فصل من سيرة ذاتية(2)
الرابطة الأدبية بين الأسلاك الشائكة
د. كمال أحمد غنيم
- يمكنك إصدار المجلة؟!
- لكن الأمر يتطلب جهدا كبيرا، وأقلام وأوراق وخطوط جميلة!
- وما المانع، دعنا نخصص كل ما يلزم.
- ولكني لا أحب المحدودية التي ستأسر المجلة معنا هنا
- ماذا تريد إذا؟!
- هناك بريد تقذف من خلاله الرسائل الرسمية والودية، فما الذي يمنع من إنجاز ثلاث نسخ، مما يجعلنا نتجاوز مرور المجلة بشكل بطيء عبر الأقسام الكبيرة، ففي كل قسم ما يقارب ثمانية مردوانات يحتوي بعضها على ثلاثمائة أسير وبعضها على سبعمائة أسير، وحتى تمر من مردوان لآخر تحتاج إلى يوم أو يومين، وفي ذلك مشكلة تبطئ العمل...
- أنت أجبت عن بعض تخوفاتك من محدودية انتشار المجلة، فنحن نستطيع الوصول بها إلى المئات أو الآلاف عبر الفكرة التي طرحتها... فما المانع من إعداد ثلاث نسخ
- ولكن...
ابتسم الشيخ سيد أبو مسامح في ود وهو يؤكد على أهمية الفكرة، وضرورة البدء، ويذلل ما أطرحه من صعوبات ومنها أن المشاركات قد تكون قليلة لقلة من يكتبون أدبا إبداعيا، وعزوف بعض من يكتبون، فيتذكر حكاية المجلة الأولى التي أصدرها البنا، حيث أوشكت أن تكون من ألفها إلى يائها من كتابته، حتى إذا ما نزل العدد الأول تشجع الناس وانتبه الكتاب لوجود منبر يستحق الاهتمام به وأقبل المترددون، واستمرت المجلة في عطائها بزخم وتواصل حثيث.
ولعلي كنت أدرك ما قاله الشيخ سيد؛ ولكنني كنت أريد أن ألمس مدى الاقتناع بالفكرة وإمكانات دعمها ونشرها على نطاق أوسع، وبادرت إلى الإعلان –عبر البريد المقذوف من مردوان لآخر ومن قسم لقسم- عن نية إصدار مجلة (الرابطة)، ودعوت إلى المشاركة، وإلى تكوين هيئة تحرير مختصة حتى لو كانت متباعدة لا تجمعها خيمة أو مردوان أو قسم!
وجاءت المشاركات على استحياء، فجمعتها وأضفت لها بعض ما هو مسطور في كراريس المعتقل، وحكاية الكراريس حكاية أخرى موجزها أن المعتقلين بأدواتهم البسيطة من أقلام ودفاتر يعمدون إلى نسخ بعض الكتب أو الملخصاتها أو الكتب الكراسّية التي تم تأليفها هناك، ليكوّنوا من خلال ذلك مكتبة يُعتمد عليها في التثقيف وإعداد الدروس!
وبدأ العمل على قدم وساق، كتبت نسخة بخط يدي وكتب زميلان آخران من ذوي الخطوط الجميلة النسختين الأخريين، وكنا قد كلفنا أحد الرسامين بإعداد ثلاث نسخ من غلاف ملون يحمل لوحة فنية جميلة، باستخدام أقلام الجاف الملونة وأوراق (دفتر أبو أربعين ورقة!!)، ومن الجدير بالذكر أن المجلة احتوت على تشكيلة جميلة من القصص القصيرة والقصائد والتنظيرات النقدية؛ بل والنقد التطبيقي لعمل أدبي من أعمال السجناء في كل عدد.
وأصبح العدد الأول جاهزا بنسخه المعدّة للأقسام الأخرى! وكان مردوان رقم خمسة يراقب بحب وود آليات الإعداد، وبكل شغف وفخر راح يتابع آليات الإرسال عبر المردوانات الأخرى... ولم تمنعني من القلق تعليقات الإعجاب بالمجلة من الشيح سيد وإخواننا في مردوان رقم خمسة: "لعلهم قد تحمسوا للفكرة، وأُعجبوا بها لأنها تصدر من بين ظهرانيهم، على رأي المثل الشعبي القائل عن شهود العروس"، ولكن الاطمئنان بدأ يتسلل إلى القلوب من خلال ردود الأفعال التي راحت ترحب بالعمل وتشيد به، والأجمل من ذلك ازدحام البريد بالكثير من المشاركات التي صدٌقت رؤية الشيخ سيد، وأصبح ملف المجلة (والملف عبارة عن صندوق من صناديق لعبة الشطرنج حوله المعتقلون إلى ملف يحتوي على الأقلام والأوراق اللازمة لفرع من فروع حياتهم اليومية!!).
