المفكر المبدع الصادق النيهوم
صبحي درويش
يعتبر الأستاذ (الصادق النيهوم) أحد المفكرين القلائل الذين جمعوا بين التراث والحداثة . بمعنى آخر فإنه كان راسخا في فهم التراث مشبعا به، وكان يعيش الحداثة المعاصرة في أوطانها وبلغاتها. هذا النوع من المفكرين مازال نادرا . من يعرف التراث يجهل الحداثة ومن يعيش الحداثة يفتقد التراث.
لقد اطلعت على أعمال هذا المفكر والمبدع الليبي متأخرا لكن معرفتي به تعود إلى قراءة كتاباته النقدية وطروحاته الجريئة في مجلة (الناقد) التي كان يصدرها الأستاذ (رياض نجيب الريس) من لندن .لكنني اكتشفت الرجل اكتشافا جديدا في صيف عام 1995م عندما وجدت بعضا من كتبه في مكتبة بالقرب من معهد العالم العربي في باريس والحق يقال لم أكن اسمع بها من قبل. كعادتي اخترت الكتب بعناية كبيرة ، فليس المهم أن يقرأ الواحد منا مائة كتاب أو ألف كتاب بل الأهم ماذا يقرأ لهذا أحرص دائما أن يكون الغذاء الفكري منوعا وبكميات كافية وعندما اقرأ كتابا قيما لمؤلف أقرأ جميع أعماله وهكذا أخذت كل كتب الرجل ثم انكببت خلال شهرين كاملين على قراءتها باهتمام وشغف ومتعة دون حدود ولا أخفي القارئ سرا لقد قرأت كتبه مرتين متتاليتين وخصوصا مؤلفاته المثيرة مثل (محنة ثقافة مزورة: صوت الناس أم صوت الفقهاء)، و (الإسلام في الأسر:من سرق الجامع وأين ذهب يوم الجمعة؟)، و(إسلام ضد الإسلام: شريعة من ورق). هالني ذكائه الخارق واطلاعه الواسع وأفكاره المثيرة للجدل وكم شعرت بالحسرة لأني لم اطلع على كل إنتاجه ولم أقرأ ما جرى به قلمه.وعندما اطلعت على السيرة الذاتية لهذا المبدع الذي شغل الناس في حياته وبعد رحيله اكتشفت أن الرجل لم يكن كاتبا محترفا في مكتب مكبا على أوراق خامدة من الورق والكلمات أو أكاديميا غارقا في الدراسات النظرية المجردة ولكنه رجل شعر بآلام ومآسي الآخرين وعانى في حياته الخاصة من اتهامات وعاظ السلاطين ودعاة الخرافات والأساطير ففارق الوطن ليغدو مهاجرا بلا وطن في بلاد الصقيع.
عرف الأستاذ (الصادق النيهوم) بجرأته وقراءاته الفريدة للمجتمع والدين .أصدر كتبا نقدية مثيرة للجدل حقا ، تقرأ مثل أكل الفاكهة فهو يتمتع بأسلوب جذاب ومشوق ويعرف كيف يمسك بتلابيب القارئ من أول النص إلى آخره لا يستطيع القارئ أن يقرأ له نصا إلا أنهاه والرجل ليس مدرسة ولكنه مدهش وعنده التماعات رائعة حول محنة ثقافة مزورة، واللغة العربية ،والمفاهيم والمصطلحات، والترجمة، ووظيفة الجامع وان الجامع ليس هو المسجد . يثير الأستاذ (النيهوم) في كتبه مواضيع كثيرة تستحق الوقوف والنقاش الجاد مثل أين ذهب الجامع ؟ أين ذهب يوم الجمعة؟ أكثر من حديث وأكثر من سنة، قواعد الإسلام ليست خمسا، كيف يستطيع العرب أن يكونوا عربا ومعاصرين في الوقت نفسه؟ إقامة العدل أم إقامة الشعائر؟ وطن أم مصحة؟ شريعة الراعي بلغة الحروف، الشورى والديمقراطية، والصحافة والأحزاب والغرب، ومواضيع غيرها مليئة بالأفكار والمعلومات. والحق يقال حينما قرأت له للمرة الأولى سحرني وبدأت أستشهد بكتاباته.ذكرني الرجل بالمفكرين المبدعين الذين أعادوا لي الأمل والثقة في عقل ابن المنطقة مثل المفكر والفيلسوف(محمد إقبال) والمفكر والفيلسوف الاجتماعي (مالك بن نبي) والفيلسوف (عبد الرحمن بدوي) وعالم الاجتماع الدكتور (علي الوردي) والمفكر الأستاذ (إبراهيم البليهي) وداعية العلم والسلم الأستاذ (جودت سعيد) والمصلح الكبير الأستاذ (جمال البنا). وفي قناعتي انه من أعظم الثروات في حياة الإنسان هي ثروة صحبة رواد الفكر والعلم والأصدقاء المخلصين.
