الإمام الشيخ محمد آل الشيخ

عبد الله الطنطاوي

الإمام الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ

رجل الجهاد والعلم والحزم والدين

عبد الله الطنطاوي

[email protected]

 تمهيد:

 ما أعظم أن يخلف الرجل العظيم أبناء وحفدة عظماء، ينهجون نهجه، ويسيرون على خطاه، ليرقد في مثواه الأخير على هذه الأرض، قرير العين، مطمئناً إلى أنّ من خلّفهم من بنين وبنات، ومن حفدة وحفيدات، سوف يكونون كما دعا اللهَ وأحبَّ أن يكونوا، قدّمهم هدايا غالية لأمته ودينه، وسوف يقدّمون إليه هدايا ثمينة تؤنسه مع عمله الصالح في حياته البرزخية، من علوم، ودعوات، وصدقات..

 وكذلك كان الإمام المجدد الشيخ محمد بن عبد الوهاب، مع أولاده وحفدته، وهذا ما سنطالعه في حياة حفيده الشيخ محمد بن إبراهيم، مفتي الديار السعودية، ورائد النهضة العلمية والشرعية فيها، الذي أمضى حياته الحافلة في أعمال الخير، وعلى رأسها نشر العلم بتعليم الناس أمور دينهم، وعلوم شريعتهم ولغتهم، آمراً بالمعروف، ناهياً عن المنكر، داعياً إلى الله على بصيرة، ناصحاً خاصتهم وعامتهم وولاة أمورهم، ذائداً عن حرمات هذا الدين العظيم، باسطاً العدل والإنصاف والحبّ بين الناس، حتى أمن الناس واطمأنّوا، وعاش بينهم معزَّزاً مكرَّماً، يحبّونه ويجلّونه، ويضربون المثل به في سائر أحواله.

 المولد والنشأة

 ولد الشيخ في مدينة الرياض في السابع عشر من المحرم عام 1311هـ في حي دُخْنَة، في بيت علم وفضل وزعامة دينية، وعراقة في الشرف والعلم والتقوى والصلاح وبذل النفس والنفيس من أجل إعلاء كلمة الله، ورفع شأنها، ودحض كل ما يثار حولها من شكوك وشبهات.

 فأبوه الشيخ إبراهيم كان قاضي الرياض، ومن أكابر علماء المعقول والمنقول في نجد ومشاهيرهم، ومعروفاً بالذكاء والتقوى والورع والعلم، وقد لبث في القضاء منذ استقضاه الملك عبد العزيز سنة 1321هـ حتى وفاته سنة 1329هـ.

 وعمّه الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف، وهو علامة نجد ومفتيها وفقيهها، كان ذا عقل راجح، وعلم واسع، وفضل وكرم، مسموع الكلمة عند العامة والخاصة، يقصده العلماء وطلاب العلم والوجهاء من كل مكان، وهو خطيب مفوّه، إذا خطب هزّ المنابر، وأسال الدموع من المدامع، وكان الملك عبد العزيز يأتي إليه في داره، ليسمع درسه، ويأخذ رأيه ومشورته في بعض القضايا.

 وليس هذا بمستغرب من الملك المشهود له برجاحة العقل، تجاه أحد حفدة الإمام المجدّد ابن عبد الوهاب، بل وتجاه سائر الحفدة.

 وجدّه الثاني الشيخ عبد الرحمن كان واسع العلم والمعرفة، وجدّه الثالث غني عن التعريف.

 وكذلك كان بيت جدّه لأمّه، الشيخ عبد العزيز الهلالي، أمير عِرْقة إذ ذاك، وخاله محمد بن عبد العزيز الهلالي من أدباء عصره وشعراء زمانه، وقد تولّى إمارة عِرْقة بعد والده.

 في هذه البيئة العلمية النقية في عقيدتها وسلوكها، نشأ الشيخ محمد على الدين والفضيلة والعلم والأخلاق السامية، فكان لنا منه عالم عامل، ذو أثر بعيد في مجتمعه، وفي علماء ذلك المجتمع ومفتيه وقضاته، بعد أن وقف حياته على العلم والتوجيه والإصلاح.

 تعلُّمه وعلمه:

 نشأ الشيخ محمد محبّاً للعلم والعلماء، فمنذ السابعة من عمره بدأ يتلقّى القرآن الكريم في كتّاب الشيخ عبد الرحمن بن مفيريج تلقّي نظر وسماع، وضبط وإتقان، وحفظه وهو في التاسعة من عمره، ولما أصيب بفقد بصره وهو في السادسة عشرة من عمره، أعاد قراءة القرآن العظيم عن ظهر قلب، وكان حفظه له متقناً.

