مالك بن نبي من خلال المناقشة
معمر حبار
مقدمة المناقش لبن نبي .. صباح هذا اليوم، ألقيت بالمكتبة الولائية، محاضرة حول .. "معوقات النهضة ومقوماتها في فكر مالك بن نبي"، من طرف.. الأستاذ محمد لعاطف. وماميّز المحاضرة القيمة.. النقاش الحاد والقوي.
وأنا الآن بصدد مراجعة الأسئلة التي طرحت، وتصحيح مسار بعضها، وتوضيح بعض الجوانب.. فيما قرأنا ونعلمه عن بن نبي .. كخطوة أولى .. في انتظار الخطوات القادمة .. بإذنه تعالى ..
المترجم الجزائري.. الظروف التي عاشها مالك بن نبي، إتّسمت بالفقر والمرض والجوع، ناهيك عن الإستدمار الذي يحارب كل فكر نيّر، هذا من جهة .
من جهة ثانية، بن نبي فرّ بفكره وكتبه، لأنه حورب من طرف الاستدمار الفرنسي، وحوصرت كتبه وأفكاره.
وفي الداخل .. حورب من طرف دعاة الإصلاح، لأنهم كانوا يرون فيه المنسلخ عن دينه، والمارق عن المشايخ والأسياد، بسبب إنتقاده لهم.
أما عن السياسيين، فقد حاربوه بشدّة، لأنه كشف أكاذيبهم، وتلاعبهم بعواطف الناس، وكانوا يرون فيه الدرويش، الذي لايصلح للسياسة.
هذه عوامل لاتسمح، لهؤلاء جميعا، أن يترجموا لبن نبي، ومرد ذلك .. الحقد والحسد ..والسعي للسلطة باسم الدين .. وباسم الدنيا.
هناك سؤال يراودني اللحظة .. هل كان في فترة الاستدمار الفرنسي، من يحسن ترجمة أفكار وكتب بن نبي، ذات المستوى العالي ، والمعقد، والتي تحتاج إلى التمكن الجيّد في اللغة الفرنسية، وإلى الثقافة الغربية والعربية الواسعة، وهي التي لاتتوفر لاعند المصلح، ولا عند السياسي، فكلاهما يملك ثقافة وحيدة، يحتاج للأخرى.
إبداع بن نبي باللغة العربية.. بن نبي كغيره من الكتاب والروائيين، الذين عايشوا الاستدمار الفرنسي، إستعمل اللغة الفرنسية، كوسيلة من الوسائل التي تمكّنه من تقريب أفكاره وشرحها، والدفاع عنها، وقد أجاد وأبدع.
لكنه في نفس كان يحمل ثقافة عربية، إتّضح ذلك في مراجعه العربية، وكيفية توظيفها، ومجالسته للعلماء والفقهاء، ومناقشتهم في نقاط مختلفة، أعجب بها البعض، واتّهمه البعض، خاصة داخل الوطن.
ليست من الصدفة، أن أحد الفقهاء الكبار، هو الذي يضع له مقدمة لكتابه "الظاهرة القرآنية"، لو لم يجد فيه البعد العربي.
"الصراع الفكري في البلاد المستعمرة"، كان أول كتاب ألّفه بن نبي باللّغة العربية، بعد عودته للجزائر. والقارىء المتشبّع باللغة العربية، يعجب بالكتاب، ولا يجد فيه مايعيب، مايدل على المستوى الجيد لبن نبي في مجال اللغة العربية.
وأتيحت لي الفرصة، أن استمعت لبعض الأشرطة له باللّغة العربية، فقد مستواه يفوق الكثير من الناطقين باللغة العربية.
المؤكد أن بن نبي، بذل مجهودات كبيرة في إتقان اللغة العربية، خاصة وأن قراءه الأوائل من المشرق العربي، وكان يسعى لنشر أفكاره عبر العالم العربي، القابع يومها تحت الفقر والجوع والمرض والاستدمار.
تفعيل بن نبي .. بن نبي رجل ميدان، قبل أن يكون يكون رجل فكر .. وفرّ بكتبه وأفكاره، ليجد لها الميدان الخصب، كما فعل مع كتابه "الأفريقية الأسيوية".
واضح جدا، أن تكوينه الهندسي، وثقافته الغربية الواقعية، وإحتكاكه بالمجتمع الغربي عن قرب، أثّر بشكل واضح في فكره، وجعله عملي يناسب دورة الحضارة، وطبيعة مجتمعة، ووفقا للوسائل التي بحوزته، والأهداف التي يسعى إليها.
المطلوب إذن، ليست قراءة بن نبي، قراءة ترف وجدال وتكديس .. إنما تحويله أفكاره إلى عمل ينقذ المجتمع، ويدفع به إلى الأمام الفاعل. وقد تحدّث بن نبي كثيرا عن الفاعلية، وأثرها في تحريك المجتمع.
