سطور من حياة المجاهدة زينب الغزالي (11)
سطور من حياة المجاهدة زينب الغزالي (11)
كان حفل الإفطار السنوي في بيتها فرصة لاجتماع قادة العمل الإسلامي في مصر
نجحت بسبب إيمانها وشخصيتها القوية في أن تتقدم إلى ريادة العمل الإسلامي العام
بدر محمد بدر
ويحدثني الكاتب الصحفي الأستاذ "جابر رزق" رحمه الله الذي كان مدعوا معها لإلقاء المحاضرات في المخيمات الإسلامية في أمريكا, أنه رغم هذا البرد الشديد في هذا الوقت من العام, إلا أن الحاجة زينب التي كان عمرها قد تجاوز السابعة والستين في ذلك الوقت لم تكن تهدأ من العمل والحركة والنشاط, وكانت تنتقل من لقاء إلى آخر, ومن ندوة إلى أخرى, ومن محاضرة إلى زيارة, وكانت تضع الآخرين من ضيوف المخيمات في حرج, لغزارة نشاطها وحيويتها وتحملها المشاق, وكأنها كانت تعوض السنة الماضية التي منعتها فيها الحكومة المصرية من السفر!.
زارت الداعية الكبيرة الجالية المسلمة في عدد من الولايات الأمريكية, وعندما انتهت الزيارة توجهت إلى المملكة العربية السعودية لأداء العمرة, وبقيت هناك لمدة أسبوعين عقدت فيها عدة لقاءات وألقت عددا من المحاضرات!, وكأنها كانت تودع الأراضي المقدسة, لأنها لم تتمكن من زيارتها بعد ذلك بسبب مرضها وتقدمها في السن.
كان إيمان الداعية المجاهدة وشخصيتها القوية, وإخلاصها الشديد لما تدعو إليه, وتوفيق الله لها.. كل ذلك كان يتيح لها ما لا يتاح لغيرها من قيادات العمل الإسلامي, فكانت تتقدم خطوات إلى الأمام دائماً على طريق العمل الإسلامي العام, وبالرغم من الضغوط الأمنية التي أعقبت اغتيال الرئيس أنور السادات في عام 1981, ثم اتساع نطاق الاعتقالات في صفوف الإسلاميين, إلا أنها سنت سنة حسنة في ذلك الوقت, وهي دعوة قيادات العمل الإسلامي في مصر إلى حفل إفطار رمضاني في بيتها بحي مصر الجديدة كل عام, عقب خروج الأستاذ عمر التلمساني المرشد العام للإخوان المسلمين وإخوانه من المعتقل ( يناير 1982 ).
كانت تدعو في هذا الحفل ما يقرب من مائة وخمسين شخصية من العاملين للإسلام, سواء من تيار الإخوان المسلمين الذي كانت تنتمي إليه أو من التيارات الإسلامية الأخرى, أو من الشخصيات الإسلامية العامة.
كان هذا الإفطار السنوي فرصة كبيرة لاجتماع قادة العمل الإسلامي في مصر من كل التيارات والجمعيات, في جو رمضاني إيماني رباني قرآني, تصفو فيه النفوس وتستقر فيه القلوب وتقترب من الله أكثر, وهو بالتالي فرصة لمناقشة قضايا الأمة ومشكلات الوطن وتحسين وتطوير العلاقات بين العاملين للإسلام, وكيفية التنسيق والتفاهم على القضايا الرئيسية في الواقع الميداني, كان يحضر هذا الإفطار قيادات من الإخوان المسلمين والجمعية الشرعية وجمعية الخلفاء الراشدين وبعض السلفيين وقيادات في نقابات: المحامين والمهندسين والأطباء وغيرها, وكثير من المحبين للإسلام كذلك.
وكانت الداعية الكبيرة تحرص على تقديم أفضل أنواع الطعام المجهز في بيتها خصيصا, وأطيب اللحوم والفواكه والحلويات والمشروبات المختلفة, وتخص عدداً من الضيوف الكبار بأكلات معينة, تعرف أنهم يحبونها وينتظرونها في هذه المناسبة كل عام, مثل طواجن اللحم بالبصل ومحشي ورق العنب وغيرها, وكانت تحرص على خدمة الضيوف بنفسها, ولا تتناول إفطارها الأساسي إلا بعد أن ينتهي جميع ضيوفها من إفطارهم, ثم يغادرون المنزل بعد ذلك إلى صلاة العشاء والتراويح في المسجد.
