فارس الخوري (1)
فارس الخوري (1)
الوطنية - العروبة - الإسلام
فارس الخوري |
تأليف: المحامي محمد عنجريني |
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
وصل الصراع مع العدو الصهيوني أعلى درجاته بحيث أصبح يهدد الحضارة العربية والإسلامية، ورافق هذا الصراع قيام مؤامرة كبيرة على الإسلام ودعاته وصلت إلى حد الإبادة الجماعية لرجال الحركة الإسلامية.
إن أصعب العقبات التي تعثر طريق العرب والمسلمين في صراعهم الحضاري، هو الضبابية وعدم وضوح الرؤية، وكان لابد من استنطاق التاريخ القديم والحديث، واستخراج المادة التي تساهم في وضوح الرؤية وشفافيتها، والبحث عن أحجار الصّوى التي تحدد معالم الطريق الذي يجب سلوكه في هذا الصراع.
فالظرف لم يعد يحتمل التجارب، فما مر على الأمة العربية من تجارب في السياسة والحكم مزقت كياناتها، ودمرت شخصيتها، وقادتها إلى الحافة التي هي الآن على حدودها.
إن دراسة التاريخ القديم والحديث، وسير الرجال، وخاصة رجال السياسة الذين مارسوا العمل السياسي في تقلدهم المناصب الرفيعة، وكتبوا عنها، والاطلاع على آرائهم وتجاربهم، ينير الطريق أمامنا.
وإذا استعرضنا رجال السياسة في العصر الحديث، نرى أن من أبرزهم الأستاذ فارس الخوري.
فهو العالم وأستاذ الجامعة الذي تخرج على يديه صفوة المفكرين والعلماء والقادة في بلاد الشام.
وهو السياسي الذي بدأ نضاله السياسي من عضو في مجلس المبعوثان في الآستانة، إلى رئاسة مجلس النواب في سورية الذي ترأسه أربع مرات، كان آخرها عام 1954.
وهو الدبلوماسي الذي كان ممثلاً لسورية والعرب في المحافل الدولية وساهم في الجهود الكبيرة لاستقلال سورية، وجلاء الجيوش الأجنبية عنها وانتخابها في عضوية مجلس الأمن، وترؤسه لمجلس الأمن مرتين.
وهو المناضل الذي دخل السجون، وساهم في تأسيس الكتلة الوطنية. لقد قال عنه الأستاذ محمد الفرحاني:
"ما انفرجت شفتا مواطن في دنيا العروبة كلها عن صيحة استغاثة أو نداء خافت، أو أنين مكبوت، إلا وكان له صدى سريع في قلب الفارس (النبيل) فقد كان في طليعة المناضلين أمام جميع الحوادث التي تعرض لها العرب منذ أواخر الحكم العثماني، حتى بداية عهد الانتداب الفرنسي، كما كان في طليعة من يدفعون ثمن البطولات إذ سجن مراراً، واعتقل تكراراً، ونفي واضطهد وعُذِب وشُرِّد."(1)
وقال عنه شيخنا الجليل علي الطنطاوي: (إني أحس بالشوق الملح الذي يبديه شبابنا ، وفتياتنا، وناشئتنا الذين لم تتح لهم معرفة فارس الخوري عن قرب، لدراسة عظمة هذا الرجل، وحقيقة نظرته إلى الحياة، وسيرته في المجتمع، وما يـؤمن به في داخلية نفسه" ويصفه بأنه:
"أحد عباقرة العرب في هذا العصر... العالم الشاعر الخطيب في العربية والإنكليزية"(2)
أثناء قراءتي لكتاب الأستاذ ظافر القاسمي (نظام الحكم في الشريعة والتاريخ) شدتني فقرة عن رأي فارس الخوري في بحث النيابة العامة يقول فيها:
"إن الغربيين يدلّون علينا بأنهم هم أصحاب فكرة النيابة العامة، فهم وضعوها أو اخترعوها، وقلدهم الناس فيها، مع أن في القرآن الكريم آية فيها كل معاني النيابة العامة، هي: من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً وكان يضيف: تصوروا أن إنساناً أراد أن يقتل الناس جميعاً، فماذا يفعل جميع الناس؟ إنهم يهبّون جميعاً لقتله، وحيث إن ذلك مستحيل، لذلك فإنهم ينيبون عنهم واحداً يتولى قتله، هو النائب العام"(3).
ثم يعلق الأستاذ ظافر القاسمي قائلاً: "وكان ذلك من تخريجاته الحسنة التي تدل على فكرة الحقوقي المتسع الآفاق، وعلى تفهمه العميق لكثير من أسرار الشريعة الإسلامية"(4) ويقول: "لقد سمع هذا الرأي منه آلاف الطلاب كما سمعته منه(5) كما رأيت في كتاب الشيخ محمد الغزالي (حقوق الإنسان بين تعاليم الإسلام وإعلان الأمم المتحدة) أنه نقل عن فارس الخوري آراء في الإسلام وفي الصهيونية.
ولقد ثابرت في البحث عن معلومات أوسع عن الأستاذ فارس الخوري حتى كدت أيأس من العثور على شيء يروي عطشي، لمعرفة هذا الرجل العبقري، إلى أن أسعفني الأستاذ عبد الله الطنطاوي بكتاب من تأليف الأستاذ محمد الفرحاني وعنوانه (فارس الخوري وأيام لا تنسى) وكان الأستاذ محمد الفرحاني تلميذاً للأستاذ فارس الخوري وملازماً له، وقد دوّن في هذا الكتاب ما سمع من الأستاذ فارس الخوري من أحاديث وآراء، وما نثر عنه من أعمال . والكتاب يتألف من (500) صفحة، وكان كتاب الأستاذ الفرحاني هو المصدر الأساسي والمرجع الرئيسي لبحثي في هذا الكتاب. ولما كان جيلنا وشبابنا وفتياتنا وناشئتنا -كما يقول أستاذنا علي الطنطاوي- لم تتح لهم معرفة فارس الخوري ونظرته إلى الحياة، وخاصة فيما له صلة بالوطنية والعروبة والإسلام، وآرائه في اليهودية والصهيونية، وبما أنّ العاملين في حقل السياسة والإعلام بأمس الحاجة لمعرفة رأي فارس الخوري في الموضوعات المشار إليها أعلاه، لمعرفة مسار الصراع مع العدو الصهيوني، والمتآمر الدولي على الأمة العربية والإسلامية، والحفاظ على الحضارة العربية والإسلامية، لذلك فإنني اقتصرت في هذا الكتاب على بحث ثلاثة أبواب، هي: فارس الخوري والوطنية، وفارس الخوري والعروبة، وفارس الخوري والإسلام.
فارس الخوري في سطور:
- ولد في 20 من تشرين الثاني 1873 في قرية الكفير بمنطقة حاصبيا التابعة لولاية سورية في العهد العثماني، وهي اليوم من الأراضي اللبنانية، وكان والده يعقوب بن جبور الخوري نجار القرية الوحيد.