بن نبي، يحتاج لدولة تتبناه .. ومجتمعه يجسّد أفكاره .. وأشخاص يقربون فكره، ويظهرون الجانب العملي منها.
القابلية للإستدمار .. القابلية للاستدمار بمفهوم بن نبي تعني .. اللجوء لفكرة، أو شخص، أو وسيلة .. وأنت تملك أحسن منها في الأداء والأمان والسرعة والفاعلية. إذن اللجوء إلى الغير، وأنت تملك أفضل منه، ودون أن تضطرك ظروف قاسية أرغمتك على ذلك .. فهذا هو القابلية للاستدمار.
وويزداد الأمر تعقيدا، حين تكون عواقب التبعية، أسوء بكثير من لو إكتفى المرء بما يملك، وماعنده من وسائل، حتى لو كانت محدودة قليلة.
طبعا، هذا لايعني إطلاقا، عدم الاستفادة من الغير، في ميدان من الميادين .. فقد استفاد بن نبي من الحضارة الغربية، لكنه كان يعتمد على رصيده ، ووظفها فيما يفيد مجتمعه، ويرفعه .. ولم يتوجه للحضارة البغربية في أمور كان يملكها، وعنده أحسن منها .. ويمكن القول .. بن نبي .. أبدع فيما يملك .. وأبدع فيما نقله عن الغير.
إشتراكية بن نبي .. بن نبي كغيره من المفكرين، أعجبوا بالاشتراكية ، كوسيلة من وسائل النهوض بالمجتمع .. ولم يدافع عنها كدين أو عقيدة .. بل ذكر في أكثر من كتاب، أن الفكرة إذا أجتثت عن واقعها وترابها، لن تؤتي أكلها، وتكون مضرة أكثر .. وهو بهذا التحليل كان يرمي إلى سوء إستيراد الأفكار من الشرق والغرب، كالتعليم، والاقتصاد، ومنها الاشتراكية.
لكنه لم يرفضها علانية، ولم يدخل في صراع مع دعاتها ، سواء من المفكرين أو رؤساء الجزائر الذين عايشهم، أو عبد الناصر وماو الذين إلتقى بهم، وتحدث معهم حول كتبه وأفكاره.
عيوب بن نبي .. بن نبي كغيره من المفكرين، طرح أفكارا فاعلة، ودافع عنها طيلة حياته، ولم يبدّل ولم يغيّر، وامتطى الصعاب لأجل الرفع بمجتمعه والمجتمع الإسلامي من رواسب أعاقته، ووحل ظل يشدّه للأسفل، ومازالت أفكاره، بارزة، وكتبه شاهدة، ودول من وراءه تسعى جاهدة لتحقيق أفكاره.
وبن نبي كذلك له عيوب .. ليس من العيب أن يظهرها المتتبع لأفكاره.. وذكر مساوئ المفكر، لايسىء إلى فكره، أو يخدش من مقامه ..
ولعلّ من عيوبه إنغماسه الكامل في عبد الناصر .. وميله الشديد لبن بلة .. ودعوته لتبني فكرة "اللاعنف" التي نادى بها غاندي، وهو تحت الاستدمار الفرنسي.
ومازلت أكرر .. كيف لبن نبي، أن يقيم إشهارا مجانيا لغاندي، ولفكرته "اللاعنف"، ومجتمعه يعيش إستدمارا فرنسيا، لم تعشه الهند، ولم تعرفه إلى الآن .. وكانت هذه – فيما نعلم- من عيوبه الواضحة البيّنة، التي يجب توضيحها والإشارة إليها .. دون المساس بمكانته وجهده .. وتدخل المساوئ في إطار اجتهادات المفكر، التي قيلت في ظروف معيّنة، دفعته لتبني هذا الموقف، أو ذاك.
بن نبي .. ليس معصوما .. ولا نبيا .. ولا مقدسا.. فهو ينال من النقد الشديد .. مايناله من الإعجاب الشديد .. ومن أحب بن نبي .. أظهر سيّئاته .. كما يظهر حسناته .. ولو نعلم حماقات أخرى إرتكبها بن نبي .. لذكرناها .. ولبقي بن نبي فوق الرؤوس .. وبين العيون .. لاينزل من النقد المطلوب من سرحه ومكانته العالية.
بن نبي وجمعية العلماء .. لابد من إعادة النظر في العلاقة القائمة بين المفكر مالك بن نبي، وجمعية العلماء الجزائريين .. فقد كانت سيّئة جدا، ومتوترة طيلة حياته .. وقد إشتكى كثيرا من ظلم الجمعية له، حين منعته، ومنعت كتبه، وحرمته من المنحة التي منحتها له، بسبب إنتقاده الشديد للطرق التي إتّبعتها الجمعية في مواجهة الاستدمار، ورأى فيها سذاجة وحماقة،لاتليق بالجمعية، ولا بالأهداف التي سطرتها، وتسعى إليها.