 قرأ العلم على أبيه وعمّه الشيخ عبد الله، وبدأ بالتوحيد، وأصول العقيدة قراءة حفظ وفهم، ثم قرأ مختصرات جدّه الإمام محمد بن عبد الوهاب، ومختصرات شيخ الإسلام ابن تيمية، ومختصرات العالم الجليل ابن القيم.. قرأ الواسطية، والحموية لابن تيمية، وعُني بمختصرات النحو كالآجرومية، والفرائض، كالرحبيّة، وحفظ المتون الكثيرة، وكان حفظ المتن لا يكلفه أكثر من قراءته مرتين أو ثلاث مرات.

 ولم يثنه كفُّ بصره عن طلب العلم، بل تحدّى العمى، وأقبل على العلم يلتهمه التهاماً، فقرأ على علماء الرياض بعض كتب التفسير، والحديث الشريف، قرأ هذين العلمين وأصولهما، على الشيخ سعد بن عتيق، وقرأ علوم اللغة العربية على الشيخ حمد بن فارس، وقرأ بعض مطولات علم الفرائض والمواريث على والده، ثم على الشيخ عبد الله بن راشد، الذي قرأ عليه ألفية الفرائض، وعبَّ منها عباً، وصحب عمّه الشيخ عبد الله اثني عشر عاماً، كان يصحبه إلى بيته بعد صلاة الفجر كل يوم، ليحضر مجالس الدرس والتحصيل، ثم يمضي سائر يومه في مراجعة ما أخذ من علم مع مشايخه وتلاميذه. واستمرّ على ذلك حتى وفاة عمه عام 1339هـ، رحمهما الله تعالى.

 وكانت هذه المرحلة أحفل المراحل بالعلم، والتحصيل، والجهد المتواصل الذي يدلّ على عظيم صبره، وشدّة جلده ودأبه في تحصيل العلوم الشرعية والعربية، حتى صار ذا علم معتبر في التاريخ والأنساب والفلك وعلوم البلاغة، أفاد منه علماً غزيراً، فقد كان عمه تفرَّس فيه بوارق النبوغ في العلم والاجتهاد والإصلاح والرئاسة والإفتاء، فأولاه رعاية حانية، وعناية فائقة في تلقينه العلم والسلوك والأخلاق، وحبّب إليه معالي الأمور، والجدّ نحوها، وكرّه إليه سفاسفها، ليكون قلعة للعلم، وصرحاً للفضيلة، وسياجاً منيعاً للدين وذويه، يذود عنه وعنهم بما أوتي من حجج وبراهين.

 كان عمّه يرجو أن يكون شيخ جيلٍ من العلماء، وباعث نهضة علمية في شبه الجزيرة العربية، ينهض بعلوم الشريعة، وبعلوم اللغة العربية، يصلح ما فسد، ويقضي على ظلمات الجهل وأسباب التخلف. ولهذا درّسه كتب التوحيد، وأصول الإيمان، وفضائل الإسلام من تأليف جدّه الشيخ محمد بن عبد الوهاب، والدلائل (حكم موالاة أهل الشرك) للشيخ سليمان بن عبد الله بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب، ودرَس عليه الحديث وعلومه في كتاب بلوغ المرام، وثلث المنتقى، ثم على الشيخ سعد بن عتيق الذي قرأ عليه أيضاً ألفية العراقي في مصطلح الحديث.

 ودرس الفقه (زاد المستقنع) وعلوم اللغة العربية على الشيخ حمد بن فارس، (الآجرومية، والملحة، وقطر الندى، وألفية ابن مالك، وشرح ابن عقيل، كما درس على غيرهم من المشايخ، وكان كثير المطالعة في العديد من العلوم والمعارف، ممّا وسّع آفاقه، فقد كان يتمسك بالمذهب، ولكنه لا يتعصب له وقد يخرج عليه في بعض المسائل، وعن بعض مشهوره إلى صحيحه.

 وكذلك كان.. فقد حصل الشيخ الشاب في زمن قصير، على علم غزير، لا يستطيع غيره الحصول عليه إلا في زمن طويل. وبه تكوّنت له شخصيته العلمية المتميزة، بعد جهاد مرير متواصل في سبيل العلم أخذاً وعطاء، فصار أصولياً، محدثاً، مفسراً، فقيهاً، يشدّ إليه العلماء وطلبة العلم رحالهم، لينهلوا من معين علمه الذي لا تكدّره كثرة الدّلاء الماتحة منه.

