العلامة الوطني أبو اسحق إبراهيم أطفيش
هو إبراهيم بن أمحمد بن إبراهيم بن يوسف أطفيش. علامة، وطني، فقيه. ولد ببلدة بني يزقن من قرى وادي ميزاب جنوب الجزائر، في أحضان عائلة كريمة متدينة، أنجبت للعالم الإسلامي عالماً فذا من علماء الجزائر وهو عمه قطب الأئمة الحاج أمحمد بن يوسف أطفيش المتوفى عام (1914م).
أتم إبراهيم حفظ القرآن في الحادية عشرة من عمره، ثم أخذ مبادئ العلوم العربية والشرعية على يد عمه القطب أمحمد بن يوسف أطفيش في مسقط رأسه، ثم عن المصلح العالم عبد القادر المجاوي بالجزائر العاصمة. في سنة 1917م يمم وجهه نحو تونس ضمن بعثة علمية، فالتحق بجامع الزيتونة، وكان مثار إعجاب مشايخه، ذكاء وأخلاقاً وسعة علم. وما لبث أن استهوته السياسة بأجوائها الحماسية الوطنية، فأصبح عضواً بارزاً في حزب الدستور التونسي بزعامة الشيخ عبد العزيز الثعالبي صحبة زملائه في البعثة أبي اليقظان، ومحمد الثميني، والشيخ صالح بن يحي. عرف أبو إسحاق في الأوساط السياسية والثقافية بكرهه الشديد للاستعمار الفرنسي الذي نفاه من الجزائر إلى تونس، وعرف بنشاطه ذاك في الأوساط التونسية، وما لبث أن جاءه قرار النفي والإبعاد من السلطات الفرنسية على أن يختار أي بلد يشاء، فاختار مصر التي وصلها في 23 شباط 1923م، و هي نفس الفترة التي نفي فيها كل من الأمير خالد بن عبد القادر الجزائري، وعبد العزيز الثعالبي اللذين تربطهما بأبي إسحاق روابط العمل الوطني. وفي القاهرة وجد المجال واسعاً للعمل الوطني، فنشط في ميدان السياسة والفكر، وقام بأعمال جليلة في الصحافة، و تحقيق التراث، والتأليف، إلى جانب نشاطه الاجتماعي مع الجمعيات الخيرية ذات التوجه الإصلاحي الإسلامي.
أصدر وترأس تحرير مجلة المنهاج ما بين عامي 1344هـ/1925م- 1349هـ/1930م، التي عرفت بتوجهها السياسي والاجتماعي القويين، فكانت تنشر مقالات لكتّاب عرفوا بعدائهم الصريح للاستعمار الغربي، تكشف عن مخططات الإنجليز والفرنسيين الاستيطانية في الحجاز والشام والمغرب العربي بأسلوب تحليلي عميق. وفي الميدان الديني والاجتماعي كانت ترد على مقالات التغريبيين المعجبين بالمدنية الغربية، المشككين في ثراء الحضارة الإسلامية، وقدرتها على التطور، ومن ثم فإنها منعت من دخول كثير من البلاد العربية والإسلامية. وما لبثت بعد مضايقات سياسية، ومتاعب مالية أن توقفت، فأسند الشيخ أطفيش رخصة صدورها إلى زميله في الكفاح الوطني محب الدين الخطيب، وكان ذلك سنة 1931م، فأخذت تصدر في شكل جريدة محتفظة بالعنوان نفسه (المنهاج). أسس مع صديقه الشيخ الخضر حسين جمعية الهداية الإسلامية. في أواخر الخمسينيات وبداية الستينيات أصبح عضواً فعالاً في جمعية تعاون جاليات شمال أفريقية، والمؤتمر الإسلامي المنعقد بالقدس سنة 1350هـ/1930م وكان عضواً نشيطاً في جمعية الشبان المسلمين الذي تربطه بزعيمها حسن البنا صداقة حميمة. وكان عضواً نشيطاً في مكتب إمامة عُمان بالقاهرة، إذ أسند إليه الإمام غالب بن علي التعريف بقضية عُمان في المحافل الدولية، والجامعة العربية، و سافر من أجل ذلك إلى عُمان وإلى أمريكا ناطقاً رسمياً في الأمم المتحدة. في عام 1359هـ/1940م أسندت إليه وزارة الداخلية المصرية مهمة الإشراف على قسم التصحيح بدار الكتب المصرية، وكان من أجل أعماله فيها:
تحقيق وتصحيح أجزاء من الجامع لأحكام القرآن للقرطبي.
تصحيح كتاب المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم، من تأليف محمد فؤاد عبد الباقي.
تصحيح وتحقيق أجزاء من كتاب نهاية الأرب، وغيرها.
وكان وهو بدار الكتب المصرية مرجع الفتوى في العلوم الشرعية واللغوية، شارك مشاركة فعالة في تحرير مادة الموسوعة الفقهية، ولاسيما فيما يتعلق بالمذهب الإباضي. وهكذا تألق أبو إسحاق بين زملائه، وعرف بينهم بغزارة العلم، ودقة التحقيق، والإخلاص في العمل، كما اشتهر بينهم بقوة عارضته إذا حاجج، ورحابة صدره إذا نوقش، ورسوخ قدمه في مجالي الشريعة وعلوم اللغة إذا استفتي أو استشير. و لعل ما بهر به المصريين فعلاً هو إخلاصه النادر لعمله ما يقرب لأربعين سنة كان فيها مثالاً للجد والمثابرة والتفاني، واكتسب من أجل ذلك صداقة فطاحل علماء مصر من أمثال الشيخ مصطفى المراغي شيخ جامع الأزهر، ومحمد أبو زهرة، ومحمد علي النجار، ومحمد سلام مذكور، ومصطفى عبد الرزاق، ومنصور فهمي، وغيرهم.
