من ذكريات الشيخ المجاهد زهير الشاويش

مع العلامة المربي عبدالرحمن الباني (1)

أيمن بن أحمد ذو الغنى

عضو رابطة الأدب الإسلامي العالمية

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله سيِّدنا محمد, وعلى آله وأصحابه أجمعين.

كلمات في سيرة شيخنا الباني

- أستاذنا عبدالرحمن بن محمد توفيق الباني هو مفتِّشُ التربية الدينية في وِزارَة المعارف السورية، ومن قبله فيها: الأستاذ أحمد مظهر العظمة، والأستاذ محمد المبارك.

وللأستاذ الباني فضلٌ عظيم في تنقية الكتُب الدينية من البِدَع والمخالفات.

وقد سُجن في عهد الملك فاروق بمصر، وتتلمذ على الشيخ الإمام حسن البنَّا.

وكان مستشارًا في وزارة المعارف بالرياض عند الوزير الدكتور محمد أحمد الرشيد.

وقد ذكره الشيخُ علي الطنطاوي في مواضعَ من ذكرياته.

- وعمُّ الشيخ عبدالرحمن الباني هو: العلامة السلفيُّ الشيخ محمد سعيد الباني أمين الفتوى في دمشق، وهو تلميذُ الشيخ طاهر الجزائري، وألَّف كتابًا في سيرة شيخه.

- ويوم كنت مندوبًا عن المجلات الإسلامية المصرية، أتولَّى توزيعَها في دمشق، كنت أنتظر في منطقة المَرْجَة وصولَ المجلات في سيَّارات حَيفا، ومن تلك المجلات: ((المنار)) للشيخ العلامة محمد رشيد رضا الطرابُلُسي، و((الرسالة)) لأديب العربيَّة أحمد حسن الزيَّات، و((السلفيَّة)) للأستاذ محب الدين الخطيب، و((الهدي النبوي)) للشيخ حامد الفقي، و((الثقافة))، وجرائد الإخوان المسلمين.

وذات مرَّة وفي أثناء انتظاري للمجلات رأيتُ أستاذنا الباني وقد وصلَ في إحدى السيَّارات من القاهرة التي كان يدرُس فيها، وكنت أعلم أنه مُعتقَل في مصر، فكنتُ أولَ من استقبله ورحَّبَ به، ثم أوقفت له سيَّارة وأوصلتُه إلى بيته. وتكرَّر الأمرُ في أسبوع آخرَ مع الشيخ الدكتور أمين المصري، حين عاد من مصرَ أيضًا، وعملتُ معه مثلَ ذلك؛ إذ كان معهما أغراضٌ كثيرة، وقد حفظا لي صنيعي معهما لفضلهما وصدق أخوَّتهما.

- عمل أستاذُنا الشيخ عبدالرحمن الباني متفضِّلاً متبرِّعًا في (المكتب الإسلامي)، ومما شارك فيه: إخراجُ كتاب ((مختصر الخِرَقي))، وقد ذكرتُ في الصفحة الرابعة من الطبعة الثالثة الصادرة في رمضان سنة 1403هـ ما يأتي:

((وكانت طبعتي الأولى له سنة 1378 معتمدًا على نسخة يمتلكها أستاذي الجليل العلامة الشيخ حسن الشطِّي، تغمَّده الله برحمته بعد أن قابلتُها على طبعات المغني.

وقد أعان على معارضتها الأستاذُ الجليل الأخ عبدالرحمن الباني، والأخُ الأستاذ عبدالقادر الأرناؤوط، كما استفدتُّ كثيرًا من أستاذي الشيخ ناصر الدين الألباني في عددٍ من الأحاديث. جزاهم الله كلَّ خير.

ثم أعدتُّ طبعه سنة 1383 بعد أن أجريتُ [صحَّحتُ] بعضَ ما ندَّ عنَّا، وما لفت نظري إليه أستاذي وشيخي العلامةُ الشيخ محمد بن مانع تغمَّده الله برحمته، وانظر التعريفَ بهذا المختصر بقلمه)).

وكان الأستاذُ الباني هو الذي توسَّطَ لنا لدى الشيخ حسن الشطِّي كي يُعيرَنا نسختَهُ المخطوطةَ من الكتاب.