 إجازاته العلمية:

 حاز الشيخ محمد على إجازات كثيرة من علماء نجد، ومن مشايخ الأقطار الأخرى، ومن هؤلاء العلماء: الشيخ حسين بن محسن الأنصاري -نزيل الهند- (ت 1327هـ) وكانت إجازته هذه عن طريق المكاتبة، لأن الشيخ محمداً لم يزر الهند، ونال هذه الإجازة وهو ابن ستة عشر عاماً.

 وأجازه الشيخ عبد الستار الدهلوي في رواية الحديث عنه، عندما التقاه في حج عام 1348هـ.

 وأجازه الدكتور الشيخ محمد تقي الدين الهلالي - المغربي- (1311 - 1407هـ) والشيخ سعد بن عتيق، والشيخ عبد الله العنقري، وسواهم.

 مؤلفاته:

 لقد شغلته مسؤولياته الكثيرة، ومشاغله الجمّة، والأعباء التي تحمَّلها راضياً وبشعور عالٍ بالمسؤولية، وخاصة التدريس والتعليم الذي شغل حيّزاً كبيراً من عمره.. أكثر من أربعين عاماً قضاها في تعليم طلبة العلم، كما سيأتي.. شغله كل ذلك عن التأليف، اللهم إلا تأليف الرجال الذين لا يحصيهم العدّ، وملؤوا المملكة علماً وفضلاً ونوراً.

 ومع ذلك، كتب رسائل وكتباً صغيرة في زكاة العروض، وحكم التدخين، والقات، وغلاء المهور، والجواب المستقيم، وتحكيم القوانين، وكانت فتاواه القيّمة التي جمعها تلميذه الشيخ عبد الرحمن بن قاسم في ثلاثة عشر مجلداً، تبرهن على تضلّعه في الفقه، وعمق نظراته، وله أيضاً ألف حديث اختارها ووضعها في أبواب، هي من أحاديث الأحكام، وهناك نصائحه وردوده الكثيرة في موضوعات شتى، وهي مطبوعة وموجودة في دار الإفتاء.

 وصف العلاّمة الشيخ عبد الفتاح أبو غدّة مؤلفات الشيخ، بأنها "تتميز بالعمق والدقة والشمول، والاستدلال والجزالة التامة، وجلُّها في المشكلات العلمية العويصة، وبعضها في الردود على من شطَّ عن الجادة.

 "وفي هذه الفتاوى والرسائل نماذج كثيرة حيّة ناطقة بعمق نظره في الفقه، ودقّة نظره في القضاء، وشدّة اجتنابه المداهنة في دين الله تعالى، مع الانتباه التام لدخائل ودسائس أهل الأهواء والقلوب المريضة في شؤون الدين".

 وفتاواه تدل على تحرّيه الشديد، فلا يقبل الشيء ولا يرفضه إلا بعد عرضه على الميزان الصحيح للقبول والرفض، تسعفه ذاكرة حيّة في استحضار النصوص التي تقوّي حجته، وتجعله يغوص على المعاني الدقيقة، بحيث ينزّل الحوادث على القواعد والنواظر تنزيلاً عجيباً، كما تدل فتاواه على تساميه عن مستوى التقليد المطلق، وعلى قدرته الفائقة في حل معضلات المسائل والقضايا العصرية بطرق مقنعة.

 مع الشعر:

 كان الشيخ ذا ذائقة أدبية سليمة، يتذوق الأدب الرفيع، من شعر ونثر، وتطربه القصيدة والأبيات الرصينة والحكيمة، وينفر من الشعر الهزيل الضعيف، وكان يحفظ العديد من فرائد القصائد الطويلة.

 ثم إنه كان ينظم الشعر في المناسبات السارّة والحزينة، كالفتوحات، والغزوات، والمناسبات الإخوانية، وله شعر لطيف يؤرخ به ميلاد أبنائه وحفدته بحساب الجُمّل، وله شعر يُلْغِز به في بعض المسائل العلمية، يحاجي به الأذكياء من طلبة العلم، يحرّك به عقولهم، ويختبر ذكاءهم، ويدفعهم إلى البحث عن المغزى.

 وكان الشيخ يقول: "لو أردت ألاّ أتحدّث إلا بالشعر لفعلت" وليس هذا بجديد على من سكن نجداً أمَّ الشعر والشعراء، وحاضنتهم منذ القديم، حيث العرار والشِّيح والقيصوم وعبيرها الذي يملأ خياشيم شعرائها، فتمتلئ نفوسهم بالشعر. ولكن الشيخ الشاعر، كان -فيما يبدو- يرى في الشعر ما رآه الإمام الشافعي في قوله:

 ولولا الشعر بالعلماء يزري لكنت اليوم أشعر من لبيد

 آراؤه:

 للشيخ آراؤه السديدة في الكثير من القضايا التي شكّلتْ لديه تجارب حيّة، استخلص منها مواقف عقلية حكيمة لمصلحة الأمة في دينها الذي هو حياتها ومستقبلها.

