أحمد بن عرفان الشهيد
د. محمد بن موسى الشريف
سأكتب في هذه الحلقات – إن شاء الله تعالى- عن شخصيات عظيمة من التاريخ الحديث، لكنها مغمورة عند أكثر القراء، وإن عرفوا الأسماء فما عرفوا الأعمال ، وإن اطلعوا على شيء من الأعمال فقد فاتهم جملة مهمة منها، وأعني بالتاريخ الحديث هو ما بعد بدء الحملات الاستخرابية (الاستعمارية) على العالم الإسلامي في القرن الثالث عشر والرابع عشر الهجريين -التاسع عشر والعشرين الميلاديين- فبعض العظماء ممن عاش في ذينك القرنين كان له جهد مميز لكن لا تعرف شخصيته عند الكثير من القراء في هذا العصر لذلك سأميط اللثام عن جهوده وتميزه في هذه الحلقات، وابدأ بشخصية جليلة، كان لها الأثر العظيم في الجهاد في الهند، وإعزاز المسلمين هنالك، ألا وهو المجاهد أحمد بن عرفان الشهيد، وهو من أسرة عريقة شريفة لها صلة بعظماء الهند من آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين كان لهم جهد ملحوظ في إقامة الشريعة في الهند وتربية المسلمين.
ولد في بلدة "راي بريلي" بالقرب من لكنو في الهند سنة 1201 أول القرن الثالث عشر، وتوفي في وادي بالا كوت شهيداً إن شاء الله سنة 1246-1831 ، وعلى أن عمره قصير لكنه حافل بجلائل الأعمال.
ولد والهند في قبضة الإنجليز يمتصون خيراتها، وينهبون ثرواتها، ويذيقون المسلمين صنوف العذاب، ويضيقون عليهم في مدارسهم ومساجدهم ويمنعونهم من المناصب العالية ويقربون الهندوس منها، بل مالأوا الهنادكة والسيخ في عداوتهم للمسلمين، ومكنوهم من رقابهم، وعلى هذا فقد عاش في ظل أحوال صعبة، فماذا صنع رحمه الله ؟
طلب العلم في الكتاب في صغره، لكن نفسه لم تمل إلى الدراسة فسرعان ما غادر المدرسة، وكانت همته في الجندية وأعمال الفروسية، والضرب والطعن، والرياضة من سباحة وبناء الجسد، وغير ذلك.
ولما بلغ من العمر عشرين سنة ذهب إلى لكنو ليلتحق بمعسكر للجهاد فيها لكن نفسه كانت تتوق للذهاب إلى دهلي -وليس دلهي التي حرف اسمها الإنجليز- حيث مدرسة آل الدهلوي الذين كان على رأسهم مصلح الهند الكبير شاه ولي الله الدهلوي ولم يدركه لكن أدرك ولديه الذين رحبا به أعظم ترحيب لما عرفاه، فمكث ينهل من العلم والعبادة والزهد والتربية حتى تاقت نفسه للجهاد الذي خلق له، فذهب إلى معسكر النواب -أي نائب السلطنة- ميرخان واجتهد في المعسكر هذا وتعلم ألواناً من فنون القتال، لكن نفسه لم تطب فيه بسبب أن ميرخان كان يقاتل للمغنم وليس له هدف واضح، وقد هادن الإنجليز فانسحب من معسكره، وأقبل على إفادة الناس ودعوتهم إلى الحق، وقد استجاب له عدد كبير، وكان منهج دعوته يقوم على إنكار البدع الكثيرة التي كانت في المسلمين بسبب اختلاطهم بالهنادكة، وعلى إرجاع المسلمين إلى كتاب ربهم وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وتعليم الجهال أصول دينهم وفروع شريعتهم التي يحتاجون لها، وقد أصلح الله على يديه عشرات الآلاف ممن تاب وأناب، وأسلم على يده من الهنادكة جملة كبيرة.