وتفضَّل الشيخُ الباني بالتقديم لكتاب ((العبودية)) لشيخ الإسلام ابن تيميَّة.

ولم يقتصِر عملُه في المكتب على ذلك؛ فإن أستاذنا الباني كان يتردَّدُ علينا، ويُتابع ما أعمل على إخراجه من كتب، بمعاونة إخواني العاملين في المكتب، وعلى رأسهم المشايخ: محمد ناصر الدين الألباني، وعبدالقادر الأرناؤوط، وشعيب الأرناؤوط، وكان عددُهم - في تلك الحِقبَة - يزيد على العشرين، فيُقدِّم لنا النصائحَ الطيِّبةَ التي كان لها أعمَقُ الأثر في نتاج (المكتب الإسلامي)، وإذا ما وقفَ على أخطاء مطبعيَّة في بعض منشوراتنا صحَّحها وقدَّمها لنا احتسابًا.

ومن نُصحه لنا: أن نلتزمَ كتابةَ الشهور العربية بأسمائها؛ لارتباطها بعباداتنا وشرعنا، على حين نكتبُ الشهورَ الأجنبية بالأرقام.

وأؤكِّد أن أستاذنا الشيخ الباني كان عملُه معنا تبرُّعًا وتفضُّلاً، ولم يكن في يوم من الأيام موظَّفًا في المكتب، ومثلُه في ذلك: الأستاذ عصام العطار، والأستاذ أحمد راتب النفَّاخ الذي انتفعَ به الشيخُ شعيب الأرناؤوط كثيرًا، جزاهم الله عنِّي وعن المسلمين كلَّ خير.

ومما يجدُر ذكرُه أن الأستاذ الباني - وهو صاحبُ المكتبة الكبيرة الغنيَّة بأمَّات الكتب والمراجع من البحوث والدِّراسات النفيسة - كان يُكرمُنا دائمًا بإعارتنا ما نحتاجُ إليه من كتبٍ لا نقفُ عليها في الأسواق، هذا مع عِظَم مكتبتي وغناها بالمصادر والمراجع!

- أما زِفافُ الأستاذ الباني فله حكايةٌ عجيبة، فقد جعلَ حفلَ عُرسه في (جامع الشمسية) بحيِّ المهاجرين، أيامَ الحُكم العسكريِّ للرئيس أديب الشِّيشَكْلي، ودعا إليه علماءَ البلد، فتلا الشيخُ محمد سعيد الطنطاوي آياتٍ من كتاب الله بأسلوبٍ مخالفٍ للمشهور عند القرَّاء في الشام، وأُلقِيَت خطبٌ عديدة.

وقد جاء عناصرُ من الشُّرطة وطلبوا ترخيصَ إقامة حفل الزِّفاف في المسجد، ولمَّا لم يجدوا ترخيصًا قاموا بسَوْق الأستاذ الباني وبعض الإخوة إلى المَخْفِِر، بعد أن قطعوا الكهرباءَ عن المسجد، فاضطُرَّ الخطباءُ إلى إلقاء خُطَبهم في الظلام، وأظنُّ ممَّن خطب يومها: الشيخ علي الطنطاوي، والدكتور مصطفى السِّباعي، والأستاذ عصام العطَّار.  

وكان حفلاً ما عرفَتْ دمشقُ مثلَه منذ سبعين سنة، وقد وزَّعَ الشيخُ فيه على الحضور رسالةً للإمام حسن البنَّا عن المرأة المسلمة، ورسالةً للألباني عن آداب الزِّفاف في السنَّة المطهَّرة.

وطبعًا كان أخوه الأكبر السيِّد محمد الباني حاضرًا مع أخيه الشيخ محمد بشير الباني تلميذ الشيخ كفتارو، أما أخوه الشيخُ عبد الهادي الباني تلميذُ الشيخ أمين شيخو فلم يحضُر؛ لأنه على زعمه (قرآني) والأستاذ عبدالرحمن (من أهل الحديث)!