لقد خاض (النيهوم) معركة قاسية وغير متكافئة في وسط لا يعترف بالمثقف ولا يسمح له بأي دور ومازال المثقف فيه خارج النسق الثقافي ومن العسير أن يكون له دور ضمن هذا الوضع الاقصائي. لهذا كانت تجربة هذا الكاتب الفذ أليمة منذ أن كتب دراساته عن الرمز في القرآن والحديث عن المرأة والديانات وحتى كتاباته الأخيرة.فقد عاش الكاتب في الغربة والقلق وحوربت أفكاره وصودرت كتبه حتى في بيروت.
قرأت باهتمام نتاج قلم (النيهوم) فرأيته مميزا ويمسك الخيوط الذهبية الثلاث : الأدب والفكر والنقد في آن واحد.
وكتاباته الإبداعية تنم عن ذوق مرهف، وحساسية عالية للبيان الساحر، فضلا عن الثقافة الواسعة والحس النقدي الرفيع.
لقد أحب الناس (النيهوم) كثيرا ويبدو أن القليل منهم كان يملك القدرة على استيعابه .كانت مأساة هذا الكاتب مع أنصاف المثقفين والمتشددين حتى أن أحد الخطباء المشهورين في مدينة بنغازي الليبية كان يخطب أيام الجمعة و يكفر النيهوم من فوق المنبر وعبر مكبرات الصوت ويحرض الناس على إحراق كتبه .عندما سئل إذا كان قد اطلع على مؤلفاته أجاب بكل بساطة أنه لم يقرأ شيئا للنيهوم ولكن سمع من أحد الشباب أن النيهوم كتاب مقالة في مجلة الناقد فيها ما يخالف الفكر السائد.ومع ذلك واصل الكاتب نقده الجريء للخرافات والأساطير ووعاظ السلاطين .يبدو أنه حدد الهدف مبكرا عندما قال عبارته الشهيرة:أرجو أن لا ينسى أحد أن ما أقوله في الأيام القادمة يعني بكل إخلاص ثلاث كلمات فقط : ( هذه تجربتي أنا ) ولكل منا الحق في أن يقول تجربته على نحو ما . تذكرني هذه العبارة بصيحة الفيلسوف الألماني كانت عندما نادى كل فرد بقوله : ” أجرؤ على استخدام فهمك الخاص” وهو يلخص فلسفة الأنوار التي انتشلت أوروبا من الاستسلام الأبله والتقليد الأعمى للأسلاف والآباء ودفعتها إلى البحث في الآفاق والأنفس وفتحت للناس آفاق التنوع والتعدد وشجعتهم على جرأة التفكير المستقل وهيأت العقول لقبول الاختلاف الذي يؤدي إلى ثراء الفكر والعلم والحياة.
وحسب المؤرخ البريطاني (توينبي) ان الحضارات تبدأ بآلية التقليد من أكثرية تتهادى خلف أقلية مبدعة تقودها على أنغام مزمار الراعي. وتنهار الحضارات حينما تتحول الأقلية إلى عصابة مسيطرة تسوق الناس بسوط الإكراه . ولكن قانون التاريخ يمشي وفق نظمه أكثر من رغباتنا ومخاوفنا فهو يمضي إلى أجل مسمى وفق قانون الصيرورة وتبادل الأدوار.