- كان المرسلون الأمريكيون قد أنشؤوا مدرسة ابتدائية في قرية (الكفير) فكان فارس الخوري أحد تلاميذها، ثم انتقل إلى مدرسة (صيدا) الأمريكية الداخلية.
- عيّنه المراسلون الأمريكيون معلّماً في قرية (مجدل شمس) عام 1892 ثم نقلوه إلى صيدا عام ،1893 ثم دخل الكلية الأمريكية، وكان اسمها: الكلية الإنجيلية السورية عام 1894 وحاز على بكالوريوس في العلوم عام 1897 وكانت شهادة ثقافية عامة ليس فيها اختصاص..
- درس اللغتين: الفرنسية والتركية وحده بدون معلم، وبرع فيهما.
- أخذ يطالع الحقوق لنفسه، وامتهن المحاماة متمرناً في مكتب الأستاذ أمين زيدان، وتقدم بفحص معادلة الليسانس بالحقوق، فنالها، وأخذ إجازة في تعاطي المحاماة، ولم يكن تعاطيها يحتاج لشهادة جامعية يومذاك.
- في عام 1914 فاز بالنيابة عن دمشق في مجلس المبعوثان.
- في عام 1917 اعتقله جمال باشا بتهمة تعامله مع فيصل بن الحسين، ثم قرر نفيه إلى استنبول.
- في عام 1919 عُيّن عضواً في مجلس الشورى، وهو الذي اقترح على الشريف فيصل تأسيسه.
- سعى لتأسيس معهد الحقوق العربي الذي فتح أبوابه عام 1919 وكان فارس الخوري أحد أساتذته.
- في 8/3/1920 تولى فارس الخوري وزارة المالية في الوزارات الثلاث التي تألفت في العهد الفيصلي، ثم انصرف إلى العمل في المحاماة.
- في عام 1921 انتخب نقيباً للمحامين.
- في عام 1925 شارك في تأسيس حزب الشعب لتنظيم صفوف المواطنين لمقاومة الاستعمار الفرنسي.
- في عام 1926 وافق على الاشتراك في وزارة (الداماد أحمد) وزيراً للمعارف، بشرط تحقيق الوحدة السورية، ولما لمس نوايا الفرنسيين، استقال من الوزارة، فنفي إلى (الحسكة).
- شارك في تأسيس الكتلة الوطنية مع هاشم الأتاسي، وإبراهيم هنانو، وسعد الله الجابري، وتوفيق الشيشكلي.. وكان فارس الخوري نائب رئيس الكتلة الوطنية وشارك في إثارة مشاعر الشعب ضد الفرنسيين وكان يخطب في الجامع الأموي الكبير، وقد تساءل مرة الاقتصادي الكبير محمد سعيد الزعيم: "أحقاً هذا الخطيب المفوّه المتحدّث عن القرآن ومحمد والوطن والحمى (خوري) أم شيخ الإسلام؟ وهل كنيته هذه للتمويه والتستر؟"
- في 1_/12/1936 أجريت الانتخابات النيابية في سورية، وتم انتخاب الأستاذ فارس الخوري نائباً عن دمشق، كما انتخب رئيساً لمجلس النواب بالإجماع.
- في 17/8/1943 انتخب فارس الخوري رئيساً للمجلس النيابي الجديد.
- في تشرين الأول 1944 استقال من رئاسة المجلس ليشكل الوزارة السورية، وفي عهد وزارته تم التوقيع على ميثاق الجامعة العربية.
- في 29/3/1945 أعلنت سورية الحرب على دولتي المحور ألمانيا واليابان تمهيداً لحضور سورية مؤتمر سان فرنسيسكو ولدخولها منظمة الأمم المتحدة.
- في 7 نيسان 1945 شكل وزارته الثانية.
- في 10 نيسان 1945 تشكّل وفد سورية إلى مؤتمر سان فرنسيسكو برئاسة فارس الخوري وفي 2/5/1945 ألقى خطبته باللغة الإنكليزية فنال تقدير العالم، وأضحى من الشخصيات الكبرى المعروفة في أوساط الأمم المتحدة.
- في 29/6/1945 منحته جامعة كاليفورنيا الدكتوراه الفخرية في الخدمة الخارجية.
- في 26 آب 1945 شكّل وزارته الثالثة.
في 24/11/1945 انتخب رئيساً للمجلس النيابي.
- في 31/12/1946 انتخبت سورية لعضوية مجلس الأمن لمدة سنتين، وفي آب 1947 ترأس فارس الخوري مجلس الأمن.
- في حزيران 1948 ترأس أيضاً مجلس الأمن للمرة الثانية.
- في تشرين الأول 1954 كلف فارس الخوري بتشكيل الوزارة(6) للمرة الرابعة.
الباب الأول: فارس الخوري والوطنية
الفصل الأول: فارس الخوري والدولة العثمانية
أولاً: تعرُّضه للاضطهاد من قبل جمال باشا:
لقد تعرض فارس الخوري للاضطهاد من قبل جمال باشا لتصدّيه لجمعية الاتحاد والترقي، ففي عام 1914 رشح فارس الخوري نفسه للنيابة في مجلس المبعوثان في الآستانة عن مدينة دمشق، وقد فاز في هذه الانتخابات، وبدأ نجمه يلمع في سماء الآستانة من خلال نشاطه في مجلس المبعوثان، فكان يعارض ويناقش ويستجوب ويخطب ببيان أخاذ واضح، وحجة قوية، وكان حماس الشباب جعله يندفع ويتجاوز الخطوط الحمر في تصديه لزعماء الاتحاديين (طلعت وأنور وجاويد) وصادف أن جاء إلى الآستانة الشيخ (أسعد الشقيري) لمشاهدة الأعمال الحربية في مضيق الدردنيل وكان مفتياً للجيش العثماني الرابع، ومن أقرب المقربين لجمال باشا قائد الجيش الرابع، وكان يزور مجلس المبعوثان ويسمع مناقشات فارس الخوري ونجاحها في معالجة القضايا المهمّة، فصار الشقيري يحرّض عليه بقية النواب العرب، ويقول لهم: "ألا تخجلون من تفوق هذا النائب النصراني عليكم؟" فجاء مبعوث القدس السيد راغب النشاشيبي إلى زميله فارس الخوري يحذّره مما قد ينصب له الشيخ أسعد من الحبائل لدى صديقه جمال باشا. ولما عاد الخوري إلى دمشق استدعاه توفيق حلبي وكيل والي دمشق في حزيران 1916 وأخبره بأن السلطة العسكرية قبضت على شاب فار من الجيش يدعى عبد الغني الرافعي ولدى تفتيشه وجدت معه أوراق تشعر بوجود جمعية متفقة مع الشريف فيصل بن الحسين على إحداث ثورة في البلاد، وهذا الشاب يزعم أنك من أعضاء هذه الجمعية، وفي تلك الليلة ذهب فارس الخوري إلى دائرة البوليس، وأدلى بإفادته، وسئل عن خطبة خطبها في حفلة في استنبول وطالب بحقوق العرب وزعم أن الترك يهضمون حقوق العرب فأجاب:
"حضر هذه الحفلة وزراء الدولة وأركان الاتحاديين وأكثر النواب العرب والجميع سمعوا خطابي ولم يجدوا فيه بأساً بل وافقوني على كل كلمة فيه" وفي الصباح استدعي إلى مقابلة جمال باشا فابتدره جمال باشا بلهجة جافة يرافقها الغضب وقال:
- ألا تذكر ما قلت لك يوم قابلتني حين تجرأت أن تدافع عن أصحابك الخونة؟ لقد قلت لك: إن صفحتك ملوثة، وعليك أن تهتم بتنظيفها... إنك أقررت بصورة غير مباشرة بصلاتك مع هؤلاء الخونة.. ألم تقل: إن الرافعي قابلك وصرح لك بوجود جمعية تتهيأ للانتقام؟ فلو كنت مخلصاً لأسرعت وأخبرتني، لأن فيصل كان في قبضة يدي يراوغني ويخدعني وكان أخوه علي في متناول يد الحكومة في المدينة، فلو أنك أخبرتني لحجزتهما رهينة عندي، فلا يجرؤ ذلك الشيخ الخرف والدهما على إعلان العصيان، وولداه في قبضة يدي. أرأيت عظم الشر الذي جنيته على الدولة والوطن بسكوتك وإخفائك الجرم؟ فلو أنك جاهل لعذرتك، ولكنك عاقل، ومبعوث في البرلمان، وتقدر العواقب.