وكان زواجُه من السيِّدة المصرية الفاضلة زينب أبو شقَّة أخت الشيخ عبدالحليم محمد أحمد أبو شقَّة، وهي من أهل العلم والفضل، ولها كتابٌ لم يُطبَع بعنوان: ((واجب العلماء في القيام بالنصيحة والصَّدْع بالحق)). وأنجبت له عددًا من البنات، وصبيَّين أسامة الباني وأخاه محمدًا الباني بارك الله بهم جميعًا، ومن بناته الأخت أسماء الباني التي تكتبُ في مجلة (منبر الداعيات) التي تُصدرُها جمعية الاتحاد الإسلامي ببيروت.

- وكانت كنيةُ الأستاذ الباني المشهورة عندنا قديمًا (أبو عبيدة)، ثم تكنَّى بأبي أسامة، ولمَّا عاتبتُه قال: نحن الآنَ في حاجةٍ إلى الجهاد، ورأيتُ أن أسامة بن زيد رضي الله عنه عيَّنه سيِّدُنا رسول الله r قائدًا للجيش الذاهب إلى مُؤْتَة، وعسى أن يكونَ ابني قائدًا لجيشٍ مسلمٍ فاتح.

فضائل ومزايا

- من فضائل أستاذنا عبدالرحمن الباني أنه فتحَ بيتَهُ في حيِّ المهاجرين للدَّرس السلفيِّ الذي يعقدُه الشيخ محمد ناصر الدين الألباني، وكان يُساعدُه في ذلك أخوه الأكبر الأستاذ محمد الباني، وكان سلفيًّا فاضلاً.

- وكان الأستاذ علي الطنطاوي يقول: الأستاذُ عبدالرحمن وزيرُ المَيمَنَة مع الألباني، وزهير الشاويش وزيرُ المَيسَرَة، وفيما بعد كان يقول: ((لولا زهيرٌ ما راجَتْ آراءُ ناصر)).

- ومن ميزات أستاذنا الباني (حقيبته اليدوية)؛ فإنها تزِنُ ما يقرُب من مئة كيلو (مع المبالغة)؛ إذ كان يملؤها بكثير من الكتب التي يريدُ أن يستشهدَ بها في دروسه.

- وحين عملَ الشيخ محمد ناصر الدين الألباني في الجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية، طلب إلى أخيه الأستاذ عبدالرحمن الباني أن يفيدَهُ ببعض التوجيه بشأن طرائق التعليم الناجعة، والأسلوب الأمثل للتعامُل مع طلاب الجامعة، والمنهج القويم في إجراء الاختبارات... وكنتُ أتولَّى بنفسي إرسالَ ما يكتبُه الباني إلى الشيخ الألباني في المدينة، حتى إنني أستطيعُ أن أقولَ: إن الشيخ الألبانيَّ تلميذٌ للشيخ الباني في هذا المجال.

- وحينما أقامَ الشيخُ عبدالله الهرريُّ الحبشيُّ في دمشقَ أصرَّ الأستاذ الباني مع الأستاذ عصام العطار على إقامة مناظرةٍ بين الشيخ الألباني والشيخ الهرري، وقد صحبتُه إلى الاجتماع مع الشيخ الألباني، وكان اللقاءُ أولاً في بيت والدي بزُقاق الموصلي في حيِّ الميدان، ثم أُقيم في دار الأستاذ الباني عندما سكن في منطقة الثريا (بيت الحلبي) في الميدان الفوقاني.

ونتجَ عن هذه اللقاءات والاجتماعات كثيرٌ من الخلاف والجِدال، وفي أحد اللقاءات أحضرَ الشيخ الهرريُّ معه أكثرَ من عشرين شخصًا، منهم الشيخ أبو طوق، والشيخ شعيب الأرناؤوط... وكان ينتظرُهم في الحارة عددٌ أكبر!

فخرجتُ إلى مَن في الحارة وطلبتُ منهم الرحيل؛ مهدِّدًا ومتوعِّدًا! ودخلتُ إلى مَن في الدار وطلبتُ إليهم الخروج! فخرجوا جميعًا، وانقطعَت الاجتماعات. وبقيت عندي وعند الشيخ الألباني وعند الشيخ الباني بعضُ أوراق تلك الحوارات والمجادلات.

في رحاب الحركة الإسلامية

- كان الأستاذ عبدالرحمن الباني يُشاركُ في نشاطاتنا في مركز جماعة الإخوان المسلمين بحيِّ الميدان، ومن ذلك حضورُه ليلاً لشهود ليالي الإحياء مع مجموعةٍ من شباب الإخوان.

