الشيخ توفيق جرّار
مسيرة علم ودعوة وإصلاح
(1337 1416ه)(1918 1996م)
حسني أدهم جرار
تقديم:
الشيخ توفيق جرّار(مفتي جنين).. عالم جليل من العلماء الرواد في فلسطين..وعلم بارز من أعلام الدعوة والتربية والإصلاح في أرض الإسراء والمعراج.. كان من العلماء المجاهدين الصابرين الذين تكاملت فيهم صفات الإيمان والإخلاص والتفاني في خدمة دينهم وأمتهم ووطنهم.. وكان من المرابطين الذين دعوا إلى الثبات في أرض الوطن، واكتفوا بالقليل وتحملّوا الكثير، ولم يقبلوا على أنفسهم مغادرة الوطن للعمل في الخارج.. كان العالم الذي استعصم بدينه ولم يرتض الذل، ولم يحن قامته لغاصب.. كان صوتاً من أصوات الحق في أرض الرباط، عرفه الناس بمواقفه الصلبة، ومكافحة الظلم في أشد الأوقات ظلمة وظلاماً.. كان في جنين نعم العالم العامل والأب الرحيم الذي ربّى الشباب، وعمل على توحيد الكلمة وجمع الشتات.. فكان مصلحاً كبيراً، ومربياً فاضلاً، ومعلم أجيال.
نشأته وحياته:
ولد الشيخ توفيق محمود جرار في قرية صانور قضاء جنين، وتلقّى دراسته الابتدائية في مدرسة صانور، وواصلها في مدينة جنين وأنهى الصف السابع الابتدائي فيها.
ثم التحق بالمدرسة الرشيدية في بيت المقدس وأتم المرحلة الثانوية فيها سنة 1936، وفي القدس شارك في الإضراب العام والمظاهرات ضد قوات الاحتلال البريطاني.
وكان أخوه الشيخ فريز يعمل في مدينة القدس، وكان على صلة جيدة بسماحة الحاج أمين الحسيني زعيم فلسطين وقائد جهادها في تلك الفترة.. ومن خلال هذه الصلة شارك في كثير من الأحداث الوطنية خلال الثورة الكبرى عام 1936 وحتى عام 1939. وكان له نشاط في اللجان القومية التي شكلها سماحة المفتي في منطقة القدس، وكانت هذه اللجان مسؤولة عن الأمن والدفاع عن المسجد الأقصى، فتقوم بحراسته والتصدي لأي هجوم يقع عليه.
ولما أنهى الشيخ توفيق دراسته الثانوية في الرشيدية، نصحه الحاج أمين بالتوجه إلى الجامع الأزهر بالقاهرة لدراسة العلوم الشرعية.. وكان لتلك النصيحة دورها في دراسته، فقد درس في كلية الشريعة وحصل على الشهادة العالية عام 1943، والشهادة العالمية مع الإجازة في القضاء الشرعي عام 1945..
وكان في القاهرة في تلك الفترة نشاط إسلامي لعدد من قادة الفكر والدعوة، وكان الشيخ توفيق يتردد على ندوة العلامة الشيخ محمد رشيد رضا، وعلى محاضرات الإمام حسن البنا في حديث الثلاثاء.
وبعد تخرجه في الجامع الأزهر، عاد إلى جنين، وعُيّن في عام 1946 مدرساً للعلوم الشرعية واللغة العربية بمدرستها الثانوية.. وكان يرى أن التعليم وظيفة الأنبياء الكرام، وأن خير المعلمين من كان عنده دين وغيرة على الأمة ونشئها.
وفي عام 1953 عين مفتياً لمدينة جنين وقضائها، واستمر في عمله هذا ثلاثاً وأربعين سنة، وقد أحيل إلى التقاعد، وأُعيد تعيينه بقرار من رئيس السلطة الوطنية في 1/1/1995.
نشاطه في الدعوة إلى الله:
كان الشيخ توفيق عالماً عاملاً، له إسهام بارز في الدعوة والتربية والإصلاح.. فكان خطيباً للجامع الكبير في جنين مدة ثلاث وأربعين سنة، وكان عضواً في الوفد الذي مثّل الأردن في الدورة الثانية للمؤتمر الإسلامي العام(بيت المقدس)، الذي عقد في دمشق من (26 30 حزيران)عام 1956، وكان رئيساً للجنة الإصلاح في محافظة جنين، ورئيساً للجنة الفتوى، ورئيساً لرابطة علماء فلسطين فرع جنين.
وكان عضواً في مجلس الأوقاف الأعلى في القدس، وعضواً في الهيئة الإسلامية العليا في الضفة الغربية، وعضواً في مجلس الفتوى الأعلى في الديار الفلسطينية..
وكان رحمه الله من الرواد الأوائل في الدعوة إلى الله، وتربية الشباب على الإسلام في منطقة جنين.. وذلك من خلال عمله في التدريس بمدرسة جنين الثانوية، ومن خلال خطبة الجمعة في جامع جنين الكبير، التي كان يدعو فيها إلى الثبات في أرض الإسراء والمعراج وإلى مقاومة المحتل مهما كلّفت المقاومة من تضحيات، ومن خلال دروس الوعظ والتربية في الجامع الكبير، والدرس اليومي الذي كان يلقيه في رمضان بعد صلاة الفجر في الجامع الصغير.
وكان الشيخ توفيق من المؤسسين الأوائل للحركة الإسلامية في جنين، وكان أول رئيس لشعبة الإخوان المسلمين في جنين عندما تأسست في عام 1950، وكانت له دروس ومحاضرات في الشعبة، وكان يشرف على النشاط فيها ويستقبل الزوار والمحاضرين، الذين كان من بينهم الدكتور سعيد رمضان والدكتور يوسف القرضاوي والأستاذ محمد عبدالرحمن خليفة والأستاذ يوسف العظم.
