ومن مثل خديجة؟
محمد محمود حوى
عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا ذكر خديجة أثنى عليها بأحسن الثناء. قالت: فغرت يوما فقلت: ما أكثر ما تذكرها حمراء الشدقين، قد أبدلك الله خيرا منها. قال: " ما أبدلني الله خيرا منها، وقد آمنت بي إذ كفر بي الناس، وصدقتني إذ كذبني الناس، وآستني بمالها أذ حرمني الناس، ورزقني الله ولدها إذ حرمني أولاد النساء".
كلنا يسمع بأم المؤمنين خديجة ويحبها، وكيف لا نحبها وهي أُمّنا، وزوجة نبينا وأول من آمن به من النساء، ولها من الفضائل ما ليس لغيرها من النساء ، رضي الله عنها وأرضاها.
حديثي اليوم ليس عن أمنا خديجة رضي الله عنها وأرضاها، بل حديثي عن خالتي وأمي خديجة،
أم محمد، زوجة عمي العلامة الشيخ سعيد حوى يرحمه الله.
كنت دائماً أسمع حديثها وألتقي بها وأجلس معها وأقول: سبحان الله! لها من اسمها نصيب! فكم تشبه شخصيتها ما نقرؤه ونسمعه عن شخصية أمنا أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها؟
تبدأ القصة يوم أراد الشيخ سعيد حوى أن يخطب وحدد المواصفات التي يرغب أن تكون في زوجته، وهو من هو في علمه وعقله ونشاطه وجهاده، فقال رحمه الله: أريد زوجة ترى بعيني وتسمع بأذني وتفكر بعقلي.
فكانت تلك المرأة هي خالتي بل أمي خديجة.
لست أنا من يقول ذلك. بل قد قاله عمي الشيخ رحمه الله في مذكراته وأثنى عليها خيرا حيث قال في مذكراته: (عندما خطبت أم محمد تحدثت إليها بحضور أمها وأخيها حديثاً مسهباً عن وضعي: حدثتهم أنني أريد امرأة تنظر بعيني وتسمع بأذني وتفكر بعقلي. وأن ظروفي صعبة واحتمالات المستقبل في حقي كثيرة وكبيرة، وأن زوجتي عليها أن تتحمل أشياء كثيرة. ثم حدثتهم عن طبيعة حياتي وأنها يغلب عليها العفوية وهذا يقتضي من زوجتي أن تقوم بأعباء الترتيب والتنظيم، وعلى ضوء هذا كله أعطوا موافقتهم، وكانت أم محمد أكثر مما أردت وأقوى مما أملت، وأقدر مما تصورت وذلك من فضل الله، لقد كانت السكن والمساعد والمعين، وإنني مدين لها في ما يعتبر إنجازاً).
هذا ما قاله عمي رحمه الله فما الذي سأقوله أنا؟
لقد وعيت على الدنيا وعمي في السجن وخالتي ترعى أبناءها ولم يكن أكبرهم قد تجاوز العاشرة، فكانت تجمع بين مسؤولية تربية أبنائها وعملها كمعلمة ومسؤوليتها تجاه زوجها حيث كانت تحرص على زيارته في سجنه كلما أمكنها ذلك، وتؤمن له كل ما يحتاج، وقد نجحت في تربية أبنائها أيما نجاح، سافرت إلى السعودية وعملت في الهفوف معلمة ثم في المدينة، وكانت تسانده بما تحصل عليه من رواتب لقاء عملها في التدريس، ثم عادت إلى سورية ولم تجمع هي وزوجها من حطام الدنيا شيئاً ، وما إن استقر بها المقام في حماه حتى سجن الشيخ سعيد رحمه الله تعالى واستمر سجنه خمس سنوات، لم تُقَصِّر فيها يوماً أو تتذمر أو تشكو حالها، بل هو الصبر والمصابرة والإخلاص والاحتساب والدعوة، نسأل الله تعالى أن يجزيها خير الجزاء.
وبعد خروج عمي من السجن هاجرت معه إلى الأردن واستقرت في عمان، وتفرغت لشؤون بيتها وأسرتها، فهيأت للشيخ رحمه الله كل سبل الراحة الممكنة رغم ما كان يمر به من ظروف صعبة بل وصعبة جداً.
والناظر فيما خلفه عمي الشيخ سعيد رحمه الله من ثروة فكرية ومؤلفات عظيمة ليعجب من أين كان يجد الوقت الكافي لكل ذلك.
والكثيرون لا يعلمون أن هناك زوجة عظيمة ساندت زوجها وسهرت معه، فأملى عليها وكتبت له وقرأت، لا سيما حين اشتد به المرض، وكانت له في أوقات مرضه الزوجة البارة والممرضة الساهرة والكاتبة والقارئة الأمينة.
كنا نزورهم في بيتهم فلا نجد إلا بيتا مرتباً هادئاً عامراً بالعلم والتقوى والخير والبركة، لم تكن تأل جهداً في إدخال السرور على قلوبنا ونحن صغار، وحتى عندما كبرنا كانت مجالسها المباركة مجالس خير وبر وإرشاد ودعاء، يستفيد منها ويألفها الصغير قبل الكبير، وكانت لنا زيارتها واحة فيحاء وحديقة غناء، لا نمل منها.
لا يمكن أن يزورها زائر في أي وقت من ليل أو نهار إلا ويرى الرضا والسرور بما قدره الله يزين محياها المنير بنور الله والإيمان به، يرطب لسانها ذكر الله.
تلكم هي خالتي والتي هي بمقام أمي، فلها في تربيتنا وتربية كل شباب الأسرة وبناتها بصمات لا تمحى وذكريات لا تنسى.
هذه هي خالتي خديجة، فمن مثل خديجة؟
اللهم اغفر لها وارحمها وأكرم نزلها ووسع مدخلها واغسلها بالثلج والماء والبرد، وارفع مقامها في عليين. إنا لله وإنا إليه راجعون، والحمد لله رب العالمين.