وكان ينصَحُنا ويُلحُّ علينا ألا نسهرَ طَوالَ الليل، وأنْ لا بدَّ من تحديد ما نتدارسُه وما يُلقى من كلمات ومواعظَ ليلاً؛ حرصًا على حضور صلاة الفجر في المسجد القريب، وكان حقيقةً لا يتأخَّر في إبداء أيِّ ملاحظة فيها نفعٌ عامٌّ، ولا يتوانى في النُّصْح الصادق.

وكان أحيانًا يتأخَّر عندنا فيفوتُه (الترام)، فيُضطَرُّ إلى العودة إلى بيته ماشيًا، قاطعًا مسافةً طويلة على رجليه؛ إذ كانت السياراتُ نادرةً يومئذ.

- وكان الأستاذُ الباني لرجاحة عقله وصدق ديانته شديدَ الحرص على لمِّ شَمل الدُّعاة ورجالات الحركة الإسلامية، والحَيلولة دون وقوع الخلاف والفُرقَة بين أعضاء جماعة الإخوان. ولمَّا حصل الانشقاقُ في الجماعة بسبب المدعوِّ نجيب جويفل (المسمَّى عندنا عبدالعزيز سالم)، بذلَ الأستاذُ الباني جهودًا كبيرة لتقريب وجهات النظر، وجَمْع الكلمة، ومن ذلك أنه طلبَ من الشيخ الألباني (وكان يومَئذٍ من الإخوان) الجمعَ بيني وبين الأستاذ كاظم نصري؛ وكنَّا جميعًا من السلفيِّين في الجماعة، وكان كاظم المعيدَ في مجلس الألبانيِّ مع الأستاذ الباني غالبًا، وكنت أنا المعقِّبَ أغلب الأوقات. ولكن ويا للأسف باءت جهودُ الأستاذ الباني بالإخفاق، ولم ينجح التوافُق واستمرَّ الانشقاق، وبقيتُ أنا مع الشيخ ناصر والأستاذ الباني في الجماعة الكُبرى في جناح الشيخ مصطفى السِّباعي والأستاذ عصام العطار.

- وفي تلك المرحلة تسلَّم القاضي الأستاذُ صلاح الدين الشاش الأمانةَ العامَّة للجماعة، وتولَّى مَهامَّ المراقب العام، وعيَّنَني الشاشُ نائبًا لشُعبة الميدان عدَّة أشهر، ثم انتصر مصطفى السِّباعي على الانشقاق بمعونة الأساتذة: عصام العطار، وعبدالرحمن الباني، وزهير الشاويش، ومحمد أديب الصالح، وناصر الدين الألباني، وأحمد أبو صالح من حلب، ومحمد المجذوب من اللاذقية، وحسن هويدي من دَير الزور، وعبدالقادر السبسبي، وعز الدين جواله، وغيرهم.

وانعزل مع المنشقِّين: عبدالفتاح الغندور، وكاظم نصري، وهما من الأفاضل، ولكنَّهما انخدَعا بحيلة نجيب جويفل وبعض من معه من المفسدين.

- ولمَّا كنتُ مسؤولاً في شُعبة الإخوان بحيِّ الميدان نهضَ الأستاذ عصام العطار بالمهمَّة الكُبرى في قيادة العمل الدَّعوي والثقافي، بمشاركة الشيخ محمد الصباغ، والشيخ سعيد أبو شعر، والأخ صلاح القطيفاني، وكان معنا ثُلَّةٌ من الفُضَلاء على رأسهم الأستاذ عبدالرحمن الباني، والأستاذ محمد خير الجلاد. وهذه النشاطاتُ الدعوية والثقافية لشُعبة الميدان جعلها أبرزَ من المركز العامِّ للإخوان، وتبوَّأَ العاملون فيها منزلةً رفيعة، وبلغوا رتبةً سامية من الشُّهرة والقَبول ليس في دمشقَ فحسب، ولكن في عُمومِ البلاد السورية.