وبالإضافة إلى خدمة الضيوف كانت زينب الغزالي تحرص على أمرين: الأول هو السؤال عن السائقين القادمين مع الضيوف, حتى تقدم لهم طعام الإفطار ربما بنفسها وتتأكد من أنهم أفطروا على نفس أنواع الطعام التي تناولها الضيوف, والأمر الثاني: البحث عن " المخبرين " المكلفين من جهاز أمن الدولة بمراقبة حفل الإفطار والضيوف الذين يشاركون فيه, وإحصاء عددهم ونوعياتهم وأرقام سياراتهم.. الخ, حتى يأخذ هؤلاء المخبرين حظهم من الإفطار مثل السائقين تماماً, ورغم ما عرف عنها من صلابة الرأي وقوة الشخصية والحدة في مواجهة سياسات جهاز مباحث أمن الدولة ضد الإسلاميين عموما, إلا أنها كانت شديدة الرفق بهؤلاء المخبرين, خصوصا في شهر رمضان, وتقول بالتعبير العامي المصري: " دول غلابة ", وبالتالي كانوا يشعرون بامتنان شديد لها.
ولم يكن أحد من المدعوين يتخلف عن الحضور إلى حفل الإفطار الرمضاني الذي كانت تدعو إليه السيدة زينب الغزالي والذي كانت تحرص على أن يكون في أحد أيام النصف الأول من شهر رمضان كل عام قبل انشغال هؤلاء بالعبادة, أو السفر لأداء العمرة في العشر الأواخر من الشهر إلا لعذر قهري, فهو فرصة للتعارف والتآلف والحوار, بالإضافة للاستمتاع بما لذ وطاب من طعام.
واستمر هذا الاحتفال السنوي لأكثر من خمسة عشر عاماً, حتى بدأت الداعية الكبيرة تتجاوز الثمانين من العمر وتدخل في سن الشيخوخة, وبعد أن مرضت أختها الحاجة ( حياة ), التي كانت تشرف على تنفيذ وإعداد طعام الإفطار, اقترحت زينب الغزالي إقامة الاحتفال السنوي في أحد الفنادق المعروفة.
عبر الإخوان عن شكرهم وامتنانهم للسيدة زينب الغزالي وأشفقوا عليها من المجهود الكبير الذي يحتاجه الحفل منها في هذه السن, ورفضوا أن يحملوها أعباء إقامته في فندق.
وربما كان هذا الإفطار هو الحافز الذي دفع قيادات الإخوان المسلمين بعد ذلك, إلى إقامة حفل إفطار سنوي, بدأ في فندق الأمان بالجيزة ( وكان الفندق الوحيد في ذلك الوقت الذي لا يقدم خمورا لنزلائه ) في عام 1987م 1407 ه في عهد المرشد العام الأستاذ محمد حامد أبو النصر رحمه الله, واستمر بعد ذلك لفترة طويلة, حتى تدخلت الأجهزة الأمنية لمنعه في السنوات الأخيرة.
وفى هذا الحفل السنوي لم تكن الداعية زينب الغزالي تنسى الأخوات المسلمات.. كانت توجه لهن الدعوة بمفردهن أو مع أزواجهن, فيحضر ما بين عشرين وثلاثين أختا بدون أولادهن لظروف المكان والمناسبة, وكانت تدعو أحد كبار الضيوف ليلقى كلمة لهن, عن الدور المطلوب منهن لخدمة الإسلام, ومسئوليتهن عن نهضة الأمة من جديد, ويجيب عن أسئلتهن الدعوية والتربوية والاجتماعية, وكان الاختيار في الأغلب يقع على الأستاذ الكبير عمر التلمساني المرشد العام للإخوان المسلمين رحمه الله حتى توفي في عام 1986, ثم الأستاذ والمربي الكبير مصطفى مشهور المرشد العام للإخوان بعد ذلك رحمه الله.