ثم إنه أعلن في كل أنحاء الهند سنة 1236 أنه يريد الحج إلى بيت الله الحرام، وأن من لا زاد له فزاده عليه، فاجتمع عنده عدد متوسط يقدر بأربعمائة حاج، وكان عدد من المشائخ ممن لاوعي له كافياً ولا فقه في واقع زمانه قد أصدر فتاوى بإسقاط الحج عن مسلمي الهند بدعوى عدم الاستطاعة بسبب أخطار الطريق، وفاتهم أن الحج قد قام به ملايين من الهنود قبل ذلك وفي أحوال مشابهة لكن كان للإنجليز أثر في إصدار عدد من هذه الفتاوى لأنهم -وأمثالهم من المستخربين (المستعمرين)- يحرصون على إبقاء المسلمين بعيداً عن الصلة بإخوانهم عن طريق منعهم من الحج أو التضييق عليهم تضييقاً كبيراً، أو بلبلة المسلمين بنشر شائعات عن أمراض معدية في الحجاز أو أخطار محدقة بالطريق وهكذا حتى لا يحج المسلمون ويتصلوا بإخوانهم.
وانطلق السيد أحمد بن عرفان الشهيد من بلدته راي بريلي بمن اجتمع معه، ومروا في طريقهم بعدد من المدن أقاموا في كل واحدة منها مدة يدعون إلى الله تعالى، ويصلحون بين الناس، ويذكرونهم بالله، حتى تاب آلاف مؤلفة في مرزابور وبنارس وكلكتا وغيرها.
وقد حدث له طرائف في مرزا بور فمن ذلك أنهم أرادوا إفراغ حمولة الباخرة فتأخر الحمالون، وكان من العيب أن يباشر الأشراف والوجهاء والأغنياء الذين رافقو في الحملة العمل بأنفسهم فشجعهم وابتدأ العمل بنفسه، وأنزلوا حمولة المراكب والناس ينظرون إليهم في دهشة لأن هذا لم يكن معتاداً في الهند، ولما رأى الحمارون -أي سائقو الحمير- ذلك التواضع دعوا السيد أحمد إلى بلدتهم فأجابهم، وكان ذلك صدمة للأغنياء والوجهاء والأشراف الذين رجوه ألا يصنع، وأن مؤاكلة الحمارين عيب كبير لكنه بين لهم أن هؤلاء يقومون بخدمة جيدة، وأن الأنبياء كانوا يركبون الحمير فأي ضير في إجابة دعوتهم ؟! وحضر وليمتهم فأثابوه بعدها بأموال وهدايا فرفض أن يأخذ منها شيئاً حتى لا يظن أنه إنما صنع ذلك للدنيا.
وهكذا كان رحمه الله يغير التقاليد البالية بنفسه، حتى أنه لما تزوج أرملة أخيه إسحق قام عليه الأشراف وذلك لأن المسلمين في الهند تأثروا بالهنادكة في عدم التزوج من الأرامل، فأبطل هذه السنة السيئة بنفسه رحمه الله.
وفي كلكتا تأخر ركب الحج قليلاً لإنجاز إجراءات السفر، فاستغل السيد ذلك ودعا إلى الله هو ومشايخ معه حتى تاب على أيديهم ألوف، وتركوا معاقرة الخمر التي كانت شائعة حتى أغلقت كثير من الحانات، وكسد سوق الخمر فجاء تجارها إلى الحاكم الإنجليزي يطلبون منه إسقاط الضرائب عن الخمور لكساد سوقها فوافقهم لكن إلى حين خروج أحمد بن عرفان من كلكتا !!
وفي أثناء تنقله من مدينة إلى مدينة جاءه وفد من مسلمي التبت فقراء يريدون الحج معه فقال لهم: أنتم لا تستطيعون لفقركم ودلهم على خير من ذلك ألا وهو الرجوع إلى التبت للدعوة فأخبروه أنهم جهال فعقد لهم دورة شرعية وإيمانية عادوا على إثرها دعاة، وجوبهوا في التبت بمحن وشدائد لكن في النهاية انساق كثير من الناس لدعوتهم، وانصلح حالهم، وأسلم من أسلم، وانتقلت الدعوة من التبت إلى الصين، وكان في مشورة ابن عرفان الخير الكثير.
ثم تحرك الركب من كلكتا إلى الحجاز للحج وعادوا فرحين، وامتدت مدة غيابهم قرابة ثلاث سنين بسبب وقوفهم في أماكن عديدة للدعوة وتربية الناس وهدايتهم مدداً طويلة نسبياً، وأعاد الله بهذا الحج الثقة للمسلمين بسلامة درب الحج.