لقد كان هذا المبدع الليبي متميزا وأستطاع مبكرا أن يفلت من قوالب البرمجة المدرسية والاجتماعية ويبقى خارج أطواق السائد. إن (الصادق النيهوم) يعتبر أن «الإنسان يصل إلى هذا العالم عاريًا وأخرس»! و«التراث العربي – في الدرجة الأولى – مجرد مرحلة عادية في مسيرة الفكر السياسي عبر واقع العالم».
وحسب رأيه أن « التراث العربي غَلَبَه النوم أكثر من خمسمائة سنة »
لقد بحث النيهوم في هذا التراث ووضعه تحت مجهر النقد والمساءلة ليعيد غربلة هذا التراث وتمحيصه أو حسب تعبيره« تنقية ذلك التراث من أخطائه، وليس حفظه فوق رفوف المكتبة وفرضه على أولادنا الصغار بدافع التعصب وحده. ».
وفي تقديري لن تخرج شعوب المنطقة من الورطة التي هي فيها الآن ما لم تقم بمراجعة نقدية شاملة لهذا التراث .وهي اليوم بأمس الحاجة إلى مفكرين جراحين لفتح بطن التاريخ وتفكيك إحداثيات التاريخ.
كما انتقد النيهوم بشد ة المتشددين الذين يحاربون الأفكار«المستوردة» حسب تعبيرهم .يرى النيهوم أن « كلمة الفكر المستورد تعني في الواقع أن أحدا ما في هذا العالم المترامي الأطراف يعبئ أفكاره في علب الورق المقوى، ويكتب عليها طريقة الاستعمال، ثم يرسلها إلينا – مثل أقراص الأسپرين – لكي يبتلعها المواطن في بنغازي عندما يحس بوجع الرأس. وأنا أعتقد أن هذه الخرافة لا تبدو غير معقولة فحسب، بل إنها أيضا تبدو بذيئة إلى حد كاف.». وحسب تصوره فان« العالم مجرد سوق مفتوحة على الدوام، يرتادها الإنسانُ في جميع العصور وجميع الثقافات لكي يشتري منها ما يحتاج إليه من الثياب والأفكار وفرش الأسنان، ثم يعود بسلَّته إلى «أرض الوطن» ويعمل على تطوير مشترياته لكي تلائم حاجاته أكثر، ريثما تطرأ على السوق بضاعةٌ جديدة ». وليس هناك في العالم «بلد نبت داخل حدوده، وكل فكرة وجدها الإنسان في طريقه أصبحت ملكا مشاعا للإنسان».
إن الصادق النيهوم مفكر سياسي ومبدع روائي وناقد اجتماعي ومترجم قدير وكاتب مقالة فذ. والرجل صاحب افكار ومصطلحات صادمة ولكن مع تحريها وتأملها بهدوء يدفع الى التفكير والاقتناع ولو في بعض مما يدلي به
هذا المبدع الليبي المميز لا توفيه حقه مقالة.وحسب معلومات مجلة الناقد وكلمة دار النشر رياض الريس للكتب والنشر. ولد الصادق النيهوم في مدينة بنغازي في عام 1937م.درس الابتدائية والإعدادية والثانوية في مدارس بنغازي ثم حصل على درجة الليسانس في اللغة العربية من كلية الآداب بالجامعات الليبية عام1961م،
ثم اشتغل معيدا في نفس الكلية عام 1962م. حصل على درجة الماجستير في اللغة الألمانية من جامعة ميونخ عام1964م. ودرجة الماجستير في الأدب المقارن من جامعة هلسنكي عام1969م.