على المتتبعين، أن يقوموا بتشريح هذه العلاقة ، ويوضحوا موقف كل واحد، وأسبابه ودواعيه، وسيجدون لامحالة نقاط مشتركة كثيرة، يمكن أن تصفح عن سوء الفهم، وربما النية المبيّة. ويعطى كل ذي حقّ حقه، ويعود الصفاء، ويستفيد الحي من الميت، سواء .. إتّفقت معه ، أو خالفته في حياته وبعد مماته.
المشكل السياسي القائم.. بن نبي دافع طيلة حياته عن محور طانجة جاكرتا، ليخرجه من التخلف، الذي رضي به، أو الذي لم يشعر به.
ورغم ذلك، مازال هذه المحور، تحت الاستدمار الغربي بأنواعه وأشكاله، وباستطاعة الغرب، أن يعيده في أيام إلى العصر الحجري، كما فعل مع .. العراق، ليبيا، وسورية.
إذن التدهور السياسي الذي يعيشه المحور، ويزداد تدهورا وتبعية للغرب .. يدفعنا أكثر إلى الوقوف من جديد على أفكار بن نبي وكتبه، التي تدين القابلية للأستدمار، وتحث على الفاعلية .. واستنهاض عناصر الحضارة .. وتركيبها وتحويلها إلى أدوات فاعلة في النهوض ومواصلة الطريق.
إحذروا المستشرقين المادحين .. بن نبي، هو الوحيد الذي حذّر من المستشرقين الذين يمدحون الحضارة الإسلامية، واعتبرهم أخطر بكثير من الذين يذمون الحضارة الإسلامية.
والسبب في ذلك .. أن المدح، يجعل المتلقي يستسلم للمادح، والنفس بطبعها تميل لكل من يمدحها.. وتبيعه أعزّ مالديها بأبخس الأثمان، وتشتري منه أسوء مالديه بأغلى الأثمان.
بن نبي ، كان في غاية الحكمة، حين حذّر أمة تميل رضيت بالقابلية للاستدمار من الانقياد وراء المستشرقين المادحين، لأن تأثيرهم النفسي بالغ، وعلى مدى الزمن أعمق.
لاتحتفل بوفاة بن نبي .. حين ورد صفحتي، دعوة لحضور المحاضرة، مرفوقة بالعبارة التالية.. "دعوة لحضور ندوة بمناسبة ذكرى وفاة الأستاذ مالك بن نبي رحمه". . كتبت على الفور، دون أن أشير إلى صاحبها المحترم..
إن من الجرائم التي تحدث في حقّ المفكر مالك بن نبي، رحمة الله عليه، ومن طرف قراءه وأتباعه .. أن يحتفل بوفاته .. وكأنه عدو يحتفل بوفاة عدوه.. وحاقد وحاسد، يحتفل بموت حاسده ومبغضه ..
إن بن نبي، أحي أمما بحياته .. فكيف نرضى الاحتفال بمماته.
وفي المقابل، أقترح الاحتفال بـ .. يوم ميلاده .. دخوله الجزائر .. تقديمه للاستقالة.. ترجمة كتبه للغة العربية .. أول كتاب صدر .. أول محاضرة ألقيت .. أول لقاء جمعه بالطلبة .. وكل يختار مايذكر بحياة العملاق بن نبي ..
البولتيك عند بن نبي .. يرى بن نبي أن أخطر مايواجه المجتمع، هو استسلامه "للبولتيك"، لأنه يقدّم الحقوق على الواجبات ، فيغري السّامع والمتلقي، دون أن يقدّم له الحل الأنسب والدائم.
وقد تعرّض بن نبي لهجوم شديد ممن يجعلون من "البولتيك"، سلعة رائجة لأفكارهم، التي تغرق المجتمع في نومه، ولا تدفع عنه مكروه ولا أذى، وتبقيه أبد الدهر ، تحت سياط .. القابلية للاستدمار.
الطريق من هنا .. بن نبي يركّز في كتبه على أمر مفاده .. ليس بالضرورة أن نتبع نفس الطريق الذي إتّبعه الغرب ، للوصول إلى الحضارة ، والتمكن من أدواتها.
وبما أن كل مجتمع له ظروفه الخاصة به، والتي تميّزه عن غيره في اختيار هذا الطريق أو ذاك، من الضروري إذن، أن نختار الطريق الأنسب للوصول إلى الحضارة، وقد يكون الفاعل والضامن، والأسلم، لأن صاحبه يعرف الدرب جيدا، وقد نشأ عليه، ولن يسقط في الحفر، ويمكنه تجاوزها بسهولة، وبأقل الخسائر، وفي أسرع الأوقات.