وكتب الفضل بن يحيى إلى عامل له: بئس الزاد إلى المعاد: العدوان على العباد.
وفي مساعيه لجلب الاستقرار للمنطقة خطب الفضل بن يحيى في سنة 182 ابنة ملك الخزر، وكان ملكاً عظيماً يسيطر من تركستان الشرقية إلى وسط روسيا وأوكرانيا، وحُملت العروس إلى الفضل فماتت في الطريق ببلد يدعى برذعة، فعاد من كان معها في خدمتها من العساكر وأخبروا الخاقان أنها قتلت غيلة، فاشتد غضبه وتجهز للشر وخرج بجيوشه من الباب الحديد، وأوقع بأهل الإسلام وبالذمة، وقتل وسبى مئة ألف، وعظمت المصيبة على المسلمين، فانزعج هارون الرشيد واهتم لذلك، وجهز البعوث، وأعاد إرسال الفضل بن يحيى للمنطقة فبنى سوراً يحجز بين المناطق الإسلامية في الجنوب وبين الترك في الشمال، قبل إسلامهم في أيام السلاجقة، ويزعم أحد الجغرافيين المسلمين أن طوله يمتد مسيرة 27 يوماً، وهذا مستبعد، ولعله اشتبه عليه مع ما سمع عن سور الصين العظيم، والأصح قول المؤرخين الذين وصفوه بباب الفضل بن يحيى، فهو سور حصين في مضيق بين جبلين يعيق تقدم الجيوش الغازية، وحدد ابن خلدون موقعه التقريبي في مضايق الوديان التي تقع شرقي كشغر في تركستان الشرقية في الصين.
ثم إن الرشيد في سنة 187 قتل جعفر بن يحيى البرمكي في نكبة البرامكة المشهورة، وكان الفضل عنده ببغداد، فقبض عليه وعلى أبيه يحيى، ثم توجه الرشيد إلى الرقة وهما معه وجميع البرامكة في الحجز، فلما وصلوا إليها وجه الرشيد إلى يحيى أن أقم بالرقة أو حيث شئت، فوجه إليه: إني أحب أن أكون مع ولدي، فوجه إليه: أترضى بالحبس؟ فذكر أنه يرضى به، فحبس معهم، ووسع عليهم، ثم كانوا حينا يوسع عليهم وحينا يضيق عليهم حسبما ينقل إليه عنهم، واستصفى الرشيد أموال البرامكةكافة.
قال المسعودي: كانت مدة دولة البرامكة وسلطانهم وأيامهم النضرة الحسنة، من استخلاف هارون الرشيد إلى أن قتل جعفر بن يحيى: سبع عشرة سنة وسبعة أشهر وخمسة عشر يوما.
وكان الفضل كثير البر بأبيه، وكان أبوه يتأذى من استعمال الماء البارد في زمن الشتاء. فيحكى أنهما لما كانا في السجن لم يقدرا على تسخين الماء، فكان الفضل ياخذ الإبريق النحاس وفيه الماء فيلصقه إلى بطنه زمانا عساه تنكسر برودته بحرارة بطنه حتى يستعمله أبوه بعد ذلك، وتوفي والده في السجن سنة 190 وقد بلغ السبعين من عمره، وصلى عليه الفضل ودفن على شاطئ الفرات قرب الرقة.
وكان الفضل ينشد وهو في السجن هذه الأبيات، لصالح بن عبد القدوس من جملة أبيات قالها وهو محبوس:
إلى الله فيما نالنا نرفع الشكوى ... ففي يده كشفُ المضرة والبلوى
خرجنا من الدنيا ونحن من أهلها ... فلا نحن في الأموات فيها ولا الأحيا
إذا جاءنا السجان يوما لحاجة ... عجِبنا وقلنا: جاء هذا من الدنيا
وتوفي الفضل بن يحيى في السجن بالرقة سنة 193، بعد شلل أصابه في لسانه وشِقِّه، وصلى عليه إخوانه في القصر الذي كانوا فيه، ثم أخرج فصلى عليه الناس، وجزع الناس عليه، وتضاغطوا وازدحموا في جنازته، ودفن إلى جانب قبر أبيه، وقال بعض الشعراء:
ليس نبكي لكم يا بني برمك أن زال ملككم فتقضى
بل نبكيكم لنا ولأنا ... لم نر الخير بعدكم حلّ أرضا
ولما بلغ الرشيدَ موته قال: أمري قريب من أمره! وتوفي الرشيد بطوس سنة 193.
