سطور من حياة المجاهدة زينب الغزالي (5)
سطور من حياة المجاهدة زينب الغزالي (5)
أسست مجلة نسائية رائدة في أوائل الخمسينيات ولم تتحملها "الثورة" فأغلقتها
حادث إطلاق النار على عبد الناصر في المنشية أدى إلى أزمة كبيرة مع الإخوان
بدر محمد بدر
ظهرت الأعداد الأولى من مجلة " السيدات المسلمات " في أوائل عام 1951 وعلى صدر غلافها صورة ثابتة لسيدة محجبة, كانت المجلة تصدر شهرياً وتتنوع مقالاتها وموضوعاتها وأبوابها بشكل كبير, فمثلا كانت تحوي أبواباً دينية منها: تفسير القرآن الكريم والحديث الشريف وفقه العبادات والسيرة النبوية, وأخرى سياسية مثل: الافتتاحية التي كانت تتعرض لما يجري في مصر من أحداث وقضايا, وأخبار متنوعة ومقالات في السياسة, وثالثة اجتماعية مثل: قصص من واقع الحياة أو مشكلات وحلول, ولك يا سيدي ولك يا سيدتي, ورابعة تتناول شئون المطبخ وأعمال البيت من ترتيب وتنظيف وعناية, وأعمال المرأة من حياكة وتطريز وغيرها من الأبواب الشيقة والطريفة.
ومع تطور الأوضاع على الساحة المصرية والعربية, وتبجح الإنجليز الذين كانوا يحتلون الوطن في تلك الفترة, ويفرضون سطوتهم على البلاد, ويتدخلون بشكل مستفز في كل صغيرة وكبيرة, بدأت لغة المجلة تتغير وتزداد سخونة, وتقترب من الأمور السياسية أكثر وأكثر, ومن هنا بدأت المشكلات والمتاعب تحاصرها, ومنها الرقابة على المطبوعات التي كانت تحذف بعض الموضوعات أو المقالات أو الأخبار, وتصدر المجلة وفيها مساحات بيضاء بسبب تدخل مقص الرقيب, وربما تصدر المقالة أو الموضوع عبارة عن العنوان وفي الأسفل اسم الكاتب!, وكان يحدث ذلك غالبا مع كتابات الداعية زينب الغزالي, ورغم ذلك استمرت في كتابة مقالاتها الساخنة والنارية, وأذكر منها مقالاً تحت عنوان " اطردوا سفير الكلاب " والسفير هنا هو السفير البريطاني بالقاهرة, الذي كان يتصرف خارج حدود اللياقة والدبلوماسية, ومقال آخر يتناول شأناً محلياً إسلاميا تحت عنوان " استقل يا شيخ الأزهر! " احتجاجاً على قيام شيخ الأزهر بالذهاب إلى وزير المالية, للحديث معه عن الميزانية السنوية المطلوبة للأزهر, لأن المفروض أن وزير المالية هو الذي يجب أن يذهب إلى صاحب الفضيلة شيخ الأزهر وليس العكس, احتراماً للمنصب الكبير الذي يشغله.
وعندما ازدادت الأحداث سخونة قررت زينب الغزالي إصدار مجلة " السيدات المسلمات " أسبوعيا, لكنها تعثرت مادياً بسبب سوء التوزيع وحالة الضغط السياسي والرقابة الدائمة, وسرعان ما أصدرت جريدة أسبوعية أقل في التكلفة تحت عنوان " الوعي الجديد ", رأس تحريرها الصحفي المصري المعروف محمد رشاد الشبرابخومي ـ رحمه الله ـ, وعادت " السيدات المسلمات " للصدور بصورة شهرية كما كانت, وبدأت قيادة " الثورة " تضيق بالمجلة وبانتقاداتها المستمرة لنظام الرئيس جمال عبد الناصر, وتمت مصادرة بعض أعدادها, حتى أصدر النظام قراراً " ثورياُ " بتعطيل المجلة في عام 1957 وسحب ترخيص صدورها!
كانت مجلة " السيدات المسلمات " رائدة في مجال الصحافة النسائية الإسلامية, ورغم أنها صدرت لمدة ست سنوات فقط إلا أنها كانت واضحة التأثير في الحياة السياسية, إلى الدرجة التي أمر فيها المستشار حسن الهضيبي بوقف سلسلة المقالات التي تهاجم فيها زينب الغزالي قيادات " حركة الجيش ".
