خالد بن عبد الرحمن العك
الشيخ المُصنِّف السلفي السوري
رحمه الله تعالى
(1362-1420هـ/ 1943-1999م)
أيمن بن أحمد ذو الغنى
عضو رابطة الأدب الإسلامي العالمية
يوم كنتُ فتًى في المرحلة الثانوية اقترح إمامُ مسجدنا الشيخ عمار راجعي -وكان طالبًا في معهد الفتح الإسلاميِّ- أن نتدارسَ كتابًا في السيرة النبوية الشريفة، نتعرَّف به هديَ النبيِّ الكريم صلى الله عليه وسلم في أحواله كلِّها، ونستنشي عبقَ شمائله، ورفيعَ أخلاقه، لنقتديَ بسنَّته ونَسْتارَ بسيرته..
وتركنا له أمرَ الكتاب فاختار ((فقه السِّيرة من زاد المعاد)) للشيخ خالد بن عبدالرحمن العك.. وقد قرأنا الكتابَ على مدى سنتَين، وانتفعنا بصنيع مؤلِّفه فيه، وحُسن استخلاصه سيرةَ النبيِّ العطرةَ عليه أفضلُ الصلاة وأتمُّ التسليم من كتاب الإمام ابن قَيِّم الجَوزيَّة ((زاد المعاد في هَدي خير العباد)).
وكان من دَأَبي في تلك المرحلة التطلُّع إلى معرفة الأعلام من العلماء والمشايخ والمؤلِّفين، فشرعتُ أسأل عن مصنِّف الكتاب الشيخ خالد العك، حتى اهتديتُ إلى مسجد يخطُب فيه الجمعة ويلقي درسًا عَقِبَ الصلاة في علم مُصطَلح الحديث، يشرح فيه كتابَ العلامة الشيخ أحمد محمد شاكر ((الباعث الحثيث شرح اختصار علوم الحديث)).
كان المسجد مغرقًا في القِدَم، وصغيرًا جدًّا، لا يكاد يُهتدى إليه، أشبهَ بنبتة صغيرة في حائط نخل باسق، تُحيط به أبنية أثرية وكنائسُ تاريخية، في حيٍّ من أحياء النصارى بدمشق حيِّ (باب توما). ولولا المنبرُ المرتفع قليلاً في صدره لما ظُنَّ سوى غرفة أو مستودع!
اختلفتُ إلى هذا الجامع أشهرًا أحضر خطبَ الشيخ، وما يعقبُها من دروس الحديث، ولم يكن يزيد عددُ الحضور على عَشَرات قليلة، جُلُّهم من طلاب العلم في المعاهد الشرعيَّة بالشام.
وكان الشيخ يُعد للدرس عُدَّته ويحشُد له، فتراه يُملي على الطلاب فوائدَ كثيرةً أثبتها في وُرَيقات وجُزازات، وجُمهور ما يُمليه مُنتَزَعٌ من كتب المحدِّث الشيخ محمد ناصر الدين الألباني الذي كان يجلُّه ويعتدُّ بعلمه كلَّ الاعتداد، وكان يُصدِّر تلك الأمالي بعبارة: ((قال شيخنا أبو عبد الرحمن)) يعني الألبانيَّ.
لم تسمح لي المدَّةُ القصيرة التي حضرتُ فيها أن أتعرَّفَ الشيخَ تعرفًا عَميقًا، بيد أني لم أُخطئ في شخصيته خِصالاً حميدةً باديةً بجلاء، ولعلَّ أسطعَها وضوحًا الرزانةُ وهدوء الطبع، والحِلمُ ولينُ الجانب، وإيثارُ السلامة.. ولقد أبصرتُ بعينيَّ مواقفَ أُسيء فيها إلى الشيخ إساءةً وهو صابرٌ محتسب يدفعُ بالتي هي أحسن.
وإن تعجَب فعجبٌ أن تكونَ تلك المنغِّصاتُ من مؤذِّن المسجد والقيِّم عليه، الذي ينسُب نفسَه إلى الصوفية، ويُبدي حميَّةً شديدة وعصبيَّةً مُفرِطَة للتصوُّف وأهله، مع حقدٍ أشدَّ على المخالفينَ وشنآنٍ للسلفية والسلفيين!
فكان يُزعجه اتجاه الشيخ الأثريُّ ويحمله على ألا يدعَ وسيلةً للتنغيص عليه إلا أتاها.. فما أكثرَ أن يقطعَ سِلكَ المِصْوات في أثناء الدرس، بل قطع مرَّة الكهرَباءَ عن المسجد كلِّه، والشيخُ ماضٍ في الشرح غيرُ مكترث به ولا مُلتفت إليه، وما كان يزيدُ على أن يُكَفكِفَ انفعالَ بعض طلابه ويسكِّنَ أفئدتهم بحَدَبٍ ورِقَّة.
ومن الطرائف، أننا في أحد أيام الجمعة مَضَينا إلى المسجد لحضُور الخطبة، وإذا به مغلق! والشيخ واقفٌ بالباب الموصَد مع جمع من الشبَّان ينتظرون أن يَحِنَّ عليهم القيِّم ويفتحَ لهم، ولما طالَ بنا المُقام ودَنا وقتُ الجمعة مَضَينا مع الشيخ إلى أقرب جامعٍ وأدَّينا فيه الفَريضة!