- وفي أثناء حُكم الشِّيشَكلي تعرَّض بعضُ العلماء والدُّعاة لمُضايقات كبيرة ومُلاحقات واعتقالات، فقرَّرَت قيادةُ الجماعة أن تحُلَّ التنظيم، وقامت بتأليف قيادة جديدة سرِّية، واقتضت المرحلةُ ألا يكونَ لي ولا للأستاذ عصام العطار والأستاذ كامل حتاحت أيُّ عمل قيادي؛ لأننا معروفون مشهورون، ومن السَّهل تتبُّعنا ومُراقبة أعمالنا.

فقرَّرنا السفرَ إلى مصر، ولم نُمنَح جوازات سفر إلا بعد تدخُّل أستاذنا الشيخ علي الطنطاوي الذي طلب إلى نقيب الأشراف الشيخ سعيد الحَمزاوي المساعدة. وتدخَّل من أجلي أستاذي الشيخُ محمد كامل القصَّاب، ويومها لبستُ العِمامَة وتصوَّرتُ فيها، لتثبيت أنني طالبُ علم، وأنني مُخالفٌ لقرار الشيشكلي (سيأتي الكلام عليه).

وقبل سفرنا اجتمعَ بنا الأستاذُ عبدالرحمن الباني، وكان على صلةٍ وثيقةٍ بالإخوان في مصر، ومعرفة بأحوالهم وأوضاعهم، فبصَّرَنا بأمور كثيرة كنَّا غافلين عنها، وقدَّم لنا نصائحَ مفيدة، ولما وصلتُ مع الأستاذ عصام العطار وجدنا أن كلَّ ما قاله لنا كان حقًّا وصوابًا. وتعاونَّا مع الذين أوصانا بالعمل معهم، ومنهم الأساتذةُ والمشايخ الأفاضل: عبدالعزيز كامل، وعز الدين إبراهيم، ومحمود نفيس حمدي، وجمال عطية، وعبدالحليم أبو شقَّة، وكمال أبو المجد، والمجاهد محمود عبده وهو قائدُ المجموعة التي قاتلت في فلسطين، والمرشد العامُّ حسن الهضيبي، وسيِّد قطب، وعبدالبديع صقر، ومحمود محمد شاكر (لم يكن في الجماعة)، وغيرهم. وبحقٍّ كانت كلماتُ الأستاذ الباني ووصاياه لنا جدَّ مفيدة.

- وفي سنة 1961م قرَّرنا أن يدخُلَ الإسلاميُّون في الانتخابات البرلمانية، وعقَدنا عددًا من الاجتماعات في دار الأستاذ نديم ظبيان وفي داري؛ لاختيار عددٍ من الإخوان نرشِّحُهم للانتخابات، وكان ممَّن حضر تلك الاجتماعات الإخوةُ الأساتذة والمشايخ: ناصر الدين الألباني، وعبدالرحمن الباني، ومحمد بن لطفي الصباغ، ومحمود مهدي الإستانبولي، وعبدالرحمن النحلاوي، ونبيه الغبرة، وخير الدين وانلي، وخالد الجزائري، وفؤاد السادات، وغيرهم.

وكان أولَ من اختارَهُم الشيخُ الألباني للترشيح: زهير الشاويش، ثم عصام العطار، ثم محمد بن كمال الخطيب، وذكر عددًا من الأسماء: صلاح الدين الشاش، والدكتور أمين المصري، ومحمد الصباغ، وعمر عودة الخطيب، وألحقَ بهم بعد ذلك الأستاذَ الإستانبولي الذي ترشَّح ولم يُكتَب له النجاح.

اهتمامه بشؤون المسلمين

الأستاذ عبدالرحمن الباني من أكثر الناس اهتمامًا بشؤون المسلمين الكُبرى والصُّغرى، ومن الأمثلة على ذلك:

- جاءني في يومٍ من أيام الوَحدة بين سوريا ومصر إلى (المكتب الإسلامي) وطلب عقدَ اجتماع عاجل لدراسة أمر خطير، فعقدنا اجتماعًا في المكتب حضره الأستاذُ عصام العطار، والأستاذ محمد سعيد العبَّار، والدكتور نبيل الطويل وبعض الأفاضل. أما الموضوعُ الذي أهمَّ الأستاذَ الباني وأقضَّ مضجَعَه: ما علمَهُ من توجُّه حكومة الوحدة إلى فصل المحافظات السورية بعضها عن بعض؛ لتكونَ كلُّ محافظة تحكُم نفسَها بقوانينَ خاصَّةٍ بها، بإدارة المحافظ فيها مع مجلسٍ مُنتخَب من أبناء كلِّ محافظة. وعلمَ أن عددًا من المحافظات (ذات الأغلبيَّة من الطوائف غير السنِّية) تتَّجهُ إلى إلغاء تعليم الدِّين في مدارسها، وبعضُها بصدد تقليل دروس القرآن والفقه!