كانت صاحبة المجلة تحرر جانباً كبيراً من صفحاتها وأبوابها, وكانت توقع باسمها حينا وبالحروف الأولى أحياناً, وبدون توقيع أيضاً, حتى إنها كانت تحرر باب " المطبخ " رغم خبرتها البسيطة في هذا المجال! وعندما ألقت المباحث العسكرية القبض عليها في قضية 1965, صادرت أعداداً كبيرة من نسخ " السيدات المسلمات ", وتكاد لا تملك مكتبتها الآن نسخة واحدة كاملة من هذه المجلة الرائدة والمهمة, وقد تناولتها بالبحث والدراسة أكثر من رسالة ماجستير ودكتوراه في الجامعات المصرية وغير المصرية.
لقد مرت العلاقة بين الإخوان المسلمين و " حركة الجيش ", بأكثر من مرحلة, كانت تهدأ أحياناً وتشتعل مجدداً حتى حدث الصدام العنيف عام 1954, عندما أطلقت رصاصات على الرئيس جمال عبد الناصر في ميدان المنشية بمدينة الإسكندرية, أثناء إلقائه خطاباً جماهيرياً في شهر أكتوبر/ تشرين الأول, وسرعان ما اتهم الإخوان بتدبير الحادث, وتم القبض على أعداد كبيرة منهم, وعلى رأسهم المرشد العام حسن الهضيبي وأعضاء مكتب الإرشاد.
وتعامل نظام عبد الناصر مع قيادات وأعضاء الإخوان المعتقلين بكل عنف وقسوة وتعذيب, وصدرت ضد ستة منهم أحكام بالإعدام, بالإضافة إلى المرشد العام الذي تعرض لأزمة قلبية أثناء المحاكمات نظرا لكبر سنه, تصور عبد الناصر أنه لن ينجو منها, فأصدر قراراً بتخفيف الحكم للأشغال الشاقة المؤبدة, لكن الله أمد في عمر الأستاذ حسن الهضيبي حتى شهد وفاة عبد الناصر, وتوفي بعده بأكثر من ثلاث سنوات ( نوفمبر 1973 )!
وتم تنفيذ الحكم بالإعدام في الستة وهم: المستشار عبد القادر عودة, والشيخ المجاهد محمد فرغلي, والمحامي الكبير إبراهيم الطيب, والقيادات: يوسف طلعت وهنداوي دوير ومحمود عبد اللطيف.. كما صدرت أحكام أخرى بالأشغال الشاقة المؤبدة والمؤقتة والسجن على العشرات, واعتقال الباقين وكانوا بالآلاف!
كانت محنة الإخوان المسلمين في عام 1954 شديدة وقاسية, وكان واضحاً أن النظام السياسي الجديد برئاسة جمال عبد الناصر يريد إنهاء وجود الإخوان تماماً من خلال أحكام الإعدام والسجن والاعتقال, وبالتالي تشريد الأسر وتمزيق البيوت وضياع الأبناء وهدم البناء الاجتماعي كله.
وعاشت الداعية زينب الغزالي آلام المحنة التي ألمت بالإخوان وأسرهم, بعد اتهامهم بالعمل على قلب نظام الحكم, ومحاولة اغتيال الرئيس عبد الناصر في ميدان " المنشية " بمدينة الإسكندرية, وفكرت في الدور المطلوب منها للمساهمة في تخفيف آثار هذه المحنة على الجماعة.
تقول الداعية الكبيرة في كتابها أيام من حياتي: " لما اشتد بي الألم على ما وصلت إليه الأمور, ولما لم أجد لنفسي مخرجاً, ذهبت إلى زيارة أستاذي الجليل صاحب الفضيلة الشيخ محمد الأودن ـ وهو من القلة القليلة النقية من رجال الأزهر ـ وكنت أستشيره في كل ما يعرض لي من أمور الدعوة وعلوم الإسلام, وكان يعتقد معي أن عدم اندماج السيدات المسلمات ربما يخدم الإخوان في فترة مقبلة, وقد كان يعلم ببيعتي للبنا ويباركها ويؤيدها, كما كان يعلم ولائي للدعوة بعد استشهاد البنا وقبله, وجلست إليه أحدثه عن مأساة الأسر.. كان يستمع إلى في ألم شديد, وأنهيت حديثي بعرض ما فكرت في عمله في حدود إمكاناتي, وكنت أرى أنه لا يكفي أن نتألم وجراح الجوع وجراح السياط وجراح العرايا, تشرد النساء والأطفال..