وكان الفضل أجود من أخيه جعفر، وأندى راحة، إلا أنه كان فيه كِبرٌ شديد، وكان جعفر أطلق وجهاً، وأظهر بِشراً، ولكنه لا يعطي، وكان الناس يؤثرون لقاء جعفر على لقاء الفضل، وقال ابن الأثير: كان الفضل بن يحيى من محاسن الدنيا لم ير في العالم مثله. وتمتلئ كتب الأدب والتاريخ بأخباره مما تفرد له الكتب، ونورد هنا بعضاً مما أوردته عن كرمه البالغ.
قال عبد الله بن الحسين العلوي: أتيت الفضل بن يحيى فأجلسني معه وأكرمني، فكلمته في دَيْني ليكلّم أمير المؤمنين في قضائه عني. قال: فكم دينك؟ قلت: ثلثمئة ألف درهم. قال: نعم. فخرجت من عنده وأنا مغموم لضعف رده، فمررت ببعض إخواني مستريحاً إليه، ثم صرت إلى منزلي، فوجدت المال قد سبقني.
وحدث بعض الهاشميين عن خلف المصري قال: مررت يوماً بباب يحيى بن معاذ فوجدته مغلقاً ولم أر بالباب أحداً، فأنكرت ذلك، فدنوت إلى الباب واستفتحت ففتح لي ودخلت عليه وسألته عن حاله فذكر أنه توارى عن غرمائه، فقلت: وكم لديّانك عليك؟ فقال: ثلاثمئة ألف درهم، ثم مضيت إلى الفضل بن يحيى فأخبرته فسكت، فلما انصرف إلى منزلي كتب إلي: إنك دللتنا على مكرمة فشكرناك على ذلك، وأمرنا لك بمئة ألف درهم لدلالتك، وبعثنا إليك بثلاثمئة ألف درهم لتوصلها إلى يحيى بن معاذ، فأوصلتها إليه فقضى دينه بها.
وحدث رجل من جيران الفضل قال: مر بي الفضل بن يحيى في يوم صائف منصرفاً من المدينة يريد منزله، فقلت حالفاً: لا والله إنْ في منزلي قليل ولا كثير! فعطس الفضل، فقلت: يرحمك الله، وقد كان سمع يميني فأمر بعض غلمانه أن يحملني معه على دابته، فلما صار بي إلى قصره أخرج إليّ خمسة آلاف درهم وعشرة أثواب، فانصرفتُ بها إلى منزلي، فقالت لي امرأتي: والله لقد خرجت من عندنا وما تملك قليلاً ولا كثيراً، فمن أين سرقت هذا؟ فأعلمتها القصة فلم تصدقني قولي، واستراب الجيران بحالي وتناهى الخبر إلى السلطان فطمع فيّ وأخذني فحبسني، فقلت له: إنه كان من أمري كيت وكيت، فوقع خبري إلى الفضل فأمر بإحضاري، فلما أُحضرت ورآني عرفني وأمر بإطلاقي ووصلني بخمسة آلاف أخرى وبعشرة أثواب، وقال: تعهد بما ننفعك، فلم يزل على ذلك حتى حدث من أمرهم ما حدث.
وجاء محمد بن إبراهيم الإمام العلوي إلى الفضل بن يحيى يوماً وكان قد ركبه دين وحمل حُقَّة فيها جوهر، فلما وصل إليه قال: قد لزمني دين أحوجني إلى احتيال ألف ألف درهم، وعلمتَ أن التجار لا يسمحون بإخراج مثلها وإن وثَّقنا الرهن، ولك معاملون وتجار مطيعون، ومعي رهن فإن رأيت أن تأمر بقبضه وحمل هذا المال إلينا فأنت أولى بذلك، فقال الفضل: نعم لنا تجار يطيعوننا ويسارعون إلى أمرنا، ولكن ما هذا الرهن؟ فوضع الحقة بين يديه، ففتحها حتى نظر إليها، فأُعجب بالجوهر الذي فيها، ثم أمر بإعادتها إلى حالها وقال: ضع خاتمك عليها، فختمها، قال فقال الفضل: إنَّ نُجح الحاجة أن تقيم في منزلي الذي أنا فيه، فقال: يشق عليّ المقام، فقال: وما يشق عليك؟ إن رأيت أن تلبس من ثيابنا شيئاً دعوت لك به وإلا فابعث إلى منزلك لتؤتى به، فأقام عنده يومه، ونهض الفضل فدعا وكيله وأمر أن يحمل إلى منزل محمد بن إبراهيم ألف ألف درهم مبَّدرة ويضعها قبالة مجلسه ليراها إذا دخل، ففعل الوكيل ذلك، وانصرف محمد إلى منزله مع المغرب، فلما دخل وقعت عينه على المال فقال: ما هذا؟ قالوا: وجه به الفضل، قال: أحسن الله جزاءه فإنه وإن كان وجه بذلك على ما رهنّاه، فقد ظهر لنا من عنايته ما قدّرناه فيه، قالوا: وما الرهن؟ قال: الحُقَّة، قالوا: قد ردها تحت خاتمك، فقال: أين هي؟ فأُتي بالحقة ففتحها حتى نظر إليها وفرح فرحاً شديداً.