وبعد المدارسة بيننا تقرَّر أن يتولَّى الأستاذ عصام العطار التحذيرَ من هذا الأمر، وبيانَ خطر الآثار المترتِّبة عليه، في دروسه الصباحيَّة بمسجد (العَفيف)([2]) في منطقة الجسر الأبيض، وفي خُطبة الجمعة بجامع (تنكز).

ويتولَّى كلٌّ منَّا الطوافَ بعدد من العلماء والوجهاء والمسؤولين لتحذيرهم من مَغَبَّة هذا القرار، وكُلِّفتُ أنا زيارةَ علامة الشام الشيخ محمد بهجة البيطار، والسيِّد مكي الكتاني، والشيخ حسن حَبَنَّكَة، والنائب السابق ورئيس الوزراء السابق حسن الحكيم، والنائب نوري الحكيم، الذي استجابَ ودعا إلى بيته وزيرَ التربية المركزيَّ المصريَّ كمال الدين حسين الذي جلس معي وشرحتُ له ما في العملية من خطر علينا؛ لأننا دولةٌ صغيرةٌ متعدِّدة الفِرَق والطَّوائف، وبعضُ المحافظات ذاتُ أعداد كبيرة من الفِرَق والطَّوائف الأخرى، وضربتُ له المثل بمنطقة (جبل الدُّروز)، فإنها في حال التقسيم ستكونُ منطقةً درزية من بابها إلى محرابها، ومحافظات الساحل السوري ستغدو مناطقَ للنُّصَيريين (العلويين)، وفي محافظة حلب سيكونُ للنصارى الكلمةُ العُليا؛ لأن نسبتهم فيها نحو 40%، وهم أكثرُ وعيًا من أهل السنَّة، وأكثرُ ترابطًا وائتلافًا!

فكان موقفُ الوزير إيجابيًّا، وأبدى تعاونًا وتفهُّمًا، وحثَّنا على تشكيل وفدٍ من العلماء يذهبُ إلى مصرَ لمقابلة الرئيس جمال عبدالناصر؛ الذي يأبى إلا أن تُدارَ الأمورُ كلُّها بيده.

ومضَيتُ مع أخي الأستاذ أحمد راتب النفَّاخ لمقابلة وزير التربية السوري في وِزارَة الوَحدة الدكتور أمجد الطرابُلُسي، وكان معنا أحدُ أركان السِّفارة السعودية بدمشقَ من آل الطرابُلُسي المتجنِّسين بالسعودية، والأستاذُ أديب غالب من أهل طرابُلُس، رحم الله الجميع. وكان موقفُ وزيرنا جيدًا أيضًا، وأيَّد رأينا، وطلب منَّا كذلك تشكيلَ وفد لمقابلة المسؤولين في مصر.

وقُمنا بتشكيل وفدٍ رفيعٍ للسفر إلى هناك، برئاسة الشيخ أبي الخير الميداني رئيس رابطة العلماء، وكانت له منزلةٌ في مصر؛ وكان له راتبٌ يتقاضاه من العهد الملكيِّ، وله أقاربُ فيها منهم أولادُ أخته. وكان في الوفد: الأستاذ طيِّب الخجا نائب حمص في الاتحاد القومي، (وولده من كبار السلفيِّين في حِمص)، والدكتور شُكري فيصل، والأستاذ محمد سعيد العبَّار، والشيخ حسين خطَّاب، ونُصِحتُ والأستاذ عصام العطار بعدم السفر.

وبرغم الحرب الشَّعْواء التي لقِيَها الوفدُ من عبدالحميد السرَّاج وعدد من النوَّاب الملحدين، وبعض الوزراء البعثيِّين، نجح الوفدُ - بتوفيق الله تعالى - في إيقاف تلك التقسيمات يومئذٍ (لا إلغائها)، حتى أُلغِيَت بانفصال القطرين، وضياع الوَحدة التي أفسدَها وقوَّضَ أركانَها جمال عبدالناصر وأعوانُه!

