سطور من حياة المجاهدة زينب الغزالي (13)
سطور من حياة المجاهدة زينب الغزالي (13)
كانت رسائل شباب وفتيات الجزائر تشكل أكثر من 90% من بريدها الأسبوعي
ساهمت بقدر كبير من الجهد في تصحيح صورة الإسلام والمسلمين لدى الغرب
بدر محمد بدر
وفي مارس 1987 نظمت مؤسسة " آل البيت " بالمملكة الأردنية الهاشمية مؤتمراً علمياً في العاصمة عمان, لمناقشة موضوع " الصحوة الإسلامية وهموم الوطن العربي ", وجاءت دعوة للحاجة زينب الغزالي للمشاركة بورقة بحثية في هذا المؤتمر, الذي كان يشرف عليه الدكتور سعد الدين إبراهيم, عالم الاجتماع المعروف والأمين العام لمؤسسة آل البيت في ذلك الوقت, وسافرنا ـ أنا وهي ـ إلى الأردن وأدلت بدلوها في موضوعات المؤتمر ومناقشاته التي غلب عليها الطابع العلماني لولا الحضور الفعال للعلامة الكبير الدكتور يوسف القرضاوي وكذلك زينب الغزالي وعدد من إخوان الأردن.
وانتهز وزير الأوقاف الأردني فرصة وجودها, وطلب منها البقاء على نفقة الوزارة لمدة يومين أو ثلاثة, لإلقاء عدد من المحاضرات الإسلامية, واستجابت الحاجة للطلب وألقت عدة محاضرات في أكثر من مدينة وجامعة.. وكانت تتحدث عن قضية فلسطين ـ قضية المسلمين الأولى ـ حديثاً حماسياً ساخناً, أهاج الدموع في العيون, والوجيب في القلوب, وحثت الشعب الأردني ـ وأكثر من نصفه من الفلسطينيين ـ على الصبر والبذل والتضحية وتربية الأولاد على ضرورة استرداد الحق وطرد المغتصبين المحتلين الصهاينة.. كانت الداعية الكبيرة تلقي كل اهتمام وترحاب ودعاء ولهفة من كل أبناء الشعب الأردني.
وفي شهر مارس من عام 1990 كانت الزيارة الرابعة والأخيرة لباكستان للمشاركة في نفس المؤتمر, حيث توفيت السيدة نثار فاطمة الزهراء بعده بفترة قصيرة ـ رحمها الله رحمة واسعة ـ وفي تلك الفترة كانت بي نظير بوتو زعيمة حزب الشعب هي رئيسة الوزراء وقتها, ولم نشعر بتغيير كبير في واقع الشعب الباكستاني من ناحية تعلقه بالإسلام وحبه لدينه, وكانت فلول الاحتلال الروسي قد غادرت أفغانستان في نهاية الثمانينيات, وبقى العمل على وحدة المجاهدين وتوحيد صفوفهم.. ولكن مع الأسف دون جدوى!.
وفي عام 1990 سافرت مع الداعية الكبيرة إلى الجزائر بدعوة من وزارة الشئون الدينية لحضور مؤتمر الفكر الإسلامي, ولمسنا التحول الكبير في المجتمع الجزائري بشكل عام نحو التمسك بالإسلام, حيث كان المشاركون في المحاضرات والندوات التي يقيمها الدعاة الإسلاميون يعدون بالآلاف أو بعشرات الآلاف بلا مبالغة.. وكانت سمعة الداعية المجاهدة تكاد تبلغ كل أركان المجتمع الجزائري بسبب مواقفها وكتابها أيام من حياتي, كانت رسائل شباب وفتيات الجزائر تشكل أكثر من 90% من بريدها, وفي بعض الفترات كان يصلها ـ من الجزائر وحدها ـ نحو مائة رسالة أسبوعياً!
وفي العام التالي زارت الجزائر مرة أخرى للمشاركة في نفس المؤتمر, وألقت عدداً من المحاضرات العامة, لكنها شعرت أن الصحة لم تعد تتحمل المزيد من الجهد وإرهاق السفر.. كان عمرها في ذلك الوقت قد جاوز الرابعة والسبعين, لكن عزيمتها كانت متوقدة كأنها بنت العشرين! وعندما عادت إلى القاهرة, نصحها طبيبها الخاص الدكتور محمد عبد الرحمن موسى ـ الأستاذ بكلية الطب جامعة عين شمس, وأحد كبار رجالات الطب في مصر ـ بألا تركب الطائرة مرة أخرى حرصاً على صحتها.