ثم لما عاد من رحلة الحج سنة 1239 أخذ في دعوة الناس -كعادته هو ومن معه- لكن نفسه تاقت للجهاد خاصة أنه وصلت إلى مسامعه أنباء المجازر التي يقيمها السيخ للمسلمين في البنجاب، فأعد العدة ونادى في ربوع الهند بالجهاد في سبيل الله، واشتاقت النفوس، وسابق الأبناء الآباء، وتحرك بركبه يريد بلاد الأفغان يستنصرهم لكنه وجد من بعض أمرائهم صدوداً فعاد في رحلة شاقة جداً إلى بشاور، واصطدم مع السيخ في معارك انتهت بانتصاره وتأسيس إمارة إسلامية في بشاور، فوطد دعائم الأمن، وجبى الزكاة، وأقام الإسلام حتى تذكر الناس دولة الإسلام الأولى.
وأقام على ذلك أربع سنين تقريباً، لكن خيانة بعض أمراء الأفغان ضيقت عليه حتى أنهم قتلوا القضاة والمشايخ والدعاة الذين أرسلهم السيد أحمد للدعوة في تلك البلاد فكانت صدمة عنيفة له، يضاف إلى هذه الهموم فتاوى مشايخ السوء الذين أفتوا بأنه وهابي، وأن قتاله جائز بل مطلوب، مما جعل عدداً من أتباعه ينفضون عنه، وهاجمه أمراء من الأفغان، فعزم على ترك بشاور واتجه إلى البنجاب وقاتل السيخ بزعامة قائدهم رنجيت سيخ وانتصر عليهم، لكن المؤامرات ضده كانت مستمرة، فعقد العزم على التوجه إلى كشمير حيث دعاه أمراؤها ووعدوه النصرة، فخرج من البنجاب في طريق محفوفة بالمخاطر، واتجه إلى كشمير لكن خانه بعض جنده المسلمين ودلوا السيخ على قافلته فهاجموها في وادي بالاكوت في ذي القعدة من سنة 1246/1831، وقاتل هو ومن معه قتال الأبطال حتى استشهد وهو لابس كفنه، مقبل على ربه هو ورفيق دربه الشيخ إسماعيل بن عبدالغني بن شاه ولي الله الدهلوي وعدد من أمرائه وجنده، بعد أن هجم عليهم السيخ بجنود كثيرين.
واعتصم من بقي من جنده بالجبال، وواصلوا الجهاد في أحوال صعبة جداً وبرد شديد وجوع وتعب لكنهم صبروا وثبتوا سنوات حتى قضى على جهادهم الإنجليز، وحاكموهم محاكمات طويلة أظهروا فيها ضروباً من الثبات وصنوفاً من العزة، ما كانت لتخطر على بال أعدائهم، ولقد كان الواحد منهم يقدم على الإعدام أو السجن المؤبد راضياً صابراً ثابتاً، مما يدل على تربية أصيلة، وفهم جليل، وإقبال على الله وتجرد وإخلاص، نحسبهم كذلك والله حسيبهم.
هذا ومن أراد الاستزادة من الاستفادة، فليقرأ الكتاب الفذ الذي ألفه الأستاذ الكبير أبو الحسن الندوي رحمه الله تعالى وغفر له: "إذا هبت ريح الإيمان" فمن قرأه مقبلاً بعقله وقلبه يُرجى أن تهب ريحه، وأن يعظم عمله، وأن يقتدي بفعال ذلك المجاهد الكبير، الذي حركه الله للعمل في وقت مات فيه الأمل، واضمحل العمل إلا من قليل كان منهم ذلك المجاهد الفذ والبطل العملاق.
تلك كانت دعوة أحمد بن عرفان الشهيد: جهاد باللسان توجه بجهاد بالسنان، وهداية وإرشاد، وتربية وتعليم، ونقض العادات السيئة وإبطالها، وإعزاز للمسلمين، وبث للثقة في قلوبهم، وصبر على مشاق الطريق، وتضحية بالنفس والنفيس ، فلو لم يكن له بعد ذلك من هذا كله إلا تثبيت رحلة الحج واستمرارها، وجهاد السيخ الذين كان من ورائهم الإنجليز، وهداية عشرات الآلاف من المسلمين والهندوس على يده، لو لم يكن له إلا ذلك لكفاه، فكيف وقد أضاف إليه ما ذكرته، فرحمه الله رحمة واسعة، وتقبله في الشهداء.
المصدر : موقع التاريخ (عند النقل ذكر المصدر)