وقد أمر جمال باشا باعتقاله في خان الباشا.وفي المعتقل شاهد أربعين معتقلاً منهم: شكري القوتلي، وعمر الرافعي، وزكي العظمة، ورشيد الرافعي، وشكري الأيوبي.
كان فارس الخوري يستثمر جميع قواه العقلية والنفسية لأجل الدفاع عن نفسه، ولم تكن السلطة تسمح لأحد بأن يتصل به أو يزوره إلا مرة في الشهر.. سمحوا لزوجته أسماء ولطفله الصغير سهيل الخوري بوجود رقيب.
وبعد أربعة أشهر في السجن تقرر إخلاء سبيله بكفالة. وفي 17 من كانون الثاني أعيد إلى السجن بسبب إدانته من قبل الهيئة الاتهامية.
وبدأت المحاكمة واتسع المجال لفارس الخوري لمناقشة الشهود والدفاع عن نفسه ببلاغة وحجج دامغة، وقد تراجع بعض الشهود عن شهاداتهم، وقال أحد الشهود:
- كل الذي قلته في التحقيق زور وبهتان، لقّنني إياه الجلادون وأجبروني على تلاوته. أستغيث بالله وبمولانا السلطان.
واندفع الشاهد يبكي.
وفي 29 كانون الثاني 1917 أصدر الديوان العرفي قراره ببراءة فارس الخوري، وإطلاق سراحه. وقد أمر جمال باشا بأن يغادر فارس الخوري دمشق، وفرض عليه إقامة جبرية في إستامبول(7).
ثانياً - موقف فارس الخوري من السلطان عبد الحميد
هناك معلومات وثيقة تؤكد أن الحقيقة الظاهرة في تكوين جمعية الاتحاد والترقي أنها غير تركية وغير إسلامية، فمنذ إنشائها لم يظهر بين قادتها وزعمائها عضو واحد من أصل تركي خالص. فأنور باشا مثلاً هو ابن رجل بولندي، وجاويد من الطائفة اليهودية المعروفة (بالدونمة) وقارصوه من اليهود الإسبان القاطنين في سلانيك، وطلعت باشا بلغاري من من أصل غجري. أما أحمد رضا وهو من زعمائهم في تلك الفترة، فقد كان نصفه شركسياً والنصف الآخر مجرياً(8).
ففي 11 من تموز (يوليو) عام 1911 أوردت صحيفة التايمز معلومات عن جمعية الاتحاد والترقي بقولها: إن لجنة سلانيك قد تكونت تحت رعاية ماسونية بمعاضدة اليهود والدونمة في تركيا وكان مركزهم في سلانيك، وأن يهود مثل قارصوه وسالم وساسون وقارجي ومازلياج ومن الدونمة مثل جاويد وأسرة يالجي قد لعبوا دوراً بارزاً في تنظيم اللجنة المذكورة ومن مناقشات جهازها المركزي في سلانيك وقد لعب طلعت باشا دوراً في أدرنة فقد كلف بنقل الرسائل السرية من وإلى سلانيك ومناستر وتكشف "الأسرار" بأنه بذل مجهوداً عظيماً في نشر نفوذ الاتحاديين واستعان على ذلك بالبنّائين الأحرار يبشر بالعصبة... فأيدها البنّاؤون الأحرار ودعموها بنفوذهم(9) وقد استطاع فرع جمعية الاتحاد والترقي في سلانيك إخفاء أهدافها وتحركاتها في البدء لأن جمعية البنّائين الأحرار التي جعلت شعارها الاتحاد والترقي ودبرت أمرها تدبير (من طب لمن حب - تستعين على قضاء حاجتها بالكتمان الشديد فتنقل أسرارها شفاهاً(10).
لذلك التبس أمر جمعية الاتحاد والترقي على كثير من العاملين في الحقل السياسي الوطني وانخدعوا بشعاراتها البراقة ومنهم الأستاذ فارس الخوري لذلك نظم قصيدة إثر إعلان الدستور العثماني وهجا فيها السلطان عبد الحميد الثاني وكان مطلعها:
الله أكبر فالظلاّم قد علموا لأي منقلب يفضي الألى ظلموا
إلا أنه لما ذاب الثلج وبان المرج وظهرت الأمور على حقيقتها ندم الخوري على ذلك وقال ما نصه:
"لم أندم في حياتي على شيء ندمي على (القصيدة) التي نظمتها إثر إعلان الدستور العثماني وهجوت فيها السلطان عبد الحميد الثاني حيث تأكد لي فيما بعد بما لا يقبل الجدل: أن هذا الخليفة الإسلامي قد راح ضحية ثأر اليهودية العالمية التي ساءها رفضه لاقتراح ثيودور هرتزل، واتخاذه مختلف الوسائل لمنع اليهود من الهجرة إلى فلسطين، ووضعه قانون (الجواز الأحمر) الخاص بكل يهودي يدخلها للسياحة والزيارة، ومنعه إياهم من تملك الأراضي، مما أدى لحنقهم عليه، وشروع منظماتهم بالعمل مع الدول الاستعمارية على مناوأته شخصياً، وعلى كيان الدولة العثمانية، يوم اتخذوا من مدينة (سلانيك) وكراً رئيسياً لدسائسهم ومؤامراتهم، لأن هذه المدينة تضم عدداً كبيراً من (الدونمة) اليهود الذين انتحلوا الإسلام، وتظاهروا باعتناقه والعمل له، وتغلغلوا بواسطة ذلك في مختلف وظائف الدولة العثمانية حتى تمكن فريق منهم من بلوغ أعلى المناصب، فكان منهم الوزراء والنواب والصحفيون والكتّاب والأساتذة والتجار... وكان أحد الثلاثة الذين انتدبهم مجلس المبعوثان لإبلاغ السلطان عبد الحميد الثاني قرار خلعه عن العرش، نائب يهودي يدعى (عمانوئيل قره صوه أفندي)(11).