كل ذلك يجري بقسوة وشدة في دوائر حياة الدعاة والملبين والمجاهدين لتكون كلمة الله هي العليا.. وأرى أنني أستطيع ـ كرئيسة للسيدات المسلمات ـ أن أقدم العون ـ إن شاء الله ـ لأسر الإخوان بما يمكنني الله فيه, فقبل فضيلته رأسي وهو يبكي قائلاً لي: لا تترددي في أي عون, والله هو المبارك للخطى.. وعدت لأوضح له موقفي في الجماعة, والثقة المطلقة في شخصي من السيدات المسلمات عضوات الجماعة, فقال لي فضيلته: قد أصبح فرضاً حتمياً عليك ألا تبخلي بجهد في هذا الطريق, وما تقومين به اجعليه بينك وبين الله تبارك وتعالى, ثم أضاف: إن المنقذ الوحيد بأمر الله للإسلام هو هؤلاء المعذبون " الإخوان المسلمون ", ولا أمل لنا إلا في الله ثم في إخلاصهم وما يبذلون في سبيل الدعوة, اعملي يا زينب كل ما تستطيعين عمله.. وعملت فعلاً كل ما أستطيع, وبذلت جهدي في أن أقدم شيئاً, ولم يشعر أحد أني أفعل شيئاً, فقد كان فرداً أو فردين هما اللذان أسلمهما ما أستطيع على أنها أشياء مرسلة لي, وأنا مكلفة بنقلها إليهما فقط ".
بهذه الكلمات الموجزة لخصت الداعية الكبيرة جهودها الضخمة المادية والعينية والمعنوية لإنقاذ أسر الإخوان المسلمين من الهلاك والجوع والتشرد.. هذه الجهود التي زادت من حقد عبد الناصر وكراهيته لها ـ كما سنرى لاحقا ـ بعد أن أفسدت خطته وأحبطت جريمته.. ولم تذكر لنا " زينب الغزالي " تفاصيل هذه الجهود المباركة, لكن كل أسرة وكل معتقل من الإخوان يذكرها جيدا, وقبل ذلك هي مدخرة لها عند الله سبحانه وتعالى يوم يقوم الحساب.
تقول زينب الغزالي في كتابها أيام من حياتي : " وفي عام 1955 رأيت نفسي مجندة لخدمة الدعوة الإسلامية بغير دعوة من أحد, فقد كانت صرخات اليتامى الذين فقدوا آباءهم بالتعذيب, ودموع النساء اللاتي ترملن وأزواجهن خلف القضبان, والآباء والأمهات من الشيوخ الذين فقدوا فلذات أكبادهم.. كانت هذه الصرخات والدموع تنفذ إلى أعماقي, ووجدت نفسي وكأني من المسئولين عن آلام الجياع وجراح المعذبين, وأخذت أقدم القليل..
ولكن أعداد الجياع تزداد يوماً بعد يوم, وأعداد العرايا كذلك, وأخبار الشهداء الذين يقضي عليهم تحت سياط الفجرة المارقين القساة الجاحدين, والمدارس والجامعات تتطلب مصاريف وأدوات وملابس, وأصحاب المنازل يطالبون بإيجار منازلهم, وزادت المشكلة تعقيداً, وثقل الحمل على حامله, واتسع الخرق على الراقع, وبخاصة بعد عام ونصف العام, وبالتحديد في منتصف عام 1956, حينما خرج بعض أعداد من المعتقلين الذين لم يحكم عليهم..
كان البعض منهم في أشد الحاجة لمن يزوده بالمال والطعام والملابس والمأوى, كل هذا والمسلمون في هذا البلد الطيب في مصر التي نكبت بمن قاد الانقلاب, ليس فيهم من يعي واجبه, بل على العكس من ذلك, وجدنا كثيراً من علماء وشيوخ الدين, يتبرؤون من المجاهدين ".
لقد أرهب نظام الحكم في ذلك الوقت غالبية العلماء وشيوخ الأزهر, ليضمن ولاءهم وعدم تصديهم له, وقام بالاستيلاء على الأوقاف التي كانت تنفق على العلماء والدارسين من طلاب الأزهر حتى يخضعوا له, كما ألغى نظام القضاء الشرعي, وأوعز لوسائل الإعلام بالسخرية من العلماء والشيوخ الأجلاء, وبالتالي فقد الأزهر استقلاليته ودوره في قيادة الأمة.