 من تلك الآراء، أنه يرى أن التأصيل والتقيّد في التصرف في الأمور السهلة، يعطي القدرة على التأصيل والعمل به في الأمور المهمة، كما كان معه في حياته العلمية والقضائية.

 وكان يرى العمل بما عليه جمهور المسلمين، فأمر أن تكون صلاة التراويح عشرين ركعة والوتر، أمر بذلك الشيخ إبراهيم بن عبد الله بن عتيق الذي كان قاضياً في إحدى مدن الشمال، وكان هذا القاضي، وكذلك الشيخ عبد العزيز بن باز يصليان التراويح إحدى عشرة ركعة مع الوتر.. واستجاب الشيخ إبراهيم لأمر الشيخ الذي كان يحرص على موافقة الجمهور، والبعد عن مخالفة الجماعة. ويتضح من هذا أنه كان نافذ الكلمة عند الخاصة والعامة، ولا يجرؤ أحد أن يشذّ عن فتواه، لأنهم يعرفون أيّ عالم فقيه هو، وأنه يحتاط في فتاواه، ولا يلتزم العلم بالصورة الفقهية إذا أدّت إلى نتيجة لا تتفق مع مقاصد الشريعة.

 ومع أن الشيخ حنبليّ المذهب، إلا أنه لم يكن يلتزمه دائماً في آرائه الفقهية وفتاواه، بل كان يعتمد من المذهب ما قام به الدليل، فإذا رأى الدليل في غيره أرجحَ، قال به من دون حرج أو تردد، وهذا المسلك شائع في كتبه ورسائله وفتاواه.

 وكان -رحمه الله تعالى- يكره الأقوال الشاذة، وينفر من أصحابها، والدعاة إليها، والمروّجين لها، ولا يرى مسلكهم هذا يؤدي إلى خير أو رشاد، ويرى الخير مع الجماعة، ولم يكن يرى الخروج على المذاهب الأربعة، ولا يميل إلى الاجتهاد الانفرادي الذي يقع من بعض العلماء في هذه الأيام، ولهذا سعى إلى إنشاء مجلس هيئة كبار العلماء ليجنّب الناس الاجتهاد الفردي، باجتهاد جماعي يقيهم غائلة الانفراد بالآراء القاصية التي تعدّد الفتوى في المسألة الواحدة، وهذا مالا يراه الشيخ، ويكره أن يكون بين العلماء.

 صفته:

 كان الشيخ موفور القامة، ممتلئ الإهاب،متماسك البنية صحة وقوة ونشاطاً،أسمر اللون،عظيم الهامة،من نظر إليه احترمه وهابه.

 أخلاقه وشمائله:

 كان الشيخ-رحمه الله-سليم القلب، عفيف اليد واللسان، يؤثر الصمت ونَزْرَ الكلام، حتى إذا رآه من لا يعرفه، يحسبه عييّاُ،لطول صمته، وحِكْمَتُه هي التي أسكتته، وإذا تكلم أوجز.

 وكان هذا شأنه حتى في درسه الذي يلقيه في مسجده بين المغرب والعشاء، وهذا من حسن أخلاقه، ومراقبته للسانه، وقد كان الصمت وقلة الكلام من السمات البارزة في حياة السلف، لا يتكلمون إلا قليلاً وفيما تحته عمل، فكان كلامهم نَزْراً موجزاً لا إسهاب فيه ولا إطناب، حتى في بيان العلم وشرحه.

 ومن قرأ كتاب (فضل علم السلف على علم الخلف) للحافظ ابن رجب الحنبلي، و (كتاب الصمت) للإمام ابن أبي الدنيا، وكتاب (الزهد) للإمام عبد الله بن المبارك، وكتاب (الزهد) للإمام أحمد، وكتاب (الزهد) للإمام هنّاد بن السَّريِّ، يجد الصمت خطيباً مرشداً في محرابه، ووجده خُلُقاً عظيماً تخلّق به الأكابر من دون الأصاغر، أولئك الذين:

 إذا سكتوا رأيت لهم جمالاً وإن نطقوا سمعتَ لهم عقولا

 وكان رحيماً بأهله، محبّاً لإخوانه، ناصحاً لهم ولأولي الأمر، لا تأخذه في الله لومة لائم من مسؤول، أو وجيه، أو قريب أو نسيب، فالحقُّ، عنده كما هو عند من يخافون الله ويحترمون أنفسهم، أحقُّ أن يُتَّبع.

