عبد القادر قباني..
عبد القادر قباني..
سيرة مدينة في حياة رجل
نادر سراج *
يرتبط اسم الشيخ عبد القادر مصطفى آغا القباني بمأثرين مهمين في تاريخ المجتمع الاسلامي في بيروت; اولاهما تأسيس صحيفة «ثمرات الفنون» عام 1878 مع كوكبة من كرام الشخصيات البيروتية.
اجتمعت في شخصيات هذا الشيخ الطموح وجوه عدة: القاضي والكاتب والمربي والاعلامي والاداري الحازم ورجل الاعمال. فنجح في المواءمة بينها، وتوظيفها لخدمة ابناء بلده والعمل من اجل نهضة مجتمعهم.
ولد في بيروت عام 1844، من عائلة عريقة. تلقى علومه في مدارس اسلامية، ومن ثم في «المدرسة الوطنية» التي أسسها بطرس البستاني في بيروت. وقد قيض له ان يدرس على يد عدد من علماء عصره امثال الشيخ يوسف الأسير والشيخ محيي الدين اليافي والشيخ ابراهيم الأحدب. فحاز درجات علمية ودينية مشفوعة بثقافة اسلامية أهلته للانطلاق في دنيا العلم والعمل والبر والإحسان.
تولى مناصب رفيعة اهلته لها سمعته الحسنة وتكوينه العلمي وخبراته في مجال العمل العام. ففي عام 1880 انتخب عضوا لمجلس ادارة لواء بيروت، ثم قاضيا في المحكمة البدائية. وفي عام 1888، عين عضوا في محكمة الاستئناف. وفي العام الذي تلاه اسندت اليه رئاسة بلدية بيروت، فقام باصلاحات رئيسية من أهمها انقاذ صندوق البلدية من العجز والافلاس. وفي عام 1898، زار الامبراطور غليوم بيروت، وأبدى اعجابه بالتنظيم والحفاوة، وتوجه بالشكر للسلطان عبد الحميد، وقلد الشيخ القباني وساما رفيعا. ولاحقا اسندت للقباني مديرية معارف بيروت. كما ترأس لجنة جمعت الاموال لبناء «مدرسة الصنائع» في بيروت (1906).لم تقتصر نشاطاته على مجالات الصحافة والتعليم والعمل العام، بل شملت ايضا ميادين التجارة والاعمال، بما في ذلك التنقيب عن النفط بمساعدة خبراء ألمان.
وفي عهد الانتداب الفرنسي، كلفته الحكومة بتولي مديرية الاوقاف الاسلامية في بيروت. فقام بإصلاحات ونظم عقارات الوقف الخيرية. توفي عام 1935، فكانت حياته الحافلة بالإنجاز والعطاء سيرة مدينة في حياة رجل.
كانت «جمعية الفنون الاسلامية» باكورة اهتماماته العامة. فانضم اليها عام 1873. كما يعود للجمعية الفضل في نشر جريدة «ثمرات الفنون» الناطقة باسمها، وكانت ايضا المنطلق للشيخ وبعض زملائه لتأسيس جمعية المقاصد في بيروت. ففي 20 ابريل (نيسان) 1875 اصدر الشيخ القباني العدد الاول من صحيفة «ثمرات الفنون»، اول مطبوعة ذات توجه اسلامي في بيروت، وعاونه نخبة من اهل الفكر المسلمين والمسيحيين.
هذه المطبوعة السياسية والعلمية والأدبية شكلت وسيلة تفاعل مع مجتمعها الاسلامي المحافظ الذي كان يستشعر الحاجة للتغيير والانفتاح على الغرب. وتكمن اهمية الصحيفة ايضا في كونها عدت ناطقة بلسان حال بيروت.
كان الشيخ القباني في مأثرته الصحافية هذه ممثلا لمدرسة اسلامية عبرت عن ارتقابات مجتمع مدني محافظ ورأي عام اسلامي تقليدي. بيد ان انضواءه تحت راية السلطنة لم يحل دون سعيه الحثيث للدعوة لاقتباس الفنون العصرية ومواكبة التقدم المعرفي، بالرغم من ان بعض المراقبين اعتبروا ان «ثمرات الفنون» تمثل التيار الاسلامي المؤيد للعثمانيين، او بالأحرى وجهة النظر العثمانية ـ الاسلامية.
ويبقى ان نسجل ان هذه الصحيفة الرائدة اعتمدت منظومة محاور متنوعة وغلبت عليها المقالات النقدية والادبية. بيد ان هذا الامر لم ينعكس على اللغة المستخدمة التي كانت عموما تقليدية وتحشيدية ولم تخرج عن نطاق الأشكال والاساليب المتبعة في اوساط الكتاب.
ان ما تنبغي الاشارة اليه هنا هو ان «ثمرات الفنون» هي بحد ذاتها تجربة مميزة لمجموعة من المتنورين الذين سعوا لتحديث المجتمع عن طريق الصحافة المكتوبة.
فرفدوه بكم من المعلومات والمعارف والآراء والاخبار التي لم يكن متاحا او يسيرا لهذا المجتمع ان يطلع عليها ويتجاوب ـ جزئيا او كليا ـ مع مضامينها وتوجهاتها.
فكان عبد القادر القباني القدوة في تطوير مجتمعه بشكل عصري، وكانت «الثمرات» رائدة في التعبير عن تطلعات القارئ المسلم والعربي ووصله بمجريات الأمور في الشرق والغرب.
وبكلمة موجزة، فالتطرق لسيرة حياة الشيخ القباني هي في حقيقة الأمر استحضار لشخصية فذة تقاطعت عندها وجوه مختلفة، وتزاوج في تظهيرها التقاء المختلف بالمؤتلف، وهي بايجاز مقاييس معتمدة في توصيف الانموذج العصري لرجل الدولة الذي لعبه القباني عن جدارة.
* باحث لبناني