ورغم المجهود البدني والنفسي الكبير الذي كانت تبذله الداعية الفاضلة, قبل وأثناء حفل الإفطار السنوي, وكانت قد جاوزت السبعين من عمرها في ذلك الوقت, إلا أنها كانت تشعر بسعادة غامرة وارتياح كبير, لتوفيق الله لها للقيام بهذا العمل الطيب, وتشريف كل هؤلاء الدعاة والعلماء والقادة لبيتها ولشخصها, وقيامها على خدمتهم وراحتهم في هذا الشهر المبارك.
وفي عام 1986 صدر لها كتاب جديد بعنوان " نحو بعث جديد " الذي أكدت فكرته الأساسية على وحدة العقيدة والتوحيد منذ خلق الله الكون, وأنه سبحانه خلق آدم وأبناءه لعمارة الأرض وبناء الحضارة, وأرسل الرسل وأنزل الكتب السماوية لهداية البشر, حتى جاء خاتم الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم بخير رسالة وأكمل شريعة, وتدعو الأمة الإسلامية إلى قراءة القرآن الكريم والسنة النبوية من جديد, وإحياء المنهج الإسلامي الذي سادت به الدنيا مئات السنين.
وفي نوفمبر من نفس العام سافرت مع الداعية الكبيرة إلى دولة الباكستان, للمشاركة في مؤتمر عالمي عن " السيرة النبوية ", دعتنا إليه السيدة الفاضلة نثار فاطمة الزهراء رحمها الله عضو البرلمان المركزي الباكستاني.. كانت سيدة كريمة في الخمسينيات من العمر, تشتعل حماسة وحباً وشوقا لتطبيق مبادئ دينها, وتسعى بكل طاقتها من أجل نهضة وتقدم ورقي أمتها الإسلامية, وكانت على علاقة طيبة بالجماعة الإسلامية التي أسسها العلامة الأستاذ أبو الأعلى المودودي, وكان يرأسها في تلك الفترة الشيخ ميان طفيل محمد.
حضرنا المؤتمر في مدينة لاهور وهي من كبريات المدن الباكستانية العريقة, وألقت فيه الداعية محاضرة مهمة عن" دور المرأة المسلمة في المجتمع الإسلامي ", وأدلت بالعديد من الحوارات الصحفية والإذاعية والتليفزيونية, وزارت بعض الولايات القريبة, وألقت فيها عدة محاضرات باللغة العربية, صاحبها ترجمة فورية باللغة الباكستانية ( الأوردية ).
وفى أواخر العام التالي 1987 م جاءتها الدعوة لحضور نفس المؤتمر, ووصلت أنا وهي إلى باكستان في أوائل شهر ديسمبر, وكانت الداعية الكبيرة في ذلك الوقت قد تخطت السبعين من العمر, ورغم ذلك كانت تمتلئ حماسة وعزيمة لخدمة الإسلام والمسلمين في أي مكان, وقبل أن تبدأ أعمال المؤتمر بساعات قلائل, مرضت مرضاًَ شديداً, وارتفعت درجة حرارتها لما يقارب الأربعين درجة مئوية, وقررت الاعتذار عن عدم الحضور والمشاركة في أعمال المؤتمر الذي حضرت من القاهرة خصيصا من أجله, وقضت ليلتها في الفندق الذي تنزل فيه وهى تعاني من شدة الألم.
ومع أنفاس الليل الأخيرة هدأت حرارتها قليلا وخف الألم واعترتها سنة من النوم, وإذ بها ترى رؤيا في منامها.. رأت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم زارها وهو يرتدي حلة بيضاء زاهية, وقدم لها أوراقاً مكتوبة بعد أن وقّع عليها, ثم استيقظت من نومها بعد هذه الرؤيا, لتشعر بارتياح نفسي بالغ وسعادة داخلية غامرة ونشاط بدني غير عادي.. لقد كانت تتمنى رؤية الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم في منامها منذ فترة طويلة, وها هو قد زارها في المنام بعد انقطاع.. كانت رؤية الرسول الكريم في المنام, كفيلة بأن تصعد بها إلى عنان السماء من الإحساس والشعور بالفرح والبهجة والسرور, كيف لا وهو من كانت رؤيته المنامية في أيام السجن الحالكة, كفيلة بأن تنسيها كل آلام التعذيب التي تعيش فيها, والتي كانت فوق طاقة واحتمال البشر.