 وكان حازماً، عفيفاً، لا يطلب شيئاً لنفسه من الملوك والأمراء والولاة، كلُّ طلباته بأعماله الرسمية.

 وكان ذا علم واسع، وفقه دقيق، إذا تحدّث بعلمٍ حسبتَه المختص الوحيد فيه، فإذا فسَّر مثلاً، ظننت علمه مقتصراً على التفسير، لغوصه في أعماقه، وكذلك سائر العلوم الأخرى التي برع فيها أيّ براعة.

 وكان قانعاً بما آتاه الله من فضله، يترفع عما يتزاحم حوله الناس، فكسب بذلك هيبة واحتراماً عند ذوي الشأن الذين يرونه يعفّ عن المال العام، فلا يتقاضى إلا راتباً واحداً من رئاسة القضاء، مع أن أعماله الرسمية الأخرى تزيد على عشر وظائف، ولكنه كان يحتسب الأجر عند الله تعالى.

 وكان شريف النفس، سليم النيّة، طاهر الضمير، واسع الصدر، نقيّ القلب، نظيف اللسان، لا ينطق إلا بما تدعو إليه الضرورة، صادق اللهجة، وقوراً، متواضعاً للعلماء وطلبة العلم والصالحين من الناس، لا يتكلف لأحد ولا يتصنّع، يحافظ على وقته، فلا ينفقه إلا في الأعمال الصالحة.

 وكان رقيق القلب، سخيّ الدمعة، شديد المحاسبة لنفسه، والبكاء والاستغفار لذنوبه، كان يتأسّى برسول الله صلى الله عليه وسلم في سائر أحواله، وتصرفاته، فهو -بأبي هو وأمي - وصحابته الكرام قدوته، لهذا كان كثير الذكر والاستغفار والمناجاة وهو يتهجد في جوف الليل، ويتلو القرآن العظيم، في حلِّه وارتحاله، وهو يتقي الله في سرّه وعلانيته، ويتورّع عما فيه شبهة، وكان عظيم الاحتمال والصبر على الشدائد والأذى، صداعاً بالحق، ذا مراقبة لربّه، وخشية منه، وهو شديد الاجتهاد في سبيل الخير، ذو همّة عالية، وجدّ فائق، وإخلاص كامل، إذا غضب فلله ورسوله، لا ينتصر لنفسه، ولا يثأر لذاته، ويدفع بالتي هي أحسن، فهو سمح النفس، لا يدلّ بعلمه ومعلوماته في كل القضايا، وكثيراً ما يعود إلى الكتب للتثبت، ولا يرى في هذا عيباً أو نقصاً، بل يرى فيه تحرّياً وتروّياً ومزيد تأمل يفضي إلى الفهم العميق، حتى لا يصيب أحداً بجهالة، فهو يتحرّى الحقَّ ويدافع عنه، ويحكّم شرع الله في سائر أعماله، ليعصمه من الخطأ والزلل، يوطِّئ أكنافه لإخوانه، ولطلبة العلم، ويكرمهم، وحاشا أن يجدوا فيه غلظة، بل انبساطاً وسروراً وحناناً أبوياً، وكذلك كان لأهله وإخوته بعد وفاة والده عام 1329هـ.. كان لهم بمثابة الأب الرحيم الحليم، وجعل من أخيه الشيخ عبد اللطيف مرافقاً له في الذهاب والإياب، ومعيناً له في تحضير المسائل، وإعداد الدروس، فأفاد كلٌّ منهما من أخيه، علماً وفهماً وسلوكاً وذوقاً وديناً.

 وكذلك كان مع القضاة، لطيفاً في موضع اللطف، قوياً شديداً إذا استدعى الموقف شدّة، يضع الأمور في مواضعها ببصيرة وأناة، فهو حكيم ورع في تصرفاته، لا يقرّب ولا يبعد إلا بالحقّ، يعرف للناس أقدارهم، وينزلهم منازلهم، لم يزهه منصب، ولم تفتنه دنيا، ولم يغيّره سلطان، يرى العدل روح المجتمعات، وأساس الملك، فأولى شؤون القضاء عيناً ساهرة، وقلباً يقظاً لا يسهو ولا يغفل، وعقلاً نيّراً لا يخدع، حتى اطمأن الناس إلى حقوقهم، واستراحوا إلى عدل قضاتهم، فأحبّوه وأحبّوهم.