الفصل الثاني
فارس الخوري ودعمه للحكومة الفيصلية
كانت عودة فارس الخوري إلى دمشق متوافقة مع اقتراب الحلفاء من ضواحيها، وأتيح له أن يشهد رفع العلم العربي لأول مرة على سارية دار الحكومة بدمشق في 30 من أيلول 1918 كما أنه ألقى كلمة بليغة في هذا الاحتفال، واختاره الأمير سعيد الجزائري عضواً في حكومته العربية المؤقتة التي لم تعمر سوى أيام معدودة، وهي أول حكومة عربية تعلن بعد جلاء العثمانيين عن دمشق، وكان أول ما فعله أن ذهب مع شكري باشا الأيوبي إلى سجن القلعة بدمشق، وأطلق سراح جميع السجناء.
وفي 5 من تشرين الأول 1918 نادى السوريون بفيصل بن الحسين ملكاً على سورية، إلا أن اتفاقية سايكس - بيكو وتقرير الانتداب الفرنسي على سورية في 23 من نيسان (أبريل) حالتا دون استقرار هذا العرش، بعد فشل معاهدة (فيصل - كلمنصو) في باريس في 6 من كانون الثاني (يناير) 1920 ورفضها الشعب السوري. وتطورت الأحداث التي انتهت بمعركة ميسلون بين الوطنيين والجيش الفرنسي بقيادة غورو ودخول الجيش الفرنسي سورية في 24 تموز 1920 وفي 27 تموز 1920 أنذر غورو الملك فيصل بمغادرة سورية في الحال فغادرها.(12).
وخلال هذه الفترة بين 5/10/1918 و 27/7/1920 وكانت فترة حاسمة في تاريخ سورية، كان حضور فارس الخوري وعطاؤه مميزاً فقد اقترح على الملك فيصل تأسيس مجلس شورى يتمتع بصلاحية التشريع، وعُيّن فارس الخوري عضواً في المجلس المذكور.
كما سعى لتأسيس معهد الحقوق العربي، حيث فتح المعهد أبوابه في شهر أيلول 1919 وكان فارس الخوري أحد أساتذته كما اشترك في تأسيس المجمع العلمي العربي بدمشق.
و8 من آذار 1920 تولى فارس الخوري وزارة المالية خلال الوزارات الثلاث التي تألفت خلال العهد الفيصلي(13)
لقد كان هناك خلاف في الرأي بينه وبين الملك فيصل على مبدأ إعلان الملكية في سورية إلا أن هذا الخلاف لم يكن مانعاً لفارس الخوري من بذل كل ما يستطيع من دعم وسند للعهد الفيصلي. لقد روى فارس الخوري بنفسه عن هذا الاختلاف (وأنه سأله مرة بقوله:
"يا مولاي.. هل هناك دولة عظمى توافق على الاعتراف بك ملكاً على سورية؟
فأجابه الشريف فيصل:"
يجوز أن الإنكليز سيوافقون"
فلم يقتنع فارس الخوري، وذهب إلى ممثل إنكلترا وسأله عن رأيه في الموضوع، فأجابه الممثل البريطاني بأن لا موافقة هناك، وأضاف قوله:
"لا نقاومكم ولكن الأمر على مسؤوليتكم"
وعاد إلى الشريف فيصل يخبره بالأمر فأجابه الشريف: "إن سبب عدم موافقة الإنكليز يرجع إلى أن فرنسا تريد أن تحتل سورية، ولذلك فهم يرجئون اعترافهم إلى ما بعد اعتراف الفرنسيين بالعرش السوري!!".
ربما كان فيصل يرى أن الدول الكبرى سوف تسلم بالأمر الواقع بعد إعلان الاستقلال والمناداة بالملكية لأن السوريين يبايعونه، ولكن الحلفاء لم يعترفوا بهذا الاستقلال، وإنما كانوا يعتبرون فيصلاً أميراً هاشمياً يدير البلاد بصفته قائداً للجيوش الشمالية، وتابعاً (لماريشال اللنبي).
واستطرد فارس الخوري قائلاً:
- (كنت في حيفا حينما استدعاني الملك فيصل للقدوم إلى دمشق على وجه السرعة، وكانت الملكية قد أعلنت، وقال لي: "لقد قررنا إدخالك في الوزارة كوزير للمالية" فأجبته بقولي: (أمرك يا مولاي) ولكن وزارة علي رضا باشا الركابي اختلفت مع الملك على السياسة الخارجية حينما استدعي جلالته من قبل وزير الخارجية البريطانية للتوجه إلى مؤتمر الصلح الذي كان منعقداً في باريس، وكان الملك يشترط لقبول هذه الدعوة أن يعترف به الإنكليز ملكاً على سورية، ويستقبلوه كما يستقبل الملوك في العادة، ووزارة الركابي تصر على أن يقبل الدعوة كيفما كان الحال، ويذهب إلى باريس ولندن من أجل المذاكرة بشأن سورية، إلا أن الملك كان يرفض بشدة.. وهنا استدعى الملك رئيس المؤتمر السوري السيد هاشم الأتاسي الذي كان يقوم برئاسة اللجنة المكلفة بوضع دستور للبلاد، وكلفه بتأليف حكومة دفاع وطني، فألفها، وحل محله برئاسة المؤتمر الأستاذ الشيخ رشيد رضا، وفي ذلك الحين كان خبراء الحزب يجمعون على القول أننا لن نستطيع الوقوف بوجه القوات الفرنسية أربعاً وعشرين ساعة، لنقص كبير في جيشنا وسلاحنا وذخيرتنا، فكانوا يشيرون على الملك فيصل بالمسايرة والملاينة، لعلنا نخرج من تلك الأزمة بسلام.. إلا يوسف العظمة رئيس أركان حرب الجيش الذي كان يعارضهم جميعاً ويزعم أنه قادر بقواته على رمي جنود فرنسا في البحر.. وكان أن أخذ في الوزارة الأتاسية الجديدة وزارة الحربية، وما كادت تتضح الأمور حتى جئت إلى يوسف العظمة أسأله:
- هل إن الفرنسيين قد حطُّوا رحالهم في موقع (التكيّة) الذي لا يبعد عن العاصمة أكثر من أربعين كيلو متراً بعدد وعتاد لا قبل لنا به، فماذا أنت صانع؟ وكيف تحاربهم بلا سلاح؟!
فأجابني يوسف العظمة:
- إن خطتي هي أن أهاجم الفرنسيين بغتة، وأستولي على أسلحتهم وذخائرهم، وأحاربهم بها!!
فأجبته (والكلام مازال للأستاذ فارس الخوري):
- ولكن هذه مغامرة قد تصيب وقد تفشل، واحتمالات فشلها أكثر بكثير من احتمالات صوابها، فهل يجوز لنا أن نعرّض سلامة البلاد للخطر في مغامرة يائسة من هذا النوع؟! على ماذا كنت مستنداً في أقوالك: إنك قادر على رمي الفرنسيين في البحر؟!
