سطور من حياة المجاهدة زينب الغزالي (6)
سطور من حياة المجاهدة زينب الغزالي (6)
كانت ترى أن السعودية مؤهلة أكثر من أي بلد آخر لتطبيق الشريعة الإسلامية
هذا هو دورها في العمل على إعادة إحياء جماعة الإخوان المسلمين في 1957
بدر محمد بدر
كانت داعيتنا الكبيرة تحرص على تنظيم بعثة للحج في كل عام من عضوات السيدات المسلمات وأزواجهم وأبنائهم, وكانت علاقتها بالمملكة العربية السعودية والمسئولين فيها طيبة, خصوصاً في عهد الملك سعود بن عبد العزيز, وبعده الملك فيصل رحمهما الله.. لقد كانت تحلم ببناء ووجود الدولة الإسلامية بحق..الدولة التي تطبق شرع الله وتحكم بكتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم, وتعيد أمجاد الأمة الإسلامية وحضارتها وريادتها من جديد.
ورأت زينب الغزالي أن المملكة العربية السعودية التي تأسست في أوائل الثلاثينيات من القرن الماضي مؤهلة للقيام بهذا الدور, بل يجب عليها أن تتحمل هذه المسئولية, وكانت تبث هذه الآمال والأشواق إلى مجتمع إسلامي حقيقي في كتاباتها, بل إنها كتبت أول كتاب لها تحت عنوان " ملك وآمال شعب " للملك سعود على وجه الخصوص, تدعوه فيه إلى إعلان تطبيق الشريعة الإسلامية الغراء وتبني الحكم بمنهج الإسلام وتربية الشعب تربية إسلامية صحيحة, واقترحت عدداً من المجالات والقضايا والأفكار التي يجب على القادة في المملكة تبنيها في السياسة كمبدأ الشورى, وفي الاقتصاد والمال مثل البنوك الإسلامية التي لا تتعامل بالربا, وفي التعليم مثل تعليم البنات في المدارس والجامعات, وكان ذلك مرفوضاً في المملكة حتى ذلك الوقت, وواصلت الداعية الكبيرة جهودها حتى تم قبول واعتماد هذا المبدأ, وكما قال أحد تلامذتها ومحبيها ـ وهو المهندس محمد الصروي رحمه الله ـ وهو يؤبنها: إن كل فتاة تحصل على التعليم الرسمي في المملكة العربية السعودية الآن, فإن للسيدة زينب الغزالي عليها فضلاً.
كانت الحكومة السعودية تحتفي بزيارة الداعية المجاهدة كل عام, وتخصص لها أماكن رسمية لبعثة السيدات المسلمات في الحج, وتستضيفها على نفقتها طوال موسم الحج, لما تعلمه من صدقها وإخلاصها لدينها, وكانت هذه العلاقة الطيبة وسيلة لحل الكثير من مشكلات أعضاء جماعة الإخوان المسلمين, الهاربين من معتقلات وسجون عبد الناصر في مصر, مثل تيسير منح الإقامة والبحث عن فرص عمل وغيرهما, وفي إحدى رحلات الحج ـ كان ذلك في عام 1957 ـ التقت زينب الغزالي شاباً من الإخوان المسلمين هو ( الشهيد ) عبد الفتاح إسماعيل, الذي كان يحظى بمكانة خاصة لدى الإمام الشهيد حسن البنا, مكنته من معرفة بيعة زينب الغزالي له, التقت به في ميناء السويس البحري قبل السفر, ثم التقت به بعد ذلك في المسجد الحرام, وتعاهدا معاً على العمل في سبيل الله من أجل رفع راية الإسلام, وبذل كل جهد ممكن لتجميع صفوف الإخوان المسلمين من جديد.