وأسرع إلى دار الفضل فوجده قد سبقه إلى دار أمير المؤمنين فتبعه فلم يزل واقفاً ينتظره حتى خرج الفضل من باب آخر فصار إلى منزله وشكر له ما كان منه وانصرف عنه، فلما دخل منزله وجد فيه ألف ألف درهم سوى الأولى، فقال: ما هذا؟ قالوا: بعث به الفضل، فأتاه فقال له: جعلت فداك! أما كان فيما وجّهت به أمس كفاية حتى أردفته بمثله؟ فقال: إنه والله طالت عليّ ليلتي فركبت إلى أمير المؤمنين وأعلمته حالك فأمرني بالتقدير لك فقدّرت مئة ألف دينار، فما زال يقول ويماكسني حتى وقفت على ألف ألف فأمر لك بها، فلم أنصرف إلى المنزل حتى حُمل المال إليك، فقال محمد: لست أجد لك شكراً أقضي به حقك غير أنه على ابن محمد بن علي وعليه من الأيمان المغلظة إن وقفت بباب أحد سواك أبداً حتى ألقى الله جل وعز، ولا أسأل أحداً حاجة ما بقيت سواك! فكان لا يركب إلى أحد سوى الفضل ولا يقف بباب أحد غيره.
ولم يكن سخاؤه مقصوراً على من يقصده بل كان يشمل الرعية، وإعفاءها من الضرائب تخفيفاً عليها، وهو بهذا يحببهم في الدولة العباسية وفي تعامل المسلمين، ولعله باستمالته القلوب يوفر على خزينة الدولة ما قد تنفقه في قمع الفتن وإخماد التمرد، حدّث محمد بن الحسين بن مصعب قال: وقف الفضل بن يحيى بخراسان موقفاً لم يقفه أحد قط، خرج إلى الميدان ليضرب بالصوالج فأمر بدفاتر البقايا التي على الناس فأحضرت، وأمر الحاجب بالخروج إلى الناس وإعلامهم أنه قد وهبها لهم ثم أمر بها فضربت بالنار، وكان مبلغ ذلك أكثر من عشرين ألف ألف درهم. والضرب بالصوالج رياضة معروفة إلى يومنا في آسيا الوسطى وهي ضرب الكرة من على ظهور الخيل.
وقد يقال: إن هذا الكرم من غني شديد الثراء، ولكنه في الواقع طبعٌ لزمه حتى في أحلك الساعات وهو في السجن، فقد أرسل هارون الرشيد مسرورا الخادم إلى السجن، فقال للفضل: إن أمير المؤمنين يقول لك: إني قد أمرتك أن تصدقني عن أموالكم، فزعمت أنك قد فعلت، وقد صح عندي أنك بقيت لك أموالا كثيرة، وقد أمرني إن لم تطلعني على المال أن أضربك مئتي سوط، وأرى لك أن لا تؤثر مالك على نفسك، فقال الفضل: والله ما كذبتُ فيما أخبرتُ به، ولو خُيرت بين الخروج من ملك الدنيا وأن أضرب سوطا واحدا لاخترت الخروج، وأمير المؤمنين يعلم ذلك، وأنت تعلم أنا كنا نصون أعراضنا بأموالنا، فكيف صرنا نصون أموالنا بأنفسنا، فإن كنت قد أُمرتَ بشيء فامض له.