وإني لأرى أن الفضلَ الأكبر في تحقيق هذا النجاح كان لأستاذنا عبدالرحمن الباني الذي تنبَّه مبكِّرًا للخطر الدَّاهم من فصل المحافظات، وعمل حثيثًا للحَيلولة دون تنفيذ المخطَّط.

- ومن اهتمامه بشؤون المسلمين: كنتُ مرَّة في زيارة لمدينة الرِّياض، وفي ليلة سفري إلى بيروت، جاءني عددٌ كبيرٌ من الإخوة للوَداع، وتأخَّروا عندي، والأستاذُ الباني جالسٌ ينتظر ذهابهم، وحين مضَوا بدأ الكلام في موضوع الأخ المجاهد الفلسطينيِّ صالح سرية الذي قام بعمليَّة سُمِّيت فيما أذكُر (عملية الكلية العسكرية) في مصر، وقُبض عليه مع مجموعته، وحُكم عليهم جميعًا بالإعدام.

وكان الأخ سرية صاحبي، وأنا عرَّفتُه إلى الحاجِّ أمين الحسيني؛ إذ كان ينزلُ في بيتي حين يزور بيروت، وله عددٌ من الرسائل السلفيَّة، وقد جمعتُه أيضًا بالشيخ الألباني.

وجعل الأستاذُ عبدالرحمن الباني يمضي بي في قضيَّته يمينًا ويسارًا، ويُطيل الحديث، وزُبدَة ما يريدُه مني أن أسافرَ إلى عدد من البلاد لمقابلة حُكَّامها والطَّلَب إليهم التوسُّط للأخ سرية ومجموعته للعفو عنهم. ووعدته بذلك، وبذلتُ والله ما في إمكاني ووُسعي، ولكن قدَّر الله أن يُعدمَه الرئيسُ أنور السادات، رحمَ الله الأخ صالحًا رحمةً واسعة.

- وفي مطلع عهد الرئيس أديب الشِّيشَكلي أصدر قرارًا يُلزم العلماء والمشايخ بارتداء زِيٍّ مُوحَّد من ثوبٍ وجُبَّةٍ وعِمامَة! فحضر الأستاذُ عبدالرحمن الباني إلى بيتي في الميدان وطلب أن أرافقَهُ في زيارةٍ إلى الشيخ حسن حَبَنَّكَة، فذهبتُ معه وحضرَ اللقاء أخوه الشيخُ صادق حبنَّكة. وعرض الباني موضوعَ ثياب العلماء، وأنه لا بدَّ من مقاومة القرار، كما فعل علماءُ الأتراك أيام مصطفى كمال أتاتورك، فاستجابَ الشيخ حسن، وقال لي: (مُو هِيكْ بِدَّك) يا شيخ زهير؟ فقلتُ له: ومشايخُ الأتراك كانت لهم الشهادة، فقال: ونحنُ معهم، إذا كان عندنا شبابٌ مثلكم.

ولم يمضِ سوى يومٍ واحد، وإذا بي أُدعى لمقابلة مدير الأمن العام، الذي حاولَ أن يفهمَ منِّي ما الذي جرى بيني وبين الشيخ حسن حبنَّكة، ومَن الذين كانوا معي في اللقاء؟ ولم يُفلِح فيما حاول، فأمرَ بحبسي بالنَّظارة إلى الليل. وعرفتُ أن قائد التحرِّي (فائز) بلَّغ الأمنَ عني، ولم يعرف أن الأستاذَ الباني كان معي، وفي أول يوم جمعةٍ أعلن الشيخُ حسن في الخُطبة الرَّفضَ القاطعَ لقرار تحديد ملابس العلماء، تغمَّده الله برحمته.