عانت الداعية الكبيرة في آخر رحلاتها إلى الخارج ضعف الصحة وظهور آثار الإرهاق والتعب عليها, وبدأت تشعر بأثر السنين وما لاقته في السجون على صحتها وجهدها وطاقتها, واحتاجت إلى من يساعدها في الحركة وارتداء الملابس, ورافقتها في رحلتها الأخيرة إلى الجزائر إحدى تلميذاتها المقربات وهي السيدة آمال حجازي ـ رحمها الله ـ, فكانت خير عون لها على أعباء السفر.
وبالرغم من أن الداعية المجاهدة كانت قد بلغت الخامسة والسبعين من العمر, إلا أنها لم تفكر للحظة في طلب الراحة فيما بقى لها من أيام, بل ازدادت نشاطاً في داخل مصر لتعوض توقف جهدها وعطائها الدعوي في الخارج, وبدأت تهتم أكثر باللقاء الأسبوعي الذي كانت تعقده في بيتها, ويحضره عدد كبير من السيدات والفتيات وعلى الخصوص من سكان حي مصر الجديدة الذي تقيم فيه, وبينهن سيدات يتولى أزواجهن مناصب مهمة وحساسة في السلطة, وهو ما زاد من قلق الأجهزة الأمنية.
كان هذا اللقاء فرصة دعوية واجتماعية ممتازة, وكانت تجيب في نهايته عن أسئلة الحاضرات: الدعوية والفقهية والاجتماعية وغيرها, وتضيف إليه من خبرتها الدعوية والاجتماعية الكثير, وكان يمتد لقرابة الثلاث ساعات.
وعلى المستوى الإعلامي نشطت زينب الغزالي في مجال الكتابة للصحف والمجلات المصرية والعربية, واستقبلت في هذه الفترة المئات من الصحفيين والإذاعيين والقنوات الفضائية, وكانت تشرح دعوتها ومنهجها بقوة واعتزاز وخبرة دعوبة عالية, وأخرجت في هذه الحوارات خلاصة خبرتها الدعوية والحركية على مدى أكثر من نصف قرن, وساهمت بقدر كبير في تصحيح صورة الإسلام والمسلمين لدى الغرب, الذي كان يعيش ـ ولا يزال ـ الكثير من المخاوف والهواجس عن الإسلام والمسلمين.
وكان من بين من استقبلتهم من باحثي الغرب: الكاتب الفرنسي المعروف فرانسوا بورجا, وغيره من الأكاديميين, وكانت تحرص على حسن استقبالهم وإكرامهم أيما إكرام, وتخرج بنفسها لتودعهم حتى باب البيت.. كانت تشعر بأنها سفيرة الإسلام لدى الغرب, وعلى السفير أن يكون واعياً وذكياً ولبقاً, يحسن تمثيل ما يؤمن به وما يدعو إليه.
وظهر لها في النصف الأول من التسعينيات عدة كتب منها: إلى ابنتي ( جزءان ), ومشكلات الشباب والفتيات في مرحلة المراهقة ( جزءان ), وتأملات في الدين والحياة, والأربعين النبوية ( شرح لأربعين حديثاً شريفاً ), بالإضافة إلى الجزء الأول من تفسيرها للقرآن الكريم الذي صدر تحت عنوان " نظرات في كتاب الله ", وهو نفس العنوان الذي كتب تحته الإمام الشهيد حسن البنا تأملاته في تفسير القرآن.
ولهذا التفسير قصة.. فعندما خف التعذيب قليلاً في السجن الحربي, بدأت تقضي وقتاً أطول مع القرآن الكريم قراءةً وتأملاً, وبدأت تشعر ببعض المعاني والإشراقات حول بعض الآيات القرآنية, وسجلت بعضها على هامش نسخة المصحف الذي كان معها في السجن, وبدأ حلم تفسير القرآن الكريم كاملا يراودها, وعزمت ـ إذا من الله عليها بنعمة الحرية ـ أن تكتب تفسيراً للقرآن الكريم, مستعينة بما دونته, بل بما عاشته من معاني وفتوحات, على هامش مصحفها في السجن.