فضربه الخدم مئتي سوط، وهم لا يحسنون الضرب، فكادوا أن يتلفوه، وتركوه، فعالجه رجل بصير بالعلاج من أهل السجن حتى شُفي، فاقترض الفضل من بعض أصحابه عشرة آلاف درهم وسيرها له، فردها عليه، فاعتقد أنه قد استقلها، فاقترض عليها عشرة آلاف أخرى وسيرها، فأبى أن يقبلها وقال: ما كنت لآخذ على معالجة فتى من الكرام كراء، والله لو كانت عشرين ألف دينار ما قبلتها، فلما بلغ ذلك الفضل قال: والله إن الذي فعله هذا أبلغ من الذي فعلناه في جميع أيامنا من المكارم! وكان ذلكالمعالج في شدة وضائقة.
ولهذا مدحه الشاعر سعيد بن وهب البصري، فقال:
مدح الفضل نفسه بالفعال ... فعلا عن مديحنا بالمقال
أمروني بمدحه قلت كلا ... كبر الفضل عن مديح الرجال
ويعزى إلى الفضل بن يحيى إدخال صناعة الورق إلى الدولة الإسلامية، قال ابن خلدون: وكانت السجلات أولاً لانتساخ العلوموكتب الرسائل السلطانية والإقطاعات والصكوك في الرقوق المهيأة بالصناعة من الجلد، لقلة التآليف والرسائل السلطانية والصكوك مع ذلك، فاقتصروا على الكتاب في الرق تشريفا للمكتوبات وميلاً بها إلى الصحة والإتقان، ثم طما بحر التآليف والتدوين، وكثر ترسيل السلطان وصكوكه وضاق الرق عن ذلك، فأشار الفضل بن يحيى بصناعة الكاغد، وصنعه وكتب فيه رسائل السلطان وصكوكه، واتخذه الناس من بعده صحفًا لمكتوباتهم السلطانية والعلمية، وبلغت الإجادة في صناعته ما شاءت.
كان الفضل بن يحيى أديباً يحب الشعر ويثيب عليه، فهفت إليه الشعراء يمدحونه، وكان رغم أصوله الأعجمية نقاداً ذا قريحة شعرية، لما ولد ابنه العباس بن الفضل دخل الناس على الفضل بن يحيى يهنئونه به وفيهم أبو النضير، فوقف بين يديه وهو يقول:
ويَفرح بالمولود من آل برمكٍ ... بُغاةُ الندى والسيف والرمح والنصل
وتنبسط الآمال فيه لفضله ...
فأُرتج عليه فوقف لا يمكنه أن يجيزه. فقال له الفضل: يا أبا النضير تمم، قال: أعز الله الأمير. قال يلقنه: ويحك فقل:
ولا سيما إن كان من ولد الفضل
قال: هذا والله، أصلح الله الأمير، طلبته فلم أقدر عليه وتعللت بغيره.
وأنشد أبو الخطاب الفضل بن يحيى:
وجدْ لهُ يا بنَ أبي عليٍّ ... بنفحةٍ من ملكٍ سخيّ
فإنَّهُ عودٌ على بديّ ... فإنَّما الوسميّ بالوليِّ
فقال الفضل: بنفحة من نَفْح برمكي، فجعله كذلك.
ولما أنشده مروان بن أبي حفصة قصيدته، قال له:
ظفرتَ فلا شُلّتْ يدٌ خالديَّةٌ ... رتقتَ بها الفتقَ الذي بينَ هاشِم
فقال له الفضل: قل برمكية فقط: يشركنا في خالد بشرٌ كثير، ولا يشركنا في برمك أحدٌ.
أما ذوقه في الأمور، فتدل عليه قصة حدثت في مرض له، فكان إسماعيل بن صبيح الكاتب إذا أتاه عائداً لم يزد على السلام والدعاء، ويخفف الجلوس، ثم يلقى حاجبه فيسأله عن حاله ومأكله ومشربه ونومه، وكان غيره يطيل الجلوس، فلما شُفي الفضل قال: ما عادني في علتي هذه إلا إسماعيل بن صبيح.
ويبدو أن أخبار سخائه ومروءته التي تمتلئ بها الكتب، قد حَجبت عن أنظار المؤرخين والرواة أخبارَه في إدارة الدولة أو الولاية، وإن كان قد وصلنا نزر قليل، منه قوله النفيس الذي يبرز أسلوبه الراقي في التعامل مع الرعية واحترام حريتها الإنسانية: إنَّ حاجب الرجل عاملُه على عِرضه، وإنه لا عِوَضَ لحرٍٍّ من نفسه، ولا قيمة عنده لحريته وقدره. ومنه أن الفضل كان يكره السُّعاة، فإذا أتاه ساع، قال له: إن صدَقتَنا أبغضناك، وإن كذبتنا عاقبناك، وإن استقلتنا أقلناك. ومنه كتابه إلى عامل له: بئس الزاد إلى المعاد: العدوان على العباد. وقد سبق قوله لمؤدب الأمين بن هارون الرشيد: ليكن أكثر ما تأخذ به وليّ العهد تعظيم الدماء، فإني أحب أن يُشرِبَ الله قلبَه الهيبةَ لها والعفاف عن سفكها. وكلها كلمات تكتب بماء الذهب في إدارة الدولة والتعامل مع الشعب.
