عدنان درويش ولا تفي بحقك الكلمات!

عبد الله النفَّاخ

عدنان درويش

ولا تفي بحقك الكلمات!

عبد الله بن أحمد راتب النفَّاخ

يوم عاد من القاهرة متأبطًا إجازته الجامعية أواخر الخمسينيَّات، متفوقًا على أقرانه سنيه الأربع، لم يتجه إلى الجامعة ساعيًا إلى فرص التدريس الكثيرة بها يومئذ، بل ولَّى وجهه شطر وزارة الثقافة ومديرية إحياء التراث العربيِّ بها.

كان مؤمنًا غاية الإيمان أن أمته ذات رسالة سامية من اللزام عليها أن تؤدِّيها للبشرية، وأن رسالتها تلك مبثوثةٌ في الأسفار التي ما تزال مخطوطةً تحتاج إلى نفض الغبار عنها وتجليتها للنشء القادم محقَّقة.

ولذلك وهب حياته، وأمضى سني عمله التي أربت على الأربعين من بعدُ مديرًا لإحياء التراث العربيِّ بوزارة الثقافة السورية، رافضًا عروضَ السفر أو التدريس أو حتى الظهور في الإعلام إلا نادرًا، مصمِّمًا ألا تكونَ له إلا غاية واحدة من وراء ما يعمل: خدمة أمَّته ووطنه وإعلاء شأنهما، بإبراز تراثها وكشف الحجُب عن كنوزها.

وهل يصدر كل ذلك إلا عن شخصيَّة مميزة؟

ميزتها أنها مقدودةٌ من الكرامة ومعجونة بالحسِّ المرهَف، ومن هذين كثيرًا ما يتولَّد الإبداع. فلئن لم يسلك الدكتور عدنان دربَ الإبداع الشخصي، فإن عمله في إخراج التراث على أحسن صورة كان إبداعًا وحدَه، وإن لم يُحسَب رحمه الله لدى خلق كثير في فئة المبدعين، بل في فئة العلماء والمحقِّقين وحدها.

وشخص بنفسٍ مرهفة كهذه، حسَّاسة كهذه، شديدة كهذه، رصينة كهذه، لا بدَّ أن يكره كلَّ وصوليٍّ متعالم متهتِّك يسلك درب الانتهازية، بل لا بدَّ أن يصلَ في كرهه تلك النماذجَ إلى أبعد الأشواط.

ولكثرة أولئك في وسط من يدَّعون العلم والعمل في التراث، آثر الانعزال شيئًا فشيئًا، إذ كان من أشدِّ كارهي المنافرات؛ لا طلبًا للسلامة، فتلك كلمةٌ لا محلَّ لها في معجم فِكَره، بل ترفعًا عن الدنايا ووضع النفس دون مواضعها، ولئن مُثِّلت صفة الترفُّع عن الصغائر والعلوِّ بالنفس عن كل موطن للإسفاف بشرًا، فما أراها كانت ستلقى خيرًا منه رحمه الله في زماننا.

كان من أهل التواضع الحق، يزداد تواضعًا كلما لمس من مقابله تلطُّفًا، وإن يكن في مواطن أخرى رجلًا هو الحزم والشدَّة عينهما، مع حفاظه على ضوابطه الخلقية والإنسانية كلِّها، وفي جمعه بين أطراف ذلك التي يعدُّها بعضهم من المتناقضات كان نسيجَ وحده.

وفي عمله بالتراث كان كذلك نسيجَ وحده، بل لعلَّه بذل من الجهد فيما عمل به ما لم يبذل أحدٌ من أساتذته أو أقرانه أو طلابه من بعد، وتلك ميزته في عالم التحقيق التي سبق بها من حوله.