تلكم بقايا صور في ذاكرتي لصِلَةٍ بالشيخ غبرَ عليها زُهاء عشرين سنة! ولم يُكتب لها أن تدومَ أو تتعمَّق، لكنها لم تنقطع البتَّة، إذ اتصلت أسبابي بأسباب بعض وَلَدِه وما تزال وثيقةً إلى يومنا هذا.. وها قد مَضى على رحيل الشيخ -رحمه الله- عِقدٌ من السنين ولم أقف على من تَرجَمَ له أو دوَّن سيرته العلمية والعملية، فرأيت حقًّا عليَّ واجبًا أن أنهضَ بما قَعَدَ دونه الآخرون، فكانت هذه الترجمةُ الموجزة، ولئن لم ينل الشيخ حقَّه من الترجمة والشهرة، فإن ما قدمه وبذله في حياته لمحفوظٌ مدوَّن عند من لا يظلم مثقالَ ذرَّة. كافأه ربُّنا بما هو أهله، وتقبَّله وجعل ما تركه من آثار صدقةً جارية له إلى يوم القيامة.
سيرة موجزة :
خالد بن عبدالرحمن العك: من أهل العلم والفضل، باحث مصنِّف محقِّق، ومعلِّم مربٍّ، سلفيُّ الاتجاه. كان ليِّنَ العَريكة، سليمَ الصدر، متواضعًا.
ولد بدمشق سنة 1362هـ (1943م)، والتحقَ بعد إكمال الدراسة الابتدائيَّة بمعهد الفتح الإسلاميِّ الذي أنشأه العالم المربِّي الشيخ صالح الفُرفور رحمه الله تعالى، وأتمَّ الدراسةَ فيه سنة 1381هـ (1961م).
وطلب العلمَ على عددٍ من علماء الشام منهم: مفتي الجمهورية الشيخ الطبيب محمد أبو اليُسر عابدين، وشيخ القرَّاء حسين خطَّاب، وتأثَّر بمنهج الشيخ المحدِّث محمد ناصر الدِّين الألباني.
عمل في سِلك التعليم والتربية، في الثانوية الشرعيَّة بدمشق، وتولَّى التوجيهَ فيها، ودرَّس في معهد الفُرقان الشرعي، وكُلِّف بإدارته سنة 1390هـ (1970م).
وشغل وظائفَ في وزارة الأوقاف، منها: مدرِّس في مديرية الإفتاء، وعضوٌ في لجنة التدقيق والرِّقابة الدينيَّة للكتب والمطبوعات. وتولَّى الإمامةَ والخطابة في غير ما جامعٍ بدمشق.
اعتنى بالتأليف والتحقيق، وكان مكثرًا منهما، وتنوَّعت كتبُه في موضوعات العقيدة، والفقه، والحديث، والسيرة، وقضايا التربية والأسرة، وأعدَّ بعضَ الموسوعات، واختصر عددًا من المطوَّلات، والتزمَ في جميع تآليفه منهجَ أهل السنة والسلف الصالح.
وأسهم في إنشاء مجلة (السلفيَّة) بالتعاون مع الشيخ محمد عيد العباسي، وتوليا معًا إدارة تحريرها، ولكن لم يلبثا أن أحجما عن العمل بعد صدور بضعة أعداد؛ لاختلاف وجهات النظر مع رئيس تحريرها وصاحب امتيازها الشيخ موسى بن عبدالله آل عبدالعزيز.
أُصيب بمرضٍ دماغيٍّ عُضال صبر على آلامه سنتين، وأُجريت له جراحةٌ استُؤصِلَ فيها منطقةُ الكتابة والنطق من دِماغه، ففقد القُدرةَ على الكلام تمامًا، ولكنَّ الله أكرمَه بدوام الذِّكر، فكان لسانُه رطبًا لا يَكفُّ عن التشهُّد والحوقَلَة والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى وافته المنيَّة في يوم الجمعة لثلاثٍ خَلَوْنَ من ذي الحجة، سنة 1420هـ، يوافقه (19/ 3/ 1999م) وقد بلغ الثامنةَ والخمسين من عُمُره رحمه الله.
من كتبه: أصول الفقه وقواعده، صور من حياة الصحابيات، موسوعة فقه المرأة المسلمة، غاية حياة الإنسان، تاريخ توثيق نصِّ القرآن، الفرقان والقرآن، عقيدة المسلم، فقه التوحيد، بناء الأسرة المسلمة، شخصية المرأة المسلمة، المحرَّمات على المرأة المسلمة، آداب الحياة الزوجية، عوامل التطرُّف والإرهاب والغُلُو، موسوعة الفقه المالكي، فقه السيرة من زاد المعاد، فقه السنة من زاد المعاد، صحيح شُعَب الإيمان، عظماء حول الرسول صلى الله عليه وسلم، مختصر صحيح البخاري، مختصر مسند الإمام أحمد، مختصر شرح العقيدة الطحاوية.
ومن تحقيقاته: نيل الأوطار للشوكاني، طَلِبَةُ الطَّلَبة للنسَفي، تفسير البَغَوي، سُبل السلام للصنعاني، أعلام النبوة للماوَردي، تسهيل الوصول إلى علم الأصول.
وترك كثيرًا من المصنفات مخطوطةً منها:
موسوعة الأحكام الفقهيَّة على المذاهب الخمسة، موسوعة عقائد السلف، موسوعة علوم الحديث، موسوعة العلوم الكونيَّة في القرآن والسنة، منهج القرآن في عقيدة التوحيد، حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، نهاية العالم .