وممن مدح الفضلَ بخصاله الإدارية عَنان جارية الناطفي، وهي شاعرة ظريفة أديبة، كانت تجلس للشعراء ويجتمعون إليها، قالت تمدح الفضل بن يحيى بثاقب الفكر وسداد الرأي ورباطة الجأش:
بديهته وفكرته سواءٌ ... إذا اشتبهتْ على الناسِ الأمورُ
وأحزمُ ما يكونُ الدهرَ رأياً ... إذا عمي المشاورُ والمشيرُ
وصدرٌ فيه للهمِّ اتساعٌ ... إذا ضاقتْ من الهمِّ الصدورُ
ونحمض الحديث أسوة بياقوت الحموي رحمه الله وما أورده في معجم البلدان في مادة طالقان، قال:
وهذا خبر استحسنتُهُ فيه ذكر الطالقان في شعر أوردته ههنا ليستمتع به القارىء:
قال مخارق: كنت حاضراً في مجلس الرشيد وقد أحضرَ دنانيرَ البرمكية بعد إحضاره إياها في الدفعة الأولى وابتياعه لها، فلما دخلت أكرمها ورفع مجلسها وطيبَ نفسها بعهده، ثم قال لها: يا دنانير إنما كان مولاك وأهله عبيداً لي وخدماً، فاصطفيتُهم فما صلحوا، وأوقعتُ بهم لما فسدوا، فاعدلي عمن فاتَك إلى من تحصلّينه، فقالت: يا أمير المؤمنين إن القوم أدبوني وأخرجوني وقدموني، وأحسنوا إلي إحساناً منه أنك قد عرفتني بهم، وحللتُ هذا المحل منك ومن إكرامك، فما أنتفِعُ بنفسي ولا بما تريد مني، ولا يجيء كما تُقدِّر، لأني إذا ذكرتهم وغنيتُ غلب عليَّ من البكاء ما لا يبين معه غناء ولا يصح، وليس هذا مما أملكُ دفعه ولا أقدر على إصلاحه، ولعلي إذا تطاولت الأيام أسلو ويصلح من أمري ما قد تغيرَ وتزول عني لوعة الحزن عند الغناء ويزول البكاء.
فدعا الرشيد بمسرور وسلمها إليه وقال له: اعرض عليها أنواع العقاب حتى تجيب إلى الغناء، ففعل ذلك فلم ينفع، فأخبره به فقال له: ردها إلي، فردها، فقال لها: إن لي عليك حقوقاً ولي عندك صنائع، فبحياتي عليك وبحقي إلا غنيتِ اليوم، ولستُ أعاود مطالبتك بالغناء بعد اليوم، فغنتْ:
تَبْلى مغازي الناس إلا غزوةً ... بالطالقان جديدة الأيام
ولقد غزا الفضلُ بن يحيي غزوةً ... تبقَى بقاءَ الحِلِّ والإحرام
ولقد حشمتَ الفاطمي على التي ... كادت تزيل رواسيَ الإسلام
وخلعتَ كفرَ الطالقان هدية ... للهاشمي إمام كل إمام
ثم بكت حتى سقطت مَغشية، وشرقت عينُ الرشيد بعبرته فردها، وقام من مجلسه فبكى طويلاً، ثم غسل وجهه وعاد إلى مجلسه، وقال لها: ويحك قلت لك: سُريني أو غميني وسُوئيني؟! اعدلي عن هذا وغني غيره، فغنت:
ألم تر أن الجود من صُلب اَدم ... تحدَرَ حتى صار في راحة الفضل
إذا ما أبو العباس جادت سماؤه ... فيالك من جود ويالك من فضل
قال: فغضب الرشيد وقال: قبحك الله! خذوا بيمينها وأخرجوها. فأخرجت ولم يُعِدْ ذكرها بعد ذلك، ولبسَت الخشن من الثياب، ولزمت الحزن إلى أن ماتت، ولم يفِ للبرامكة من جواريهم غيرها.