تأملات في سيرة ومواقف الراحل أنيس منصور
شاكر فريد حسن
في الاسبوع قبل الماضي، اختطف الموت الكاتب والصحفي والاديب والفيلسوف والمفكر المصري انيس منصور، الذي طبقت شهرته الآفاق ، تاركاً وراءه تاريخاً طويلاً وارثاً كبيراً من الابداع الفكري والادبي والسياسي والفني الحافل.
انيس منصور هو من ابرز الادباء والصحفيين المصريين ، الذين بزغ نجمهم في سماء مصر ، وطبعوا الحياة الثقافية والاعلامية المصرية والعربية، وأثروا الفكر العربي الحديث والمعاصر، بمؤلفاتهم وكتبهم ومنجزاتهم الادبية ومقالاتهم اليومية ، التي لا تعد ولا تحصى. وهو من الكتاب القلائل على مستوى العالم العربي ، الذي امتلك ناصية الكلمة وملكة الكتابة وكان مقروءاً من الصغار والكبار على حد سواء،بفضل موضوعاته المشوقة واسلوبه الادبي والصحفي البسيط الشفاف الواضح والرائج. ورغم ما حققه من شهرة واسعة ونبوغ تعدى مصر الى الوطن العربي والعالم ،الا ان انيس لم ينس جذوره الريفية والحياة الرعوية ،التي عاش في كنفها، وظلت القرية حاضرة بقوة في وجدانه وروحه وخاطره ووعيه وكيانه وكتابته.
عرفنا انيس منصور بكتاباته الفلسفية والفكرية ، التي جمع فيها بين الاسلوبين الفلسفي والأدبي . ورغم شغفه وعشقه للصحافة المطبوعة والمكتوبة الا انه كان يعشق الادب اكثر ، ودائماً كان يقول انه اديباً يعمل في الصحافة. وقد اشتهر بأدب الرحلات لما عرف عنه حبه وولعه بالسفر والتجوال ، وله في هذا المجال العديد من المؤلفات والاصدارات ، اشهرها:" غريب في بلاد غريبة، اليمن ذلك المجهول، انت في اليابان وبلاد اخرى، اطيب تحياتي من موسكو، اعجب الرحلات في التاريخ، حول العالم في 200 يوم ، لعنة الفراعنة" وسواها.
عمل انيس منصور في الصحافة ، وبدأ مشواره في عالم الصحافة بمؤسسة "اخبار اليوم" ، وشغل لاحقاً رئيس تحرير عديد من المجلات والصحف من بينها:" الجيل، آخر ساعة، اكتوبر، العروة الوثقى، كاريكاتير، الكاتب ، الكواكب"وغير ذلك.
وبعد ان ترك" الاخبار" انتقل الى "الاهرام" وراح يكتب وينشر عامود يومي بعنوان "مواقف" لسنوات طويلة ، وكذلك كان يكتب ايضاً في صحيفة "الشرق الاوسط" اللندنية . وحصد انيس العديد من الجوائز التقديرية والمكافآت المالية ، وفاز بلقب الشخصية الفكرية العربية الاولى من مؤسسة السوق العربية بلندن.
تأثر انيس منصور في البدايات بافكار ورؤى عباس محمود العقاد ، وفكر عبد الرحمن بدوي ، الذي ترك في داخله ووعيه تأثيراً عميقاً جعله يؤمن ويقدس الافكار الوجودية ، وكان من اوائل المثقفين العرب الذين وضعوا نصوصاً حول المسألة الوجودية ، وفي كتابه "الوجودية" الصادر عام( 1953) دعا الى اعتناق الوجودية الاوروبية.
ارّخ انيس منصور للحياة الفكرية في مصر والقاهرة خاصة ، ورصد المعارك العنيفة والمواجهات والمقاربات الفكرية والمطارحات الحوارية والنقدية ، التي جرت بين المثقفين والمفكرين من ابناء جيله وعصره ، وكان يكن الاحترام والتقدير الكبير والمودة الخاصة لعميد الادب العربي الدكتور طه حسين.
شكل انيس منصور مدرسة في الانتهازية السياسية ، ويعتبر من كتاب القصر والبلاط ومثقفي السلطة ، وكان يأكل من صحنها ويضرب بسيفها. اتصف بالجبن السياسي وممالأة النظام الحاكم والتقرب منه ، ولم يتجرأ على انتقاد الرئيس الحاكم الا بعد افوله عن المسرح السياسي ورحيله عن الحياة.
عاصر حكم الملك فاروق وجمال عبد الناصر وانور السادات وحسني مبارك ، وتألق في زمن وحقبة عبد الناصر، وتبوأ مكانة مرموقة في الصحافة والاعلام المصري . وكان مقرباً من انور السادات واشغل مستشاراً شخصياً له ، ورافقه في زيارته الى اسرائيل والقدس ، وشجعه على توقيع اتفاقية السلام مع اسرائيل ، واعتبر من انصارالتطبيع والانفتاح الفكري على الدولة العبرية والعولمة . وهذه المواقف السياسية المداهنة المؤيدة والمرحبة بالتطبيع ومعاهدة السلام ، جوبهت بالرفض والانتقاد الشديد والحاد من قبل الاقلام الوطنية والتقدمية المصرية والعربية الملتزمة ، التي انبرت بالوقوف ضده وتعريته وكشف حقيقة سلوكه وموقفه ، وقوطع هو ونجيب محفوظ من قبل المتثاقفين والمتأدبين المصريين والعرب من ذوي الميول اليسارية والعقائدية واصحاب الافكار الثورية والوطنية والمواقف الجذرية .
وفي الختام يمكن القول ، بالرغم من الخلاف مع مواقف انيس منصور السياسية ونهجه وسلوكه الانتهازي ،وانتمائه الى مثقفي النظام، يبقى نموذجاً للكاتب والاديب المسكون باللغة والكلمة الجميلة والجماهير والريف والتاريخ المصري، ويبقى ارثه الفكري والادبي واعماله وكتاباته الصحفية شاهداً على مساهمته ودوره في الحياة الادبية والثقافية والفكرية والسياسية والاعلامية المصرية والعربية.