فأجابني يوسف العظمة رحمه الله:
- كنت أريد بهذه الأقوال الإبقاء على معنويات جنودي قوية، وإرهاب الفرنسيين كي لا يقوموا بعمل شيء ضدنا!!(14)
الفصل الثالث
نضال فارس الخوري لتحرير سورية
أولاً: انضمامه إلى الوطنيين
في مطلع 1925 نشطت الحركة الوطنية على أثر تعيين الجنرال ساراي مفوَّضاً سامياً على سورية، فرأى الوطنيون أن ينظموا صفوفهم، ويوحدوا آراءهم، فباشروا بتأسيس حزب الشعب، وكان فارس الخوري من المؤسسين لهذا الحزب، وهو الذي وضع نظامه، وكان نائباً لرئيسه الدكتور عبد الرحمن الشهبندر، وكان من أقطابه حسن الحكيم وفوزي الغزي، وسعيد حيدر.
وفي عام 1928 شارك فارس الخوري في تأسيس الكتلة الوطنية وكان من أهم رموزها: هاشم الأتاسي، وإبراهيم هنانو، وجميل مردم بك، وسعد الله الجابري، ولطفي الحفار، ومظهر أرسلان، وحسني البرازي، وتوفيق الشيشكلي، وأصبحت الكتلة الوطنية نقطة الارتكاز في المقاومة الوطنية لنيل سورية استقلالها، وعلى أثر نشوب الثورة في جبل الدروز بقيادة سلطان باشا الأطرش، ووقوف رجال الحركة الوطنية إلى جانب هذه الثورة، أقدم الفرنسيون على اعتقال الأستاذ فارس الخوري، وفوزي الغزي، وعدد كبير من رجال الحركة الوطنية، وتم نفيهم إلى جزيرة أرواد.
كان للثورة السورية وما تلاها من تدمير لمدينة دمشق أثر على الضمير العالمي، مما اضطر الحكومة الفرنسية إلى سحب ممثلها الأحمق الجنرال ساراي وتعيين بديل عنه، هو (المسيو دي جوفنيل) الذي هو أول مفوّض سام مدني لفرنسا في سورية ولبنان، وهذا المفوّض السامي الجديد استقر رأيه على تشكيل حكومة جديدة تشرف على إجراء مفاوضات مع فرنسا وعقد معاهدة معها، وكان الإجماع في البلاد السورية على المطالبة باستقلال البلاد ووحدتها، فكلف (الداماد أحمد نامي بك) (صهر السلطان العثماني عبد الحميد الثاني) بتشكيل الوزارة وفي 14 أيار 1926 شكلت الوزارة وكان فارس الخوري وزيراً للمعارف، وكان من جملة الشروط التي دخل الوزراء الوطنيون الحكم على أساسها وهم: (فارس الخوري، حسني البرازي، لطفي الحفار) العمل على تحقيق الوحدة السورية، وعدم مقاومة الثائرين، وبدأت المفاوضات مع (دي جوفنيل) واتفقوا على برنامج يضمن حقوق سورية وكرامة فرنسا وسافر المفوض السامي إلى باريس لكي يقنع حكومته بالعمل بهذا البرنامج، ولكنه فشل فاستقال هناك ولم يعد، حينئذ لمس الوزراء الوطنيون سوء نوايا الفرنسيين ومخالفتهم للشروط المتفق عليها فاستقالوا من الوزارة في 12 حزيران 1926 وفي اليوم التالي (13 حزيران) سيق الوزراء المستقيلون إلى (الحسكة) كمنفيين ومعهم عدد من رجال الحركة الوطنية، وأمضوا هناك مدّة ثمانين يوماً وقد ساءت صحتهم من شدة الحرارة التي كانت تصل إلى (48) درجة في الظل.
ثم نقلوا إلى أميون الكورة في لبنان في أيلول ،1926 وفرضت عليهم الإقامة الجبرية خارج سورية حتى 18 شباط 1928 ولما عادوا إلى دمشق استقبلوا استقبالاً عظيماً من قبل الشعب السوري.
لقد قادت الكتلة الوطنية حركة المعارضة والمقاومة السلبية ضد الفرنسيين، وكانت أكثر الهيئات السياسية توفيقاً وفوزاً مدة تقارب العشرين عاماً، حتى أنها كانت الهيئة السياسية الوحيدة في عهد الجهاد ضد الانتداب، وكان فارس الخوري نائب رئيسها وعرقها النابض ولسانها الناطق وهو الذي كان يضع قراراتها ويكتب منشوراتها(15).
ثانياً: تحقيق الوحدة الإقليمية لسورية
كان من الأهداف الرئيسة التي قامت عليها الحركة الوطنية تحرير سورية من الاستعمار الفرنسي، وتحقيق الوحدة السورية، فمنذ أن احتلّ غورو سورية عام 1920 أصدر قراراً بتقسيم سورية إلى أربع دويلات طائفية: دولة الدروز في الجنوب، ودولة دمشق في الوسط، ودولة حلب في الشمال، ودولة العلويين في الغرب وكان من جملة الشروط التي دخل الوزراء الوطنيون حكومة (الدامادا أحمد نامى بك) العمل على تحقيق الوحدة السورية. ففي 29 حزيران 1922 أصدر الجنرال غورو قراراً بتشكيل اتحاد سورية من دويلات حلب، ودمشق، والعلويين برئاسة السيد صبحي بركات وبتشكيل مجلس لهذا الاتحاد يؤخذ أعضاؤه من ممثلي الدويلات الثلاث فكان فارس الخوري أحد نواب دمشق في مجلس الاتحاد وكان معه الشيخ طاهر الأتاسي، ونجيب آغا البرازي، ومحمد علي العابد وسامي باشا مردم بك.
وعندما قرر المفوض السامي إنشاء مجلس تمثيلي لكل دولة بصلاحيات محدودة عيّنت دمشق انتخابات مجلسها، وأضربت، فأقامت السلطة الفرنسية مجلساً من أعوانها برئاسة السيد بديع المؤيد العظم ولكن الجنرال ويغاند الذي خلف غورو ألغى الاتحاد السوري وشكل دولة سورية في نهاية عام 1924 من دولتي حلب ودمشق، وفصلت منها دولتا العلويين وجبل الدروز.
وفي تموز 1933 شكل السيد حقي العظم الوزارة السورية وكان من أول مهامها النظر في شؤون المعاهدة التي اتفق على عقدها مع فرنسا، ولما كانت المعاهدة لم تحتو على أي اعتراف بالوحدة السورية، قررت الكتلة الوطنية رفض المعاهدة المعروضة، والانسحاب من المجلس النيابي، كما استقال الوزيران الوطنيان من وزارة حقي العظم وهما: جميل مردم بك، ومظهر أرسلان.
