د . ممدوح فخري جولحة
العالم الشهيد
ع . م . النذير
ولد الشهيد عام /1936/ في قرية (برج إسلام) التركمانية الواقعة على الحدود السورية ـ التركية تلك القرية التي جمعت مختلف ألوان الجمال ، من جبال مكسوة بالغابات إلى أودية خضراء ، وينابيع ثرة عذبة ، إلى سهول أخاذة ساحرة ، تطل على البحر الجميل ..
في هذه الطبيعة الجميلة ، وفي تلك القرية الهادئة المطمئنة درج الشهيد في سنوات عمره الأولى .. يستقي من براءتها الوضيئة ، لتنسكب في قلبه المؤمن طهراً وصفاءً ، تطبع شخصيته المتميزة حتى آخر أيام حياته . وأهم من ذلك أن الأصالة والبساطة والوضوح كانت من أبرز صفاته . فقد نشأ بين أبوين كريمين صالحين وأسرة فاضلة عرفت بالتدين والخلق والكرم ، فاجتمع له المنبت الحسن والأسرة الصالحة والبيئة النظيفة الطاهرة .
وفي مدرسة القرية أتم الفتى ممدوح دراسته الابتدائية ، ثم التحق بمدارس اللاذقية ، الإعدادية والثانوية ونال شهادة المرحلة الثانوية عام 1958 ، ولقد كان في هذه الفترة محل إعجاب أساتذته وتقدير إخوانه .
وانصرف بكليته إلى العناية بالقرآن حفظاً وترتيلاً وتفسيراً حتى بزّ أقرانه ، وبرزت مواهبه .. فكان مسؤول الحلقات الطلابية في مدرسته ، يضفي عليها من صفاته ، ويزين مجالسها بصوته العذب الخاشع في تلاوة القرآن ، مما رشحه بعد ذلك ، وهو لايزال حدثاً ، أن يؤم الناس في الصلاة ومجالس العلم وعليه وقار العلم والإيمان .
ثم التحق بعد نيله الثانوية بالأزهر الشريف وحصل على إجازة الشريعة عام /1962/ ، وفي الأزهر الشريف برز الشهيد بين إخوانه من شتى أقطار الإسلام فكان إمامهم في مدينة البعوث الإسلامية وخطيبهم ، وما إن أتم دراسته للشريعة الإسلامية حتى التحق بتدريس مادة التربية الإسلامية في المدارس والوعظ في المساجد ، يستمد معلوماته من ذاكرة عجيبة ، وحافظة قوية ، ورغبة شديدة في التحصيل العلمي ودأب عليه ، فكان لا يضيع دقيقة من وقته دون فائدة ، كتابه بين يديه حتى وهو على مائدة الطعام .. ويقول لنصحائه : إن بعض علمائنا الذين لم يبلغوا عقدهم الرابع ، لو رحنا نوزع ما كتبوه على أعمارهم لكان نتاج أحدهم من 100 ـ 200 صفحة يومياً . فمتى كانوا يستطيعون الكتابة ويحصلون هذه العلوم لو لم يستغلوا كل دقيقة من أوقاتهم ؟
إضافة إلى ذلك ، فقد كانت مكتبته الخاصة عامرة بكل أنواع العلوم الإسلامية والمعارف الإنسانية ، وكانت تعتبر أكبر وأغنى مكتبة في المحافظة .
وفي مدارس اللاذقية كثر محبوه وتلامذته .. فنقل إلى الريف لكي يحولوا بينه وبين جماهير اللاذقية المتعطشة للإسلام ، والظامئة لمعرفة أمور دينها ، ثم أعيد للاذقية ، ولكن إلى مدارس البنات ، فكان له في سلوكهن أكبر الأثر ، وسُدت في وجهه منافذ الدعوة والاتصال بالناس ، ولم تسلم هذه الفترة من حياة الشهيد من دخول السجن مراراً .
وفي مثل هذه الأجواء وأمام تلك المضايقات لم تلن لشهيدنا قناة ، بل كان عزاؤه في المثابرة على العلم والتحصيل ، فقد استطاع أن ينال شهادة الدكتوراه في الشريعة الإسلامية عام 1976 ـ 1977 وذلك في بحث قيم تقدم به للأزهر الشريف " نظام النفقة في الأسرة في الشريعة الإسلامية " .