لكن جهاز الأمن سلبها نسخة المصحف التي كانت تعتز بها كثيراً, وعندما خرجت إلى الحرية في عام 1971 بعد ست سنوات من المعاناة, انشغلت بالأعباء الدعوية الأخرى, حتى جاءتها الفرصة في أوائل التسعينيات, فبدأت تقرأ وتتذكر وتدون ما يرزقها الله به من فهم, وما يفيض به عليها من فيوضات وإشراقات, واستكملت كتابة تفسير القرآن الكريم كاملاً, ودفعت به إلى مؤسسة دار الشروق لطباعته وتوزيعه.
كانت الداعية المجاهدة على صلة وثيقة بالأستاذ محمد المعلم, الناشر المعروف وصاحب دار الشروق للنشر, التي اشتهرت بطباعة وتوزيع كتب الشهيد سيد قطب والأستاذ محمد قطب, وبعض الإصدارات الإسلامية الأخرى, ومنها كتاب زينب الغزالي الشهير أيام من حياتي, وكانا يتزاوران ـ هي وصاحب الشروق ـ ويتناقشان في قضايا الوطن والأمة والعمل الإسلامي بشكل عام..
كان الأستاذ محمد المعلم محباً للإخوان المسلمين, ومقدراً لهم جهدهم وعطاءهم في سبيل نهضة الأمة وترشيد الصحوة الإسلامية المعاصرة, وكان يشارك في حفل الإفطار السنوي الذي تقيمه زينب الغزالي في بيتها, وبالتالي كانت تتاح له الفرصة ليقترب أكثر من قيادات ورموز العمل الإسلامي, وكان تقديره لمكانة وجهاد وصبر وعطاء الداعية زينب الغزالي يقوي من صلته بها, وبالمثل كانت الداعية الكبيرة تقدر له شجاعته في نشر كتابها " أيام من حياتي " في منتصف السبعينيات, وتحمله الصعاب والمتاعب التي ترتبت على ذلك, لاسيما أن التيار الناصري والعلماني والكاره للدين عموماً, كان في مواقع اتخاذ القرار في تلك الفترة.
وعندما قدمت له تفسيرها للقرآن: " نظرات في كتاب الله ", استعان بالأستاذ الدكتور عبد الحي الفرماوي ـ الداعية المعروف وأستاذ التفسير بجامعة الأزهر ـ لمراجعته, حتى يتم اعتماده من الأزهر الشريف.
وبالفعل اكتمل العمل وظهر الجزء الأول من التفسير الذي يحوي نصف القرآن الكريم, وحمل الأستاذ المعلم النسخ الأولى إلى الداعية, حيث سعدت به سعادة غامرة, فقد كان حلماً من أكبر أحلامها أن تفسر القرآن الكريم, خصوصاً أن فضيلة الشيخ محمد الغزالي كتب مقدمة له ـ لم تظهر في النسخة المطبوعة ـ قال فيها: إن زينب الغزالي هي أول من قام بتفسير القرآن الكريم من النساء على مدى التاريخ الإسلامي كله.
وقدمت الداعية الكبيرة الجزء الثاني والأخير من التفسير إلى المطبعة, وقبل إتمام المراحل النهائية للطباعة توفي الأستاذ محمد المعلم ـ رحمه الله رحمة واسعة ـ وتوقف كل شئ مع الأسف !. وعبثا حاولت الضغط على دار الشروق من أجل طباعة الجزء الثاني والأخير دون جدوى, ورغم المعرفة الوثيقة بين الداعية المجاهدة وبين الأستاذ إبراهيم المعلم ابن الأستاذ المعلم والمدير الحالي لدار الشروق, إلا أن هذه الصلة لم تحرك الموضوع قيد أنملة, بل إنه توقف عن طباعة بقية كتبها لدى الدار, التي كانت واسعة الانتشار, فمثلاً كتاب " أيام من حياتي " كان يطبع مرتين سنوياً, وفي كل طبعة كان يوزع خمسة آلاف نسخة, والجزء الأول من التفسير, انتهت جميع نسخه المطبوعة ـ ثلاثة آلاف ـ في أقل من عام!
وإزاء هذا الموقف اضطرت زينب الغزالي لوقف التعامل مع دار الشروق, ومنح دار التوزيع والنشر الإسلامية ـ وهي المؤسسة الإخوانية المعروفة ـ حق نشر كتبها كلها, وصدر التفسير كاملا في سبتمبر الماضي (2009 ).