في صحبة العلماء

- حين وصلَ العلامةُ الشيخ تقيُّ الدين الهلالي إلى دمشق، بادر أستاذُنا عبدالرحمن الباني إلى لقائه، ولازمَهُ ملازمةً تامَّة واصطحبه إلى زيارة العلماء، وأكرمَني به في (المكتب الإسلامي) وفي بيتي مرَّات. ثم طلب إلى أخيه الشيخ محمد الصباغ أن يدعوَه إلى إلقاء خُطبة الجمعة في جامع (عنَّابة) بجوار بيت التاجر الوجيه لطفي الصباغ والد الشيخ محمد، وفعلاً طلب من ابن عمِّه خطيب المسجد العالم الشيخ محمد خيرو ياسين الصباغ، أن يُتيحَ للدكتور الهلالي إلقاءَ الخُطبة بدلاً عنه، فوافقَ الشيخ خيرو وخطب الهلالي خُطبةً متميِّزة، وكان الأستاذُ الباني يكتب الخُطبة، ثم قدَّمها للطبع ضمن ((رسائل مسجد الجامعة)) (جامعة دمشق) فيما أظن. ثم كان الغداءُ في بيت الشيخ الصباغ.

وبالمناسبة كانت آخرُ مرَّة أجتمع فيها بشيخي الدكتور تقيِّ الدين الهلالي في مدينة الرِّياض بالسعودية، وقد أضرَّ (صار ضريرًا)، في دار الداعية الدكتور كمال الهلباوي حيثُ دعانا إلى عقيقة ولده، ويومها طلبتُ من الهلالي إجازةً للشيخين الباني والصباغ وكانا حاضرَين، وما عدتُّ أذكُر هل أجازَهُم مشافهة، أو لا!

- ومن طرائف الأحداث: أن الشيخ أبا الحسن النَّدْوي حينما زار الشامَ استقبله الأستاذُ عبدالرحمن الباني، وصار صاحبًا له ورفيقًا، يعرِّفه العلماء والدُّعاة ومعالمَ دمشق. ودعا الدكتور مصطفى السِّباعي الشيخَ الندويَّ وبعض مرافقيه إلى الغداء في بيته، ولكنه نُسِّيَ الموعد فحضرَ الشيخ أبو الحسن مع إخوانه رفقة الأستاذ الباني وطرقوا الباب، فخرجَت الخادمُ وقالت: الشيخ نائم، فقالوا لها: لقد دعانا إلى الغداء! فقالت: تغدَّى ونام!

فلم يشأ الباني أن يزعجَ السِّباعي فسارعَ إلى استئجار سيارة، وأوصلَهُم إلى بيته في حيِّ المهاجرين، وبعد أن أدخلَهُم مضى بالسيَّارة نفسها إلى مطعم في دمشق لإحضار طعام للضُّيوف. وحين استيقظ السِّباعي وتذكَّر الدعوة، قَدِمَ إلى بيت الباني على عَجَل، فوجدَهُم يتغدَّون. فأُحرِجَ كثيرًا، واعتذر للمدعوِّين أشدَّ الاعتذار، وشكرَ للأستاذ الباني حُسنَ صنيعه.

من اليمين: د. محمد أديب الصالح، والشيخ زهير الشاويش،

والشيخ عبدالرحمن الباني

الشيخ زهير الشاويش في دار ابنته بجُدَّة، ومعه أيمن بن أحمد ذوالغنى

                

([1]) كنتُ اتصلت بشيخنا الجليل زهير الشاويش حفظه الله تعالى مساء السبت 14 من ذي الحجة سنة 1426هـ (الموافق 14/1/2006م)، وسألته عددًا من الأسئلة تتصل بعلاقته بشيخنا العلامة المربي عبدالرحمن الباني رحمه الله تعالى، فتكرَّم بإجابتي، ثم زادني من كرمه وفضله فبعث إليَّ برسالة ضافية تناول فيها تلك الصلةَ بإسهاب، وشرَّق في الحديث وغرَّب، مُعرِّجًا على أخبار وحوادثَ مهمَّة من ذكرياته وتاريخه ليست بذات صلة مباشرة بشيخنا الباني. ورأيتُ تلخيصَ ما كتب، مُنتقيًا منه ما يتصلُ بسيرة شيخنا الراحل، وقد أطلعتُه على النصِّ في صورته الأخيرة، فأذنَ بنشره مشكورًا، جزاه الله خيرًا وبارك في حياته ونفع بعطائه.    

([2]) العفيف: رجل من كبار الصوفية، ولكن الله نفع بالمسجد الذي سمِّي باسمه (زهير الشاويش).