أما منهجه في البحث والتدريس فقد عرف عنه الإذعان للنص الشرعي والتزامه بالكتاب والسنة عقيدة وطريقة ومنهاجاً وفقهاً ونبذه للبدع والخرافات التي ليست من الدين في شيء .. وحملته على الآكلين الدنيا بالدين ، كل ذلك في أدب جم وخلق رفيع وفصاحة لسان ، وحسن بيان ، وثبات جنان ، إذ كان لكلماته المنبعثة من القلب شفافية وأثر يظهران في تملكها للقلوب ، فلقد كان الشهيد خطيباً مفوهاً ، جريء القلب حاضر البديهة ، يصدع بالحق ولا يخشى في الله لومة لائم ، وكانت خطبه الجريئة الواضحة صوت الحق الداوي في سماء اللاذقية ، يتسابق المسلمون إلى استماعها ، فيتزاحمون حتى يغص المسجد بمن فيه وتمتلئ الشرفات والشوارع المحيطة بالمسجد .. إذ تجد هذه الجماهير في كلامه تعبيراً عما يجيش في صدورها ، وجواباً شافياً لما يجول في نفوسها .
وإذا كانت اللاذقية لا تنسى مواقف عالمها الجريء ، فهي ما تزال تذكر وقفته الشجاعة في فضح مخازي الظالمين ، ولا تزال كلماته ترن في أذن الزمان وهو يبين حكم الإسلام في انتخاب رئيس الجمهورية ، حيث وقف الشيخ ممدوح في جامع حي " المشروع " يوضح للمسلمين الصفات التي يجب أن يتحلى بها الحاكم المسلم حتى يجوز للمسلمين أن ينتخبوه ، حملهم المسؤولية أمام الله ثم الأجيال وبهذا أبرأ ذمته ، ورفع الإثم عن علماء المسلمين في اللاذقية .. وكان للشهيد وقفة أخرى لما أُعلن الدستور الجديد ، وطلب من المسلمين الاستفتاء عليه في مسرحية هزيلة لا تخدع أحداً ، وهنا دوى صوت الدكتور ممدوح ـ رحمه الله ـ خطيباً في جامع " البيرقدار " وأعلنها صريحة مدوية تفضح المهزلة والقائمين عليها معرياً حقيقة النظام المشبوه ودوره في هدم الإسلام ، ومظهراً حكم الإسلام في دستور لا يمثل الإسلام والمسلمين ، واصفاً الذين صاغوه بتغيير شرع الله والكفر بما أنزل على محمد عليه الصلاة والسلام ، ومحذراً من يرضى به طائعاً مختاراً بعد علمه بمخالفته الصريحة للشرع .
ثم رفع الشهيد سبابته وقال : الله اشهد ثم أني قد بلغت ، أيها المسلمون اشهدوا بأني قد بلغت .
وازداد التضييق على الشهيد فسجن مراراً ، وسرح من وظيفته مدرساً للتربية الإسلامية ، ولكن لم يثنه ذلك عن قول الحق والصدع به .
وحين وقف العلماء الموقف الذي تتطلبه مكانة العلم وأمانته .. بدأت السلطة بخطف العلماء والمدرسين وذوي المكانة في قلوب الجماهير .
ففي السابع والعشرين من حزيران 1980 داهمت بيت الشهيد سيارة مسلحة تضم عناصر البغي ، مروعين أسرته ، لينتزعوه في ظلمة الليل وليمضوا به .. ثم عصبوا عينيه .. وأطلقوا عليه الرصاص .. تشفياً وحقداً .. فسقط الشهيد وقد صرخ صرخة مدوية " الله أكبر " فاهتز لها السهل والجبل .
ومضى ممدوح فخري جولحة إلى ربه شهيداً يجمع بين مداد العلماء ودماء الشهداء .. وقد ترك في قلوب إخوانه ومحبيه وتلامذته وأبناء منطقته ومن عرفه .. أكبر الأثر ..