وعلى أثر وفاة المجاهد الكبير إبراهيم هنانو عام (1935) نظم رجال الكتلة الوطنية حفلاً تأبينياً له برئاسة فارس الخوري كان متنفّساً للخطباء الذين أفاضوا بما تكنه صدورهم من حب للحرية والاستقلال والوحدة، وخرج المحتفلون وهم كتلة حياة وعزم وثبات في المطالبة بحقهم المهضوم، ونشرت الكتلة الوطنية بياناً باسم الشعب ضمنته ميثاق الأمة القائم على أمانيها الصحيحة، وحقها المشروع بالوحدة والاستقلال، وما مرت أيام على صدور هذا الميثاق حتى أغلقت السلطة الفرنسية مكاتب الكتلة في دمشق وحلب، وألقت القبض على بعض رجالها، فأجاب الشعب (بالإضراب الستّيني) عن كل عمل وأغلقت المدارس، وأقفلت الأسواق وقامت المظاهرات، وجرى إحراق بعض حافلات الترام، وأنزل الفرنسيون قواتهم العسكرية إلى شوارع المدينة.
وفي 15 شباط 1936 أصدر المفوض السامي الفرنسي قراره بإقصاء فارس الخوري وشقيقه فائز الخوري عن منصبيهما كأستاذين في معهد الحقوق، وما كاد يمضي على هذا الإقصاء أسبوع واحد حتى اضطرت الحكومة الفرنسية للإذعان فأوعزت إلى رئيس الوزراء الشيخ تاج الدين الحسني بالاستقالة، وعهد إلى السيد عطا الأيوبي بتأليف وزارة انتقالية، وتوجه وفد إلى بيروت من أعضاء الوزارة الجديدة ومندوبين عن الكتلة الوطنية فاجتمعوا بالمفوض السامي ومعاونيه في 29 شباط 1936 وجرى الاتفاق على أساس اعتراف فرنسا باستقلال سورية ووحدتها.وقد تألف الوفد المفاوض برئاسة هاشم الأتاسي وعضوية فارس الخوري، وجميل مردم بك، وسعد الله الجابري، من أركان الكتلة الوطنية، ومصطفى الشهابي وأدمون حمصي من رجال الحكومة وفي 21/3/1936 سافر الوفد إلى باريس وفي 9 أيلول من ذلك العام تم التوصل إلى اتفاق ووقعت المعاهدة السورية الفرنسية في 22 تشرين الأول 1936 ونشرت نصوصها وقد تضمنت المعاهدة استقلال سورية ووحدة أراضيها.
وفي 13 أيلول 1941 أعلن نبأ اختيار الشيخ تاج الدين الحسني رئيساً للجمهورية السورية وتألفت الوزارة السورية برئاسة حسن الحكيم الذي حصل في بداية حكمه على تصريح 27 أيلول المشهور الذي أذاعه الجنرال كانروا باسم فرنسا الحرة معلناً انتهاء الانتداب واستقلال سورية وسيادتها، كما تمكن حسن الحكيم من إعادة محافظتي اللاذقية وجبل الدروز إلى الوطن الأم (سورية) وذلك في كانون الثاني 1942وبذلك حقق الوطنيون السوريون وحدة سورية والقضاء على التجزئة الإقليمية التي فرضها عليها الاستعمار الفرنسي(16).
ثالثاً: الوحدة الوطنية
وكما عمل الاستعمار الفرنسي على تجزئة الوطن السوري الواحد إلى أربعة أجزاء طائفية وإقليمية عمد أيضاً إلى إثارة النعرات الدينية والفتن الطائفية، واعتمد سياسة التمييز في المعاملة بين المسلمين والمسيحيين، وحاول التغرير ببعض المواطنين المسيحيين ليتعاملوا معه على هذا الأساس، إلا أن الوحدة الوطنية التي جمعت بين المسلمين والمسيحيين والتي تقوم على قاعدة متينة عند المسلمين مرتكزة إلى كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم (لا إكراه في الدين قد تبيّن الرشد من الغيّ)(17) (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبرّوهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين)(18).وعلى حياة مشتركة بين الجانبين من خلال حوالي ألف وأربع مئة سنة إذ إن الكنائس التي كانت مبنية قبل الإسلام ما زالت قائمة بحماية المسلمين وحماية العقيدة الإسلامية، لذلك كان لابد من أن يتحرك الرجال الأفذاذ والشرفاء من المسيحيين ليشاركوا في الحركة الوطنية، وفي العمل لتحرير البلاد من الاستعمار، ولإلغاء التجزئة الإقليمية، وإعادة الوحدة إلى البلاد.
وكان من أبرز هؤلاء الرجال الأستاذ فارس الخوري.
لقد كانت دسائس المستعمر الفرنسي تقوم على تخريب الثقة بين المسلمين والمسيحيين، واستئجار عملاء من المسيحيين ليسيئوا إلى المسلمين بالقول والفعل، واستئجار عملاء من المسلمين ليسيئوا إلى المسيحيين بالقول والفعل، وكثيراً ما جرّ ذلك إلى الصدام الشعبي بين الطرفين، وكان لابد من وجود شخصيات مسيحية تستطيع كسب ثقة المسلمين، وذلك بقيامهم بأعمال وطنية عظيمة تثبت إخلاصهم، ونزاهتهم، وأن تحتل هذه الشخصيات مناصب مرموقة في قيادة العمل الوطني حتى يطمئن المسيحيون على أنهم جزء من المواطنين السوريين، وأن لهم حقوقاً وعليهم واجبات نحو الوطن السوري، كأي مواطن آخر، وأن وطنيتهم أصيلة، وليست طارئة، وأن يشعروا بمحبة الوطن والدفاع عنه والعمل على تقدمه وازدهاره، وأنهم مشاركون حقيقيون في تقرير مصيره.
لقد كان المرشح للقيام بهذا الدور هو العلامة الأستاذ فارس الخوري فهل ينجح في ذلك؟ لقد أدرك بثاقب نظره أن العمل في الحقل الوطني يحتاج إلى رأي عام متجانس يدرك قضيته بوضوح، ويتحمس لها عن اقتناع وفهم، وهذا لا يتيسر إلا بالمبدأ الذي يساوي بين أفراد الأمة في الحقوق والواجبات، والذي لا تجد التفرقة الدينية والمذهبية إليه سبيلاً، وإن التربية والتوجيه الذي لا يقوم على هذا المبدأ من شأنه أن يفتح المجال إلى النعرات الطائفية، لذلك اعتنق هذا المبدأ، فكان قائداً من خيرة قادة الرأي العام.