إن وجود أبي إسحاق في مصر أفاد القضية الجزائرية إفادة كبرى، فقد كان يقف لمؤامرات الاستعمار الفرنسي بالمرصاد، كشفاً وفضحاً، لا يكتفي بما يكتبه بقلمه في مجلته المنهاج، بل كان يستنهض للكتابة أشهر الأقلام الوطنية المصرية، من أمثال أحمد زكي باشا، و محب الدين الخطيب، ومحمد علي الطاهر، وغيرهم. كما كان له الفضل العظيم في إزالة الكثير من الأخطاء التي كانت عالقة بأذهان بعض الباحثين عن الإباضية، وصحح الكثير من المعلومات التي تنوقلت عن المصادر التاريخية التي ألفت في عصور التفرق والفتنة.
كان أبو إسحاق يملك قلماً سيالاً، وأفقاً واسعاً، تجود عليه بعطاء فكري ثري، والذي يبدو من خلال مراسلاته أنه ألف في مواضيع شتى، ولاسيما فيما يتعلق بالمذهب الإباضي تاريخاً وفقهاً. أما في ميدان التأليف والتحقيق فله:
مقالات كثيرة في مجلة الفتح والزهراء لصاحبهما محب الدين الخطيب، وهو من أعز أصدقائه والمتعاونين معه.
ألف كتاب الدعاية إلى سبيل المؤمنين يطرح فيها نظرته إلى تطوير التعليم العربي الإسلامي، ويرد على خصومه من المحافظين، وقد صدر عن المطبعة السلفية بالقاهرة سنة 1923م.
شرح كتاب الملاحن لابن دريد، وطبع عدة مرات في كل من مصر وعُمان.
النقد الجليل للعتب الجميل (رد فيه على محمد بن عقيل العلوي الذي طعن في مذهب أهل الحق والاستقامة)، وقد صدر بالقاهرة لأول مرة سنة 1924م، ثم أعيد طبعه بعُمان عن مكتبة الضامري للنشر والتوزيع سنة 1414هـ/ 1993م.
الفرق بين الإباضية والخوارج . طبع عدة مرات في الجزائر، ومصر ، وعُمان.
وقد أشار أبو إسحاق في مراسلاته للشيخ أبي اليقظان إلى عدة مؤلفات أنجزها أو هو في صدد إنجازها وظلت مخطوطات لم تر النور، ولم يعثر عليها، وهي:
موجز تاريخ الإباضية.
المحكم والمتشابه.
عصمة الأنبياء والرسل.
الأقوال السنية في أحوال قطب الأئمة.
القطب اطْفَيَّش.
صلاة السفر.
منهاج السلامة فيما عليه أهل الاستقامة.
تفسير سورة الفاتحة.
الفنون الحربية في الكتاب والسنة.
مختصر الأصول والفقه للمدارس.
كتاب النقض.
وفي ميدان تحقيق التراث نجد له ما يلي:
تحفة الأعيان بسيرة أهل عُمان للشيخ السالمي في جزأين. مطبوع عدة مرات بعمان.
شرح النيل وشفاء العليل، معتمد الإباضية في الفقه، الأجزاء الثامن والتاسع والعاشر، مطبوع عدة مرات في مصر، والجزائر، ولبنان، والسعودية، وإيران.
جامع أركان الإسلام، من تأليف سيف بن ناصر الخروصي العُماني، مطبوع عدة مرات بمصر، وعمان.
شامل الأصل والفرع، من تأليف القطب اطفيش، طبع عدة مرات بمصر، والجزائر، وعُمان.
مسند الإمام الربيع بن حبيب في الحديث، طبع عدة مرات في مصر، والجزائر، وعُمان.
الذهب الخالص، من تأليف القطب اطفيش، طبع عدة مرات في مصر، والجزائر، وعُمان.
كتاب الرسم، من تأليف القطب، ومن شرحه وتحقيقه، طبع عدة مرات في مصر، والجزائر، وعُمان.
كتاب الوضع (مختصر في الأصول والعقيدة) من تأليف أبي زكريا يحي الجناوي، طبع بالجزائر، ومصر، وعُمان عدة مرات.
يمتاز أبو إسحاق في كتاباته بشخصية قوية، ويدل في تحليلاته للأوضاع والقضايا السياسية والاجتماعية والدينية على سعة في المعرفة، واطلاع جم على الأحداث، ومواكبة حية لتطوراتها، وثبات راسخ في الموقف والتوجه.
في أخريات حياته اشتد عليه مرض في '"البروستاتا"' استدعى إجراء عملية جراحية عاجلة، غير أن القدر كان أسبق، فوافته منيته بعد أيام قليلة من اشتداد المرض، فانتقل إلى رحمة الله، و ذلك سحر يوم 20 شعبان 1385هـ/ 13 كانون الأول 1965م، و صلى عليه في جامع المطرية الشيخ محمد المدني عميد كلية أصول الدين بالأزهر الشريف، وشيعت جنازته بحضور كثير من العلماء و رجال الفكر في مصر، ووري جثمانه في مقبرة آل الشماخي، كما أوصى.
وسوم: العدد 809