 وكان يعطف على القضاة، ويدافع عنهم، ويطلب لهم ما يسدّ حاجاتهم، ويصلح أحوالهم، ويرفع شأنهم في نظر الناس مادياً ومعنوياً، ويتحدث عن مكانة القاضي في المجتمع، ويريدهم أصحاب هيبة في عيون الناس.

 وكان ينصح القضاة، ويوجههم ليكونوا كباراً في واقعهم وأمام الله والتاريخ والناس، وفوق الشبهات، من مصالح شخصية وسواها مما يثلم المروءة، فكان بهذا وذاك، نعم الأب والمربي والموجه لهم.

 ومع ذلك، كان الشيخ يتبسط معهم ومع تلاميذه وموظفيه المباشرين للعمل معه، كأنه أب أو أخ كبير لهم، يروي لهم النكتة ويبتسم، ويسمعها منهم ويسرّ، من دون شطط.

 وقد أعطاهم من نفسه القدوة في دأبه على العمل، فهو لم يتخلف مثلاً في إمامته عن صلاة مكتوبة إلا لسفر أو مرض، ويرونه يباشر سائر وظائفه، وهي كثيرة، في همّة ونشاط، ويرون حبَّه للخير، وتفانيه في خدمة الناس، وحبَّ الناس له، فيقتدي العقلاء والصالحون منهم به، لأنهم يرون قوة شخصيته التي كانت تذوب أمامها الشخصيات الكبيرة، نتيجة لذلك التكامل في صفاته وشمائله.

 وكان الشيخ يكره أن يمدحه الناس ويثنوا عليه ويطروه، لأنه لا يريد أن يكون ممن يحبّون أن يُحمَدوا بما عملوا، ويكره المتملّقين الذين يصفونه بألقاب: شيخ الإسلام، ومفتي الأنام، وما شابه ذينك من ألقاب.

 وكان الشيخ ذكياً ألمعيّاً لمّاحاً، لا تنطلي عليه الحيل والألاعيب، وكان يدرك تقدير الوقت بالساعة، ولا يكاد يخطئ الحقيقة إلا في بضع دقائق، ولم يستعمل الساعة قط.

 وكان الشيخ غيوراً على شؤون المسلمين وقضاياهم، تؤرقه مشكلاتهم ومآسيهم، ويتلمّس لهم العلاج فلا يجده إلا في كتاب الله وسنّة نبيّه، قضى حياته مجاهداً لخدمة أمته ودينه، وفي سبيل الصالح العام للإسلام والمسلمين، وقام بالدور الذي يجب أن يقوم به كل عالم، ولو أن علماءنا نهضوا بأدوارهم كما نهض شيخنا الإمام، لكان حال المسلمين غير حالهم اليوم.

 وظائفه:

 شغل الشيخ وظائف كبيرة تعجز دونها وفي حملها العصبة القوية من الرجال الأكفياء، نذكر منها:

 1 - رئاسة القضاء في المملكة كلها، وإليه يرجع الأمر في تعيين القضاة وتنظيم المحاكم.

 2 - الرئاسة العامة لسائر المؤسسات التعليمية في المملكة، يشرف عليها، وينظم أمورها الإدارية والدراسية، ويختار لها الثقات من العلماء في المملكة ومن البلدان العربية. ومن هذه المؤسسات: رئاسة الكليات والمعاهد العلمية، ورئاسة الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة، ورئاسة المعهد العالي للقضاء، ورئاسة معهد إمام الدعوة، ورئاسة المعهد الإسلامي في نيجيريا.

 وقد نهض بأعباء النهضة العلمية في أوساط النساء، عندما أنشأ لهنّ المدارس، وأشرف على رئاسة تعليم البنات.

 3 - رئاسة دار الإفتاء.

 4 - رئاسة المجلس العالي للقضاء.

 5 - رئاسة المجلس الأعلى لرابطة العالم الإسلامي.

 6 - رئاسة دور الأيتام.

 7 - رئاسة مؤسسة الدعوة الصحفية.

 8 - الإشراف على نشر الدعوة في إفريقيا.

 9 - إمام مسجد الشيخ للفروض الخمسة.

 10 - خطيب الجامع الكبير.

 11 - المشرف العام على ترشيح الأئمة والموظفين الدينيين، وعلى تعيين الوعاظ والمرشدين.