لقد كتب الداعية الإسلامي الكبير الشيخ علي الطنطاوي في مجلة الرسالة القاهرية عام 1947 يروي قصة معرفته بالأستاذ فارس الخوري، وأثر تلك المعرفة في نفسه.. قال:
"أقيمت في ردهة المجمع العلمي العربي في دمشق من نحو عشرين سنة (يقصد عام 1929) حفلة لتكريم حافظ إبراهيم، حضرتها أنا وأخي سعيد الأفغاني، وكنا يومئذ في مطلع الشباب، نقصد مثل هذه الحفلات لننتقد الخطباء، ونبتغي لهم المعايب، فمن لم نعب فكرته عبنا أسلوبه، ومن لم ننتقص إنشاءه انتقصنا إلقاءه، وقال فيها حافظ بيتيه المعروفين:
شكرت جميل صنعكم بدمعي ودمع العين مقياس الشعور
لأول مـرة قد ذاق جفــني على ما ذاقه طعم السـرور
وكان فيمن خطب رجل قصير القامة عظيم الهامة "جداً" أبيض الشعر ألقى قصيدة لا أزال أذكر منها:
ليالي التصابي قد
جفاني حبورها ولـمتي السوداء أسـفر نـورهاومن لي بإنكار الحقيقة
بعدمــا تجلى على وجهي وفودي نذيرهاتذكرت
أيام السرور التي مـضت فياليت شعري هل يعود سرورهاأسفت على عهد الشباب ولم تعـد
تثـــير فؤادي مقلة وفتـورهاوآذتني
الأيام مـن هوة الونـــى فأصبح مني قاب قوس شفيرهـاوكادت صروف الدهر تطوي صحائفي
وهل بعد هذا الطي يرجى نشورهاوكان صوته قوياً على انخفاض، مدوياً على وضوح، كأن له عشرة أصداء تتكرر معه، فتحس به يأخذك من أطرافك ويأتي عليك من الأقطار الأربعة، فتسمعه بأذنيك وقلبك وجوارحك، بل تكاد يدك تلمس فيه شيئاً.. على صحة في المخارج، وضبط في الأداء، وقوة في النبرات، وثبات في المحطات، واعتداد في النفس عجيب.. تشعر به في هذا الصوت الذي يكون له هذا الدوي كله، وهو يخرج من فمه باسترسال واسترخاء، لا يفتح له شدقه، ولا يحرك لسانه، ولا يمد نفسه، ولا يجهد نفسه، وملك به قلوبنا وقلوب الحاضرين، فصفقنا له حتى احمرّت منا الأكف!!
وقلت لسعيد: من هذا؟
قال: هذا فارس الخوري.
وكنت قد سمعت باسم "فارس الخوري" قبل ذلك بزمان، سمعت به مذ كنت تلميذاً في السنين الأواخر من المدرسة الابتدائية أيام الملك فيصل (1919) وكنا نعرفه علماً من أعلام السياسة وركناً في وزارة المالية، ولكني لم أره قبل هذه الحفلة.
ومرت الأيام، وخرجت من الثانوية، واشتغلت بالسياسة (كما كان يشتغل لداتي يومئذ) وصرت سنة 1931 رئيس اللجنة العليا لطلبة دمشق ومحرراً في الجريدة الوطنية الكبرى، جريدة "اليوم" التي كان يقوم عليها الكاتب الوطني الخطيب الأديب الذي علمنا تقديس الشرف، وتقدير الرجولة، (عارف النكدي) وكانت اللجنة تأتمر بأمر الكتلة الوطنية التي كان لها (في تلك الأيام) قيادة الأمة، وكانت هي وحدها تحمل لواء الجهاد، والعمل على الاستقلال، فكنت أتصل بكبار رجالها، وكنت أحضر بعض مجالسها، وهناك عرفت فارس الخوري من قرب، فوجدت فيه رجلاً وديعاً ظريفاً حليماً واسع الصدر ولكنه كان مع هذا كله هائلاً مخيفاً، تراه أبداً كالجبل الوقور على ظهر الفلاة، لا يهزه شيء، ولا يغضبه ولا يميل به إلى الحدّة والهياج، يدخل أعنف المناقشات بوجه طلق، وأعصاب هادئة، فيسدّ على خصومه المسالك، ويقيم السدود من المنطق المحكم، والنكتة الحاضرة، والسخرية النادرة، والعلم الفياض، والأمثال والحكم والشواهد، ويرقب اللحظة المناسبة، حتى إذا وجدها ضرب الضربة الماحقة، وهو ضاحك، ثم يمدّ يده ليصافح الخصم الذي سقط، لا يرفع صوته ولا يثور ولا يعبس ولا يغضب، ولكنه كذلك لا يفر ولا يغلب!! وما رأيته يناقش أحداً إلا شبهته بأستاذ يناقش تلميذاً مدللاً غبياً، فأنت تلمس في لهجته ولحظته وبسمته وكلمته، صبره عليه، وتمكنه منه، وإشفاقه عليه)(19).ولقد روى الاقتصادي الكبير محمد سعيد الزعيم عن فارس الخوري قوله:
"أول ما عرفت فارس الخوري في جامع بني أمية الكبير في حلب، كان يلهب مشاعر الجماهير في قضايا الوطن ومحاربة الانتداب الفرنسي، فيتساءل جمهور المسلمين في الجامع: أحقاً هذا الخطيب المفوّه البليغ المتحدث عن القرآن، وعن محمد صلى الله عليه وسلم وعن الوطن والحمى (خوري)؟ أم شيخ الإسلام؟! وهل كنيته تستراً، وهذا الرأس الكبير هل هو صاحب قلنسوة أم عمامة؟!"
واستطرد محمد سعيد الزعيم يروي:
"كان ذلك في عام (1928) وكان الزعيم (إبراهيم هنانو) يطفح وجهه بشراً لهذا التجاوب بين لسان فارس الخوري وأفئدة القوم، وكأنه في معركة من معارك الجهاد، وقد عقد له لواء النصر في الساح"(20).
لذلك فإن فارس الخوري لم يكتف بنضاله الوطني وعمله للوحدة الوطنية من خلال (الكتلة الوطنية) والمجالس النيابية والمناصب الوزارية وإنما كان يقف خطيباً في مساجد المسلمين، يعتمد في خطبه على الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية، وسيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسيرة السلف الصالح.
لقد عُيّن فارس الخوري مندوباً لسورية في مجلس الأمن وكانت سورية قد انتخبت في 11/12/1947 لعضوية مجلس الأمن لمدة سنتين وقد ترأس فارس الخوري مجلس الأمن مرتين الأولى في آب 1947 والثانية في حزيران 1948 ولما انتهت عضوية سورية في مجلس الأمن في نهاية عام 1948 قرر فارس الخوري العودة إلى وطنه.
وفي صباح الاثنين 10/1/1949 زحفت دمشق بجماهيرها الشعبية لاستقباله، وكان من بين المستقبلين شكري القوتلي وخالد العظم والشيخ بهجت البيطار وبعد أن انتهى من تحية مستقبليه سأل ولده (سهيلاً) عن طربوشه، وكان قد أوصاه ليحضره معه إلى المطار في كتاب بعثه إليه، ولكن سهيلاً قد نسي.. فما كان من الشيخ بهجت البيطار علامة دمشق إلا أن رفع عمامته بكلتا يديه ووضعها على رأس العائد الكبير الذي اعتمّ بها بين موجات الهتاف والتصفيق.