تقول زينب الغزالي في كتابها أيام من حياتي: ".. مع أوائل عام 1958 كانت لقاءاتي قد تعددت بعبد الفتاح إسماعيل, في منزلي وفي دار المركز العام للسيدات المسلمات.. كنا نبحث في أمور المسلمين, محاولين بكل جهدنا أن نفعل شيئاً للإسلام يعيد لهذه الأمة مجدها وعقيدتها, مبتدئين بسيرة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ والسلف الصالح ومن بعدهم.. جاعلين منهجنا مستمداً من كتاب الله وسنة رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ, وكانت خطة العمل تستهدف تجميع كل من يريد العمل للإسلام لينضم إلينا, كان ذلك كله مجرد بحوث ووضع خطط حتى نعرف طريقنا, فلما أردنا أن نبدأ العمل كان لابد من استئذان ( المستشار حسن الهضيبي ) باعتباره مرشداً عاماً لجماعة الإخوان؛ لأن دراستنا الفقهية حول قرار حل الجماعة قد انتهت إلى أنه ( قرار ) باطل.
وتضيف: " والتقيت الأستاذ " حسن الهضيبي " لأستأذنه في العمل باسمي وباسم عبد الفتاح إسماعيل, وأذن لنا في العمل بعد لقاءات عدة, شرحت له فيها الغاية وتفاصيل الدراسات التي قمت بها أنا وعبد الفتاح, وكان أول قرار لبدء العمل هو أن يقوم الأخ عبد الفتاح إسماعيل بعملية استكشاف على امتداد مصر كلها, على مستوى المحافظة والمركز والقرية, والمقصود من هذا كله أن نتبين من يرغب في العمل من المسلمين, ومن يصلح للعمل معنا.. مبتدئين بالإخوان المسلمين لجعلهم النواة الأولى بهذا المجتمع ".
كانت توجيهات المستشار حسن الهضيبي عندما يعرضون عليه ما توصلوا له: " استمروا في سيركم ولا تلتفتوا إلى الوراء ولا تغتروا بعناوين الرجال وشهرتهم, أنتم تبنون بناء جديدا من أساسه ".
وتضيف زينب الغزالي: وفي سنة 1959 انتهت بحوثنا إلى وضع برنامج للتربية الإسلامية, وأشهد الله أنه لم يكن في برنامجنا غير تربية الفرد المسلم الذي يعرف واجبه تجاه ربه, وتكوين المجتمع المسلم الذي سيجد نفسه بالضرورة مفاصلاً للمجتمع الجاهلي, ولما كان نشاط جماعة الإخوان المسلمين معطلاً بسبب قرار الحل الجاهلي في عام 1954 كان ضرورياً أن يكون النشاط سرياً.
كانت الداعية المجاهدة قد تزوجت في عام 1951 من رجل الأعمال الحاج محمد سالم سالم, وكان من أعضاء الإخوان المسلمين غير أنه لم يكن معروفا بعد لأجهزة الأمن, وعندما بدأت اجتماعات زينب الغزالي وعدد من نشطاء الإخوان في منزلها بعد منتصف الليل؛ اتقاءً للجواسيس وعملاء أجهزة الأمن, وحتى يكتمل البناء التنظيمي من جديد بعيداً عن الأزمات, عند ذلك بدأ الحاج محمد سالم يتساءل عن ذلك العمل الذي يستدعي اللقاء في مثل تلك الأوقات المتأخرة من الليل.. لم يكن ينظر بمنظار آخر غير المنظار الدعوي, لكنه يعرف طبيعة زوجته في الإقدام والاستعداد الدائم للتضحية والتحمل والعناد أمام قوى البغي والتسلط.. كان يخشى عليها من الخطوات المقبلة, وهو يعلم طبيعة الضباط ( ضباط ثورة يوليو ) الذين يحكمون البلد بالحديد والنار في تلك الفترة ( 1957 وما بعدها )؛ ولذلك دار هذا الحوار بينه وبين زوجته المجاهدة زينب الغزالي, كان مثالاً للرقي والسمو الديني والأخلاقي والاجتماعي.