 12 - رئيس المكتبة السعودية العامة التي أنشأها في حي دُخنة في الرياض عام 1370هـ وجلب إليها نوادر الكتب والمصادر العلمية والمخطوطات القيمة من سائر البلدان العربية والإسلامية والأجنبية، ذكر الزركلي في أعلامه أنها بلغت خمسة عشر ألف كتاب من أمّات الكتب في التفسير، والحديث، والفقه، والرجال، والتاريخ، والأصول، والمصطلح، والأدب، واللغة، والشعر، وغيرها من العلوم، وصوّر لها 117 مخطوطة في حياة الشيخ.

 وكان الشيخ يستعين بكبار العلماء والإداريين المخلصين في إدارة هذه الأعمال، ويعمل معهم بروح الفريق، فنجح ونجحوا في النهوض بها، لأن الشيخ -رحمه الله وأكثر من أمثاله- كان يقضي مالا يقل عن سبع عشرة ساعة يومياً في العمل وخدمة الإسلام والمسلمين، وبصورة مستمرة دائمة لا تقطعها إجازة، ولا يحول بينه وبين القيام بها أيّ تعلّة من تعلاّت الموظفين الآخرين، وخاصة (الكبار) منهم.

 صلته بالملك عبد العزيز:

 كان عمّه الشيخ عبد الله قد أوصى الملك عبد العزيز بابن أخيه الشيخ محمد، فهذا الشاب سيكون نابغة، وسوف يسدّ مسدَّه بعد وفاته.

 وعرف الملك صدق الشيخ عبد الله، وصدق فراسته بابن أخيه الشاب، وعندما توفي الشيخ عبد الله، أسند إليه الملك سائر المهمات التي كان ينهض بها عمّه، في التدريس، والإفتاء، والإمامة، والخطابة، وأنزله من نفسه منزلة عمه الراحل، وكان في الثامنة والعشرين من العمر، فقد أحبّه الملك، ووثق به وبعلمه وعقله ودينه وأخلاقه، وجعله مستشاراً شرعياً له، يستشيره في تولية القضاة، ويصغي لآرائه في الأمور الشرعية، وانتدبه لعلاج غلاة البادية، فأرسله إلى أهل الغطغط سنة 1345هـ لمّا غلوا في الدين، وشدّدوا فيه تشديداً ليس منه، فمكث عندهم ستة أشهر، يبيّن لهم معاني الكتاب والسنة المطهرة، ويشرح لهم عبارات رسائل علماء التوحيد والسلفية، ويدحض شبهاتهم، ويبطل ادعاءاتهم الغالية، ويوضح لهم سبيل الحق والرشاد بالحجة القاطعة، والبيّنة الواضحة، ويحذرهم من الغلو.. لقد صبر عليهم، وتحمّل جفاءهم وخشونتهم، وما زال بهم حتى عادوا إلى الطريق الصحيح. وهذا يدل على ثقة الملك بقوة عقل الشيخ، وقوة حججه وبراهينه.

 وكذلك كانت ثقة الملك فيصل -رحمه الله رحمة واسعة- بالشيخ محمد، فكان يقرّبه إليه، ويصغي لنصائحه الثمينة، ويعمل بما يقترحه عليه من أمور تصبّ كلها في الصالح العام، وليس لشخص الشيخ فيها نصيب، وعندما توفي الشيخ، كان الملك فيصل على رأس المشيعين، وفيهم الأمراء والوزراء والعلماء والوجهاء.

 والملك فيصل هو الذي أمر بطبع فتاوى ورسائل الشيخ في مطبعة الدولة بمكة المكرمة.

 تدريسه:

 كان -رحمه الله تعالى- كسائر علماء الأمة الكبار من سلفنا الصالح، يعي الأمانة التي ناطها الله بالعلماء، بتعليم الناس أمور دينهم، فهو الوسيلة القويمة لتربية الأجيال على الاستقامة والفضيلة، فعلّم بنفسه من صدر شبابه حتى وفاته، وعلّم بغيره، ولم يدّخر وسعاً في تعليم الناس ما يحتاجون إليه من العلوم الشرعية، وعلوم اللغة العربية، لتسلم لهم عقيدتهم من أي تحريف، ويستقيم دينهم، وألسنتهم..

 كان يجلس لتعليم الصغار عقب صلاة الفجر من كل يوم، في مسجد عمه الشيخ عبد الله، فيعلمهم مبادئ النحو في كتاب الآجرومية، ثم ينتقل إلى الفئة العمرية الوسطى، فيعلمهم النحو أيضاً في كتاب قطر الندى، ويترك الصغار لمراجعة ما أخذوه، فإذا فرغ منهم أقبل عليه كبار الطلبة ليقرئهم ألفية ابن مالك، وشرح ابن عقيل عليها.