وأوضح ما تتجلى مواقف فارس الخوري لوأد المؤامرة الفرنسية في إثارة النعرة الطائفية، موقفه في مجلس الأمن في شباط 1946 حين زعم (مستر بيدو) وزير خارجية فرنسا أن وجود فرنسا في سورية ولبنان ضروري لحماية النصارى من طغيان الأكثرية الإسلامية المحيطة بهم، فكان جواب فارس الخوري قاطعاً:
"أنا نصراني بروتستانتي من أصل أرثوذكسي أقول:
إن دعوة حماية النصارى مضرّة بالنصارى أنفسهم، لأنها تجعل الأكثرية المسلمة تنظر إليهم نظرة عداء، باعتبارهم سبباً لتدخل الأجانب في ديارهم، عدا عن أن هذه الحجة إنما هي لتبرير بسط الحكم، إذ لا يوجد في كثير من البلاد التي احتلتها فرنسا في آسيا وأفريقيا نصارى لحمايتهم، ولكن الاستعمار هو الغاية الحقيقية" وبذلك أسقط حجة فرنسا لاستمرارها باستعمار سورية ولبنان(21).
فليس أسهل ولا أقوى من تفنيده لدعوى المندوب البريطاني حين زعم أن معاهدة سنة 1936 معاهدة صحيحة لأنها أبرمت باختيار الطرفين، فلا حاجة -كما قال- إلى دليل على بطلان هذه الدعوى لأن أمة من الأمم لا تقبل احتلال الأجنبي لبلادها وهي مختارة راضية.
وليس أجمع ولا أمنع من قوله في هذا الصدد: إن تلك المعاهدة لا تنطوي على التزام تتقيد به بريطانيا العظمى، وإنما هي تفويض من ملك مصر إذا شاءت بريطانيا العظمى أن تنزل عنه فليس في عملها هذا مناقضة لحرمة المعاهدات.
نعم.. فهي إذا لم تشأ فإنما تفعل ذلك لأنها ذات غرض ترمي إليه ولا تفعله لحرمة في هذه المعاهدة تحرص عليها.
ويندر أن تتم أداة العبقرية البيانية هذا التمام لغير الأفذاذ النابهين كفارس الخوري..
روى عنه تلميذه (علي الطنطاوي) أن طالباً (ثقيلاً...) سأله: ما فائدة هذه الأحرف اللثوية؟ ولماذا نقول ثاء وظاء؟ فنخرج ألسنتنا، ونضطر إلى هذه الغلاظة؟!
فقال له فارس الخوري على الفور وقبل أن يتم سؤاله:
- لا فائدة لها أبداً، وسنتركها فنقول (كسر الله من أمسالك)!!
فسكت الثقيل خزيان(26).
أما الشيخ علي الطنطاوي فننقل مقطعاً واحداً مما كتبه:
"وهذا الشيخ (فارس الخوري) الذي شهدت بعبقريته الدنيا، وأكبرته الأجيال على اختلاف ألوانها وألسنتها وبلدانها، ورأت فيه شخصية ضخمة توزن بها شخصيات هؤلاء الذين ألقتْ إليهم قوة دولهم مقاليد الأرض، وحكّمتهم في رقاب البشر، واعترفوا أنه حمل مع عبء الثمانين (لا الثمانية والستين) حمل رياسة مجلس الأمن فكان خير رئيس له وأقواه...
هذا وليس وراءه أسطول جاءت منه حقيبته، ولا قنبلة ذرية قامت عليها سطوته، ما وراءه إلا أمة صغيرة كبّرتها عبقريته، ودولة ضعيفة قوّتها شخصيته حتى كان صوتها أعلى الأصوات، وكلامها أبلغ الكلام وخطبته عنها هي نقطة التحول في مجرى الرأي في مجلس الأمن، كما قال الأستاذ الصاوي في (أخبار اليوم) ولقد عجب الذين لا يعرفون فارس الخوري لما سمعوا أنه لم يقرأ خطبته من كتاب، ولا تلاها من ورقة، بل ارتجلها ارتجالاً، ولم يكن بيده إلا بطاقة فيها (خرافيش) بالقلم الرصاص. رآه النقراشي وهو يخطب فحسب أنها مذكرات له في مسائل عادية من مسائل الحياة، فلما رأى أنها هي الخطبة العظيمة التي هزت أضخم هيئة دولية في الأرض، بلغ عجبه من هذا الرجل وإعجابه به أبعد حدود.
أما نحن فلم نعجب، لأن الشيء من معدنه لا يستغرب.
وهذا الرجل الذي بدأ يتعلم الإنكليزية قبل أن يولد أكثر أعضاء الوفد المصري في مجلس الأمن، والذي أعطاه الله هذا الذهن العجيب، فجعله لغوياً، أديباً، شاعراً، حقوقياً، مشاركاً في كل فروع الثقافة، وأمدّه بمنطق سديد، وعقل نادر المثال، ورزقه ذكاء ما أعرف أحد منه ولا أمضى، وبديهة غريبة، وجعل له مع هذا كله، هذا الرأس الكبير، وهذه الشيبة المهيبة، وهذا الصوت المدوّي المليء بالعظمة والثقة بالنفس والتعالي وهذا الصدر الواسع، وهذا الحلم مع القوة، وهذا الحزم بلا عنف، هذا الرجل لا يستكثر عليه أن يرتجل خطبة بالإنكليزية، وأن يحول بها أفكار وكلاء الدول في مجلس الأمن"(27).
الهوامش
(1) فارس الخوري وأيام لا تنسى. طبع دار الغد في بيروت:14
(2) ذكريات علي الطنطاوي: 2/ 166
(3) (4) (5) نظام الحكم في الشريعة والتاريخ للأستاذ ظافر القاسمي- منشورات دار النفائس بيروت. الطبعة الثانية في 1983: 627.
(6) فارس الخوري وأيام لا تنسى : 36
(7) نفسه: 57
(8) موقف الدولة العثمانية من الحركة الصهيونية: 305
(9) مجلة الأسرار- بيروت- العدد (1) ص /4/ 10 نيسان 1938 وانظر أيضاً: محمد جميل بيهم: فلسفة التاريخ العثماني 2 / 166
(10) جريدة المقتبس الدمشقية كانون الثاني 1909 م3 جـ 2 ص 272
(11) فارس الخوري وأيام لا تنسى: 302
(12) القاموس السياسي - أحمد عطية الله - طبع دار النهضة العربية في القاهرة- 1968
(13) فارس الخوري وأيام لا تنسى: 57 - 59
(14) المصدر السابق: 327، 328، 329.
(15) المصدر السابق: 60، 61، 62.
(16) المصدر السابق: 89
(17) سورة البقرة آية 256
(18) سورة الممتحنة آية 8
(19) مجلة الرسالة القاهرية 1947
(20) فارس الخوري وأيام لا تنسى: 65
(21) المصدر السابق: 119
(22) فارس الخوري وأيام لا تنسى: 399- 400
(23) المصدر السابق: 9 - 120
(24) المصدر السابق: 14
(25) المصدر السابق: 126- 131
(26) مجلة الرسالة لعام 1947
(27) المصدر السابق.