وإن يكن العلامتان محمود محمد شاكر وأحمد راتب النفَّاخ قد تميَّزا في فكِّ العبارات الشامسة والوقوف على مفاصل الكلام وسعة العلم والفهم الشامل لتراث الأقدمين، فإن الدكتور عدنان قد تفوَّق في الجهد الذي كان يبذله في كل عمل يصنعه أو يشرف عليه، وفي الملاحظة وإعمال النظر والدأب على العمل، والنشاط العجيب والهمَّة التي لا تكل، اللذين حملاه غير مرَّة على ركوب الأعمال الجافة المجهدة، حتى أنجز كتبًا ما كان لغيره أن ينجزَها؛ كتاريخ ابن قاضي شُهبة الذي ما كانت لتحمل عِبأه مؤسسة كاملة، فكيف بشابٍّ ضاوٍ يعدُّ دراساته العليا كما كان أبو أحمد رحمه الله يوم أنجزه؟!

ولإخلاصه للعلم وتقديره لأساتذته حقَّق كتبًا لم يُجعَل اسمه على غلافها، على أن عمله فيها فاق عمل أساتذته الذين طُرِّزت أسماؤهم، ولم يلقَ من ذلك أي حرج أو غضاضة في نفسه.

وإن يكن لم يسعَ إلى التدريس في الجامعة، فإنها هي التي سعت إليه، وكيف لجامعة دمشقَ أن تضيعَ خبرة عريضة في المكتبة العربية كخبرته، وهو علم خدمة التراث والفهرسة والتحقيق؟! فدرَّس مادة المكتبة العربية لطلاب قسم اللغة العربية بكلية الآداب بجامعة دمشق عدَّة سنوات، نهلوا فيها من خبرته وعلمه الشيء الكثير، وكان منهجه في تعليمهم منهجَ الأساتذة الكبار، يحاضر عليهم رؤوسَ أقلام، ثم يردُّهم عند التحضير والدراسة إلى المراجع والأصول والكتب الأمَّات.
وقد حصَّلت فترة تدريسه تلك في الجامعة صدًى طيبًا لدى المدرِّسين والطلاب جميعًا، حتى رغب بعض زملائه من كبار الأساتذة أن يحضُروا محاضراته مع طلبتهم جنبًا إلى جنب.

أما غرفته بوزارة الثقافة فلقد كانت مقصدَ كل طالب أو سائل أو راغب في لقياه، فلا يُعرض عن أحد ولا يبخل على شخص مهما صغُر شأنه بمشورة، دائمَ الودِّ والابتسام لكل مقبل، جاهدًا في تلبية طلباتهم ومساعدتهم أيًّا تكون حالهم.

كذلك كان علَمًا، علَمًا لا في علمه الغزير فحسب، بل في خُلُقه ومبادئه التي عضَّ عليها بناجذيه والتزمها حتى طواه الردى وهو على ما هو، العزَّة كلها والحزم كله والصدق كله.

ولئن كان هذا العالَم الفاسد قد ضيَّق عليه الخناق طويلًا وتركه يعاني صدامَ مبادئه السامية مع زراية الواقع من حوله، فإن في العالَم الذي حلَّقت روحُه نحو عليائه محلًّا طيبًا لأصحاب النفوس النقية والمبادئ المخلَصة أمثاله.

أبا أحمد ....

رحلتَ عنا، وذلك ديدن أمثالك، لا لأننا لم نؤتهم حقَّهم، بل لأننا أصلًا لم نكن نستحقُّهم.

أبا أحمد،

عليك السلام كلَّما أشرقت شمسٌ أو لاح غسق.

ولا زال رَيحانٌ ومِسكٌ وعَنبرٌ        على  مُنتَهاه  ديمةٌ ثمَّ هاطلُ

ويُنبت حوذانًا  وعَوفًا  منوَّرًا        سأُتبعه من خير ما قال قائلُ

العالم المحقِّق د. عدنان درويش رحمه الله

الذي وافته المنيَّة في 29 رجب 1435هـ

الموافق لـ 28 / 5 / 2014م