وبكل حماس راحت هيئة التحرير تعد للعدد الثاني من وقت مبكر لضمان صدوره في موعده الشهري. حافظنا على أسس العمل الصحفي، فقد كنا حريصين على صدور العدد في موعده، وعلى ثبات اسم المجلة وشكله مع اختلاف اللوحة الفنية من عدد لآخر، كما حرصنا على ثبات هيكلية المجلة القائم على التنوع بين القصيدة والقصة القصيرة والمقال النقدي التنظيري الذي كان يؤسس لفن القصة وآليات كتابتها، والمقال التطبيقي الذي يعتني بتحليل عمل أدبي جديد في كل عدد، والمحافظة على بعض الأبواب الثابتة. وظل الخط العام يعتمد في كون الجديد المستمد من إبداعات المعتقلين هو العمود الفقري الذي تعتمد عليه المجلة.
وكما يحدث النجاح في ظروف البشر العادية نجحت المجلة، وبدأنا من خلال بريد القراء والمشاركين نتلمس حاجات المعتقلين الأدبية والفنية، وتبين لنا مثلا صعوبة تقسيم الحديث عن موسيقى الشعر وعلمي العروض والقافية على أعداد متباعدة للراغبين في دراسته، ومن هنا نبعت فكرة إصدار كتاب شهري يرافق المجلة، وكان كتاب الرابطة الأول هو: "موسيقى الشعر العربي"، وأعددنا منه ثلاث نسخ أيضا: (كنا نقسم دفتر من أربعين ورقة إلى قسمين من المنتصف، فيصبح الدفتر دفترين صغيرين على شكل كُتيبين)، وطلبنا في إعلان داخلي في صفحات مجلة الرابطة نسخ الكتاب في كل مردوان من الأقسام المختلفة، حتى يكون متوفرا للجميع في الوقت نفسه، وقد نجح الأمر بحمد الله كثيرا، وأصبحت دورات العروض والقافية منهاجا إضافيا للراغبين خارج إطار البرنامج الثقافي اليومي، وسهّل كتاب الرابطة الأول ذلك الأمر.
ثم جاء الشهر الثاني، وحمل معه للمعتقلين هدية جميلة تمثلت في مجموعة قصص قصيرة لعدة كتاب من المعتقل، وما زال اسم الكتاب ماثلا بلوحته الفنية أمام عيني، حيث تم تشكيل العنوان من صورة حجارة متراصة، لترسم الحجارة المرسومة عنوان (الحجارة تنبض!) الذي كانت له دلالته في مرحلة انتفاضة الحجر الفلسطيني، ولم تكن المجموعة لكاتب قصصي واحد، بل جمعت بين دفتيها قصصا لأكثر من كاتب، بعضهم كتب باسمه الحقيقي وبعضهم كتب باسم مستعار.
ولم تستمر فكرة كتاب الرابطة الشهري بعد ذلك لأكثر من سبب منها الظروف الاعتقالية الصعبة، فنحن عندما نتحدث الآن بسهولة عن تلك الأعمال لا نتخيل الوقت والجهد وصعوبة الإعداد وصعوبات المراسلة، فلم يكن قذف البريد أمرا هينا لأنه في البداية والنهاية يتحدى إرادة السجان، الذي تمر من تحت أنفه تلك الرسائل المتطايرة، وكم من شبل وشاب دفعوا ثمن البريد المرسل أياما من الحبس الانفرادي عقابا لهم على قذف الرسائل، لكن الإصرار على الرسائل خلق أمرا واقعا في معظم الأحيان أمام السجان، لأن الإصرار من المعتقلين عليه وعدم مبالاتهم بأشكال العقاب حقق ذلك الاستسلام للأمر الواقع، اللهم إلا في حال تهيج الظروف لسبب أو لآخر. ومن المعوقات والصعوبات شح الأقلام والدفاتر، والانتقال من مردوان لآخر، أو من قسم لآخر أو من النقب لأنصار 2 في غزة.
ولعل تلك الصعوبات بالإضافة إلى قرب الإفراج عني هي التي دفعتني من باب الحرص على الرابطة واستمرار العمل فيها إلى إسناد أمر المجلة وتحريرها إلى أخ
آخر في مردوان آخر من خلال المراسلة حتى يمارس التجربة وأنا موجود لتلافي الصعوبات ونقل الخبرة والتجربة، وقد أصدر عددين في أثناء وجودي، وواصل الأمر من بعدي وكانت الرابطة سؤالي الأول لكل من تتابعوا في الخروج من المعتقل بعد ذلك!!