والدي الشاعر الإنسان
عمر بهاء الدين الأميري
د. أحمد البراء الأميري
أهو
شاعر إنسان أم إنسان شاعر؟ أعني أي الصفتين أغلب عليه: شاعريته أم إنسانيته؟ لا
يعنيني الجواب ما دام أهم معالم تحديد هويته هو هذين السؤالين!
كان
والدي – رحمه الله – شاعراً وإنساناً بكل ما في هاتين الكلمتين من آفاق وأعماق،
وأبعاد وامتداد. وكان بعد ذلك فناناً بالطبع لا بالاكتساب، وهذا هو ما جعل شعره
نسيج وحده، لأنه صقل موهبته بالمران والممارسة لا بالتعلم والمدارسة!
كانت لديه قدرة كبيرة على النظم، وكان يعبِّر عن كثير من مواقف الحياة مستفيداً من
هذه القدرة التي تعطيك شعراً على قدر المناسبة، ينتهي بانتهائها، وبعد أن يؤدي
الغرض منه. أذكر لذلك أمثلة: كان في الرياض عندما وضعت زوجة أخي محمد اليمان ولدهما
الأول حذيفة، فاتصلت به هاتفيا وأخبرته بسلامة الأم وسلامة الوليد، فارتجل قصيدة
طويلة مطلعها:
بارك الله بالبراء وبشرى زفها عن حذيفة بن اليمان
ولما وضعت زوجة أخي مجاهد ابنهما عمر في ربيع الأول من ذلك العام، قال على البديهة:
عمر
قد صار جدا لعمر
مرة
أخرى وفي اليوم الأغر
مشيراً إلى نفسه، وإلى عمر بن البراء، وإلى عمر بن مجاهد، وإلى ذكرى المولد النبوي
الأغر!
وفي
أواخر أيامه احتاج إلى غسيل كلى، فكتبت له رسالة أقسم عليه فيها ألا يعدوني إلى
غيري إذا احتاج إلى زراعة وصلحت له كليتي، فبعث إليّ بقصيدة متأثرة مؤثرة مطلعها:
سلمت كليتاك يمنى ويسرى
ووقاك الرحمن –ما عشت– ضراً
هذه
السطور ليست (دراسة) للشاعر عمر بهاء الدين الأميري رحمه الله، فذلك عبء ليس خفيفاً
على كاهل ابنه الأكبر الذي لا يزال يقطف ثمار نصائحه، ومسؤولية أدبية أداء حقها
يحتاج إلى أوسع من هذه (الإلماحات)، دع عنك حق الوالد على ولده في بره بعد موته.
إنما هي استجابة لطلب مجلة الأدب الإسلامي الزاهرة أن تكون لي مشاركة في عددها
الخاص عن والدي أكرم الله مثواه.
كنت
أقول للوالد – رحمه الله - : لا تنشر كل ما تكتب، بل انتخب أجوده كما يفعل غيرك من
الشعراء الكبار، فيقول لي: إني أحب أن يعرفني الناس كما أنا، ولا أريد أن أزوِّر
لهم نفسي!! قلت له ذلك مدفوعاً باقتناعي العميق بما قاله ابن الأثير عندما قسّم
تقسيم البصير شعر المتنبي إلى خمسة أقسام آخرها: " ... خُمسٌ في الغاية المتقهقرة
التي لا يعبأ بها، وعدمها خير من وجودها، ولو لم يقلها أبو الطيب لوقاه الله شرها،
فإنها هي ألبسته لباس الملام، وجعلت عرضه غرضاً لسهام الأقوام". وهذا الكلام – فيما
أحسب – يشبه أن يكون قانوناً عاماً ينطبق على أكثر الشعراء الكبار.
ولقد أوضح الأميري رحمه الله مذهبه الشعري في قصيدة (شعور) التي مطلعها:
قال
لي صاحبي يفند شعري:
إن
شعري كالنثر سهل مرقرق
وفيها يقول:
كيف
لي باختيار لفظ منمق
كيف
لي باصطناع لحن مزوّق
وشعوري ينساب فيضاً غزيراً
من
أحاسيس خِلقتي يتدفق
كل
حسِّ قد صيغ لفظاً ومعنى
دون
قصد مني، ولاح برونق
هل
لزهر الربى اصطفاء شذاه؟
كل
زهر كما تكوّن يعبق
أنا
لا أعرف التصنع في شعري
فشعري سجيّتي حين تطلق!
كتبت هذا الكلام دفعاً لما قد يظنّ من أن الولد قد يتحيز لأبيه، فيؤثر ذلك على
حياده في النظرة إلى شعره، إذا أشاد به وأبدى إعجابه.
وبعد،
فعمر بهاء الدين الأميري – عندي – شاعر كبير، وفي شعره الغزير: عشرات القصائد
الرائعة، وعشرات المقاطع البديعة، وعشرات الأبيات المفردات التي لا نظير لها!! ولو
جمعت كلها في ديوان واحد لعرّفت بموهبته الشعرية أصدق تعريف:
<
إن الأميري رائد في شعر الأبوة والبنوة وهو فيه نسيج وحده.
<
ورائد في الشعر الإلهي والنبوي والإسلامي، وهو فيه نسيج وحده.
<
ومبدع – كغيره من المبدعين – عندما تنقدح شرارة عقله وقلبه فيمتح من أصالته الشعر
العذب النمير.
ولأعط مثالاً واحداً على تفرده، هو أبياته الثلاثة التي قالها في ختام قصيدته
الرومانسية الوصفية "شبح الخريف"، التي تقع في (77) بيتاً، وفيها تظهر شخصيته واضحة
السّمات والقسمات:
الهول في دربي وفي هدفي
وأظل أمضي غير مضطربِ
ماكنت من نفسي على خَورِ
أو
كنت من ربي على ريبِ
مافي المنايا ما أحاذره
الله ملء القصد والأربِ!!
ولابد من عود على بدء! ففي السطور الأولى تساءلت: أهو شاعر إنسان أم إنسان شاعر؟
وتكلمت عن شعره وشاعريته، ولا بد لي في نهاية هذا المقال من الإشارة إلى (إنسانيته)
لأنها أهم "مفاتيح شخصيته" التي تجلّت في شعره كما تجلّت في فكره وسلوكه لمن عرفه
عن كثب.. وجعلته يحبّ أن يوصف ب "شاعر الإنسانية المؤمنة"!!
كانت إنسانية الأميري – رحمه الله – واسعة الطيف، تبدأ بالحجر وتنتهي بالبشر، وتمر
بينهما بالشجر، والزهر، والثمر، والقطة والعصفور والفراشة...
كان
يضفي حياة على الأشياء والأماكن.. يحنو على الهرة الصغيرة ويداعبها.. ينثر فتات
الخبز للعصافير.. يسقي الأزهار ويتعهدها بالتشذيب.. يحاور الغيوم ويسامر النجوم،
وكان وكان، ولو أطلقت للقلم العنان لخرجت عن القصد من هذا المقال.
رحم
الله الأميري، وجعل شعره امتداداً لصالح عمله >