كان الحاج محمد سالم سالم يخشى على زوجته الداعية الكبيرة من غدر ضباط الثورة, وعدم التزامهم بأي خلق أو دين أو تقاليد إذا قرروا إيذاءها والتنكيل بها ( وهو ما حدث فعلا بعد ذلك ), وبالتالي سألها عن نشاط الإخوان المسلمين ونوعيته ليطمئن عليها, فذكرته بشروطها عندما قبلت الزواج به, فقال لها: ولكني أخاف عليك اليوم من تعرضك للجبابرة, فردت قائلة: " الناس في أغلبهم يعتقدون أني أدين بمبادئ الوفد السياسية, وهذا غير صحيح, الأمر الذي أؤمن به وأعتقده هو رسالة الإخوان المسلمين.. ما يربطني بمصطفى النحاس ( زعيم حزب الوفد في ذلك الوقت ) هو الصداقة الشخصية, لكني على بيعة مع ( الإمام ) حسن البنا على الموت في سبيل الله, غير أني لم أخطو خطوة واحدة بعد, توقفني داخل دائرة هذا الشرف الرباني, ولكني أعتقد أنني سأخطو هذه الخطوة يوماً ما, بل وأحلم بها وأرجوها, ويومها إذا تعارضت مصلحتك الشخصية وعملك الاقتصادي مع عملي الإسلامي, ووجدت أن حياتي الزوجية ستكون عقبة في طريق الدعوة, فسنكون على مفرق طريق ".. وأردفت: " أنا لا أستطيع أن أطلب منك اليوم أن تشاركني هذا الجهاد, ولكن من حقي أن أشترط عليك ألا تمنعني من جهادي في سبيل الله, ويوم تضعني المسئولية في صفوف المجاهدين, فلا تسألني ماذا أفعل, ولتكن الثقة بيننا تامة, بين رجل يريد الزواج من امرأة وهبت نفسها للجهاد في سبيل الله وقيام الدولة الإسلامية وهي في سن الثامنة عشرة, وإذا تعارض صالح الزواج والدعوة إلى الله, فسينتهي الزواج وتبقى الدعوة في كل كياني ".
هذه هي حقيقة الداعية المجاهدة زينب الغزالي, وهذا هو سر قوتها وتأثيرها.. إنه الإخلاص العميق لما تؤمن به, وشدة العزم على القيام بالمسئولية أيا كانت التضحيات, واسترخاص كل شئ في سبيل العمل للإسلام, حتى وإن كان حياة أسرية مستقرة مرفهة, تحلم بها كل امرأة .. وهذا الموقف جعل زوجها يقول لها ـ وهو الموقف الذي لا يقل عظمة وشموخا عن موقفها ـ: سامحيني.. اعملي على بركة الله.. يا ليتني كنت في شبابي فأعمل معكم.
تقول الداعية المجاهدة: ".. وكثر العمل والنشاط, وتدفق الشبان من الإخوان على بيتي ليلاً ونهاراً, وكان الزوج المؤمن يسمع طرقات الباب في جوف الليل, فيقوم من نومه ويفتح للطارقين, ويدخلهم إلى حجرة المكتب, ويذهب إلى حجرة السيدة التي تدير أعمال البيت فيوقظها, ويطلب منها أن تعد للزائرين بعض الطعام والشاي, ثم يأتي إلي فيوقظني في إشفاق وهو يقول: بعض أولادك في المكتب وعليهم علامات جهد أو سفر, فأرتدي ملابسي وأذهب إليهم ويأخذ هو طريقه إلى مكان نومه, وهو يقول لي: إذا صليتم الفجر جماعة فأيقظيني لأصلي معكم إن كان ذلك لا يضر, فأجيب: إن شاء الله, فإذا استمر اللقاء حتى صلاة الفجر أيقظته ليصلي معنا ثم ينصرف, وهو يحيي الموجودين تحية أبوية مملوءة بالشفقة والحب والحنان...".
هذا هو الرجل الصالح, المحب لدينه, المضحي من أجل إقامة دولة الإسلام, رغم أنه ـ كأي رجل أعمال ـ يخشى من المتاعب التي تؤثر على ماله وأعماله مع الحكومة وأجهزة الأمن, خصوصا في زمن حكومات العسكر ( وبالأخص إذا كانوا ثوريين !!), إلا أنه وقف إلى جانب الزوجة الوفية لدينها, المضحية في سبيل إقامة شريعة الإسلام, ويدور بينهما هذا الحوار الراقي, وهذا الاستعراض للرأي بكل الوضوح والجدية, وبكل الحب والأخوة في نفس الوقت.
هكذا كان الزوج الحاج محمد سالم سالم ـ رحمه الله ـ وهو ما قدرته جداً الداعية المجاهدة زينب الغزالي ووضعته نصب عينيها.