درس دراساته الجامعية في جامعة القاهرة وأعد أطروحة الدكتوراه في (الأديان المقارنة) بإشراف الدكتورة بنت الشاطئ، ثم انتقل بعدها إلى ألمانيا، حيث أتم الدكتوراه في جامعة ميونخ بإشراف مجموعة من المستشرقين الألمان، ونالها بامتياز،
وكان يجيد إلى جانب العربية، الألمانية، والإنكليزية، والفرنسية، والفنلندية، إلى جانب معرفته بالعبرية والآرامية.بعد ألمانيا، تابع دراسته في جامعة أريزونا في الولايات المتحدة، لمدة سنتين. درس بعدها مادة (الأديان المقارنة) في جامعة هلسنكي، كأستاذ محاضر في فيلندا لعدة سنوات، بداية من عام 1968 م حتى أوائل 1972م.أقام في لبنان بين 1972 و 1976، وكتب أسبوعياً في مجلة أسبوع العربي، وغادر بسبب الحرب. انتقل إلى الإقامة في جنيف في عام 1976م حيث أسس (دار التراث) ثم دار (المختار) وأصدر سلسلة من الموسوعات العربية أهمها (تاريخنا) و(بهجة المعرفة). عمل أستاذاً محاضراً في الأديان المقارنة، في جامعة جنيف، حتى وفاته. متزوج من السيدة أوديت حنا من فلسطين. بدأ الكتابة الشهرية في (الناقد) منذ صدورها في عام 1988م، واستمر فيها حتى وفاته. ركز في كتاباته الأخيرة على دور الجامع في تحريك الديمقراطية، وعلى دور الإسلام المستنير وضرورة إخراجه من أيدي الفقهاء وضرورة إعادة كتابة التاريخ العربي من منظور علمي تحديثي وعصري.
صدر له مجموعة من كتب على امتداد السنوات العشرين الأخيرة نذكر منها:
- من مكة إلى هنا-رواية/ 1970
- من قصص الأطفال/ 1972
- تحية طيبة وبعد/ 1973
- فرسان بلا معركة/ 1973
- القرود-رواية/ 1975
- الحيوانات /1984
وصدر له عن شركة (رياض الرايس للكتب والنشر) أشهر وأهم كتبه عن الإسلام والديمقراطية، وهي ثلاثة:
- صوت الناس: أزمة ثقافة مزورة/ 1990م
- الإسلام في الأسر: من سرق الجامع وأين ذهب يوم الجمعة؟/ 1991
- إسلام ضد الإسلام: شريعة من ورق/ 1995
- طرق مغطاة بالثلج دار تالة 2001 م طرابلس ( صدر بعد وفاته – جمع وإعداد الأستاذ سالم الكبتي ).
و ترجم العديد من الكتب إلى اللغة العربية نذكر منها:
- بابا هيمنجواى/ 1966 م
- موت رئيس جمهورية/ 1976 م
-تعليق على مذكرات خرتشوف/ 1971م
توفي رحمه الله بجنيف في سويسرا يوم 15 /11 / 1994 م، ودفن بمسقط رأسه بمدينة بنغازي يوم 20 /11 / 1994م .
كنت كلما أقرأ مؤلفات الأستاذ النيهوم أسأل نفسي كيف وصل هذا الكاتب الليبي لأفكاره ، فكتب هذه الروائع، وأقول في نفسي هل يمكن للوسط الثقافي في ليبيا وخصوصا في بنغازي، أن ينتج مثل هذه الفكر والإبداع؟ وليعذرني أصدقائي الليبيون على هذه التساؤلات فهذا ليس انتقاصا من قدر ليبيا ولا من قدر مدينة بنغازي ولكنه إنصاف للثقافة وتطورها، فلا يمكن للفيلسوف عبد الرحمن بدوي لو جلس في مصر قرونا إلى أن يصل هذا النبوغ وهذا الإنتاج. فالفيلسوف عاني وفارق الوطن والبيئة التي خرج منها إلى غير عودة، حتى مات في باريس.
هذا هو المفكر المبدع الصادق النيهوم وكفى، وبحسب الأستاذ النيهوم وبحسب مؤلفاته أن يشار إليها،وإلى الآن لم نستثمر فكر وإبداع النيهوم ولا بد من دراسة أفكاره بهدوء وروية لتفهم مساره الفكري وكيف كان أو كيف حصل. ينبغي أن يكون النيهوم موضع تداول وحوار ونقاش حتى نستوعب أفكاره ونستثمر تجربته ونفهم منطلقاته وتطلعاته.انه أحد المبدعين المتميزين والعقول المستنيرة التي نذرت حياتها لخدمة الفكر والإبداع والإنسان، فرحم الله الصادق في الخالدين