 وبعد فراغه من دروس النحو، ينتقل إلى درس الفقه، وكان متبحراً فيه، فالحديث الشريف، وهو فيهما كشأنه في علم النحو، يتدرج مع كل فئة حسب مستواها العلمي، وكلما انتهت حصة، باشر حصة أخرى، ثم يعود إلى منزله لأخذ استراحة قصيرة، وتناول لقيمات يقمن صلبه، ثم يعود إلى مجلسه في المسجد ليستأنف عمله في تعليم الكبار في أمّات الكتب، ثم يستريح قليلاً في بيته المجاور للمسجد، ويستعد لصلاة الظهر، فإذا ما قضيت الصلاة عاد إلى مجلسه، وتحلّق حوله طلبة العلم، يسألونه ويحاورونه في شتّى العلوم حتى صلاة المغرب، وبعد الصلاة يأخذ في علم الفرائض والمواريث، ثم يلقي درساً في التفسير حتى العشاء التي يؤخرها ريثما ينهي درسه في تفسير الطبري أو ابن كثير..

 وهكذا استمرّ الشيخ في التدريس سنوات طوالاً، لا يكاد ينقطع عنه إلا لعارض من مرض أو سفر ونحوهما، وكان طلبة العلم يقصدونه من كل مكان، لارتشاف العلم من معينه الصافي.

 كان هذا قبل أن تناط به الوظائف الكبيرة، وقبل افتتاح المعاهد والكليات التي كانت بمشورته وبإشرافه، حتى إننا نستطيع أن نزعم مع القائل: ما من امرئ ذي ثقافة وعلم في المملكة، إلا وهو شيخه، أو شيخ شيخه، أو حسنة من حسناته، أو وصل إليه أثر من آثاره، وقد غدا تلاميذه كبار العلماء في المملكة وكبار فقهائها.

 مجالسه:

 وصف الشيخ عبد الفتاح أبو غدّة مجلسه فقال:

 "كان الصمت هو الأصل في مجلسه، إلا في خير أو علم، أو أمر بمعروف أو نهي عن منكر، يدخل إلى مجلسه الزائر من كبار الأفاضل، وعلية القوم، وأنبه العلماء، فيسلّم ويقعد صامتاً بعد التعريف بنفسه، فكان الشيخ يحيّيه، ويتكلم معه كلمات باختصار وإيجاز.

 وهيبتُه دفعت عن مجالسه فضول الفضوليين، وأحاديث المستثمرين، ولا يسمح فيها بغيبة أو نميمة أو تجريح، فمجالسه منزهة عن هذه النقائص، فهو ينزّه لسانه وأذنيه عنها، ويعرف جلساؤه عنه هذا، فيلتزمونه ولا يقدمون عليه.

 والشيخ يصغي لمحدثه، ولكن شخصيته القوية تفرض على محدّثه ألا يطيل.

 وفاته:

 أصيب الشيخ بمرض في كبده أواخر شعبان 1389هـ فسافر إلى لندن للعلاج في أوائل رمضان، وعاد منها يوم 18 من رمضان، ومنذ عودته وهو يعاني من غيبوبة كان يفيق منها أحياناً ليذكر الله ويستغفره، حتى توفّاه الله في الرابع والعشرين من رمضان 1389هـ وكان عمره: 78 سنة و8 أشهر، و8 أيام، وصُلِّي عليه في جامع الرياض الكبير بعد صلاة العصر، ودفن بعد ثلاث ساعات من وفاته، في مقبرة (العود) حيث يرقد آباؤه وجثمان الملك عبد العزيز وآبائه وزحفت حشود ضخمة لتشييعه، كان على رأسها الملك فيصل -طيّب الله ثراه- ومعه قادة المملكة من الأمراء والعلماء والوزراء وجموع غفيرة من الجماهير التي بكته بحرقة، لأنها أحسّت بفداحة المصاب به. رحمه الله رحمة واسعة. 

               

 المراجع

 1 - خير الدين الزركلي: الأعلام - 5/306 - 307

 2 - عبد الرحمن بن عبد اللطيف آل الشيخ: مشاهير علماء نجد: 169 - 184

 3 - عبد الفتاح أبو غدّة: تراجم ستة من فقهاء العالم الإسلامي، في القرن الرابع عشر: 255 - 292

 4 - عبد الفتاح أبو غدّة: العلماء العزّاب: 40 - 41

 5 - محمد المجذوب: علماء ومفكرون عرفتهم: 2/247 - 254

 6 - محمد بن عبد الله آل الرشيد: العلامة محمد بن إبراهيم آل الشيخ: مفتي الديار السعودية. بأقلام بعض تلامذته ومعاصريه.