نشاطه الإجتماعي:
كان رحمه الله من السباقين في أعمال الخير، وكان له نشاط بارز في ميادين الخدمة الاجتماعية، ومن ذلك:
كان رئيساً فخرياً للجنة أموال الزكاة في محافظة جنين.. كان يرعى مشاريعها، ويدعو لمساندتها، ويجمع لها التبرعات من دول الخليج لإقامة المدارس والمستشفيات وإعمار المساجد، ورعاية الأيتام والأسر الفقيرة وخاصة التي تتعفف عن السؤال والاستجداء..
وكان رئيساً للجنة الإصلاح في محافظة جنين، يعمل على جمع الشتات، وإصلاح ذات البين، وتوحيد الكلمة، وكان يحمل مشكلات الناس، ويسعى جاداً لحلها..
وكان يهتم بالزراعة، ويشجع الناس عليها، ويدعو لعمارة الأرض.. وكانت له مزرعة زيتون في أراضي قرية الجربا بالقرب من صانور، يذهب إليها دائماً ويعتني بأشجارها..
مواقفه وشجاعته:
كان الشيخ توفيق علماً من أعلام المسلمين في فلسطين.. آتاه الله علماً، وقوة في الإيمان، وقدرة على التصدي للباطل، كان ذا هيبة، شجاعاً جريئاً في قول الحق لا يخشى في الله لومة لائم.. كان أبياً عزيز النفس، لم يحنِ هامته طول حياته إلاّ لخالقه العزيز الجبار، ولم يطأطىء رأسه لطاغية ولا لظالم.. كانت جرأته في الحق وثباته عليه طابعه المميز وخلقه الأصيل.. وله في ذلك مواقف مشهورة..
كان يولي قضية وطنه فلسطين اهتماماً كبيراً.. فكان يخطب الجمعة في مسجد جنين الكبير، وينبه الناس إلى الخطر الذي يحدق بالأمة الإسلامية، ويدعوهم إلى التعاون والثبات والوقوف في وجه المحتل.. ومن تلك المواقف:
عندما احتل اليهود مدينة جنين عام 1948، كان الشيخ توفيق في ذلك اليوم في قريته صانور .. ولما علم بالخبر توجه إلى مثلث الشهداء الواقع بين بلدة قباطية وجنين، وأخذ يشجع أبناء القرى الذين تجمعوا هناك، ويعطيهم دروساً في الجهاد والاستشهاد، ويحضهم على التقدم إلى جنين وطرد اليهود منها.. فما كان من الشباب إلاّ أن تقدموا وبعضهم يحمل العصي والفؤوس لندرة السلاح ودخلوا جنين وطهروها من اليهود، بمساعدة مدفعية الجيش العراقي.
كان رحمه الله رمزاً من رموز محافظة جنين، بل كان الرجل الأول فيها.. وكان من الرجال الذين يحسب حسابهم ويصعب تجاوزهم، فلا يجرؤ أحد على تجاوزه أو مواجهته، فكان المسؤولون في جنين يستشيرونه ويأخذون برأيه في كثير من الأمور، وكانوا يبتعدون عن أي عمل أو أمر فيه مخالفة لتعاليم الإسلام..
وكانت له مواقف وطنية شجاعة كثيرة ومشهودة وقف فيها إلى جانب المظلومين، ودافع عن السجناء والمعتقلين في سجون الإحتلال.. ومن تلك المواقف ما رواه لي عدد من وجهاء جنين ، منهم: الشيخ زيد زكارنة مدير أوقاف جنين ورئيس لجنة الزكاة فيها، والمحامي العبوشي أمين سر لجنة الزكاة، والشيخ عمر غانم إمام المسجد الكبير في جنين، وكان مما رووه:
· بعد احتلال اليهود لمدينة جنين عام1967، نشروا الفوضى في المدينة، وقاموا بتصرفات كلها إساءة وإهانة لأهالي المدينة.. وكان الشيخ توفيق يواجه الحاكم العسكري الإسرائيلي لمدينة جنين بهذه التصرفات ويحتج عليها، فيقول له الحاكم:
أنت تهاجمنا دائماً في خطبة الجمعة.
فيقول:
أنتم محتلون معتدون ومن حقنا أن نهاجمكم.
وصار اليهود يعدلون من أسلوبهم أحياناً في التعامل مع الناس.
· في الفترة الأولى من دخول جنود الاحتلال إلى جنين ذهبوا إلى مخيم جنين وإلى مسجد المخيم ومزقوا المصاحف وتكلموا كلاماً نابياً ضد النساء.. فذهب الشيخ توفيق والشيخ زيد زكارنة إلى الحاكم العسكري في المدينة، وقال الشيخ توفيق للحاكم:
لقد مرّ علينا حكم الأتراك واحتلال الإنكليز ولم نرَ مثل هذه الأمور الهمجية التي يقوم بها جنودكم.. وأتبع قائلاً: أيها الحاكم نحن عرب مسلمون، عندنا أمران إذا اقتربتم منهما فلا نعرف كيف نموت حين ذلك، وهما: العرض والدين.. وجنودك عبثوا بذلك..
فقال الحاكم:
أيها الشيخ لقد كنت مجازاً ولن تتكرر مثل هذه الأعمال من الجنود.
· في أحد الأيام طلب الحاكم العسكري حضور الشيخ توفيق عنده في المركز.. فذهب وكان معه الشيخ زيد، ولما وصلت السيارة بوابة المركز الخارجية لم يسمحوا لها بدخول ساحة المركز، وطلب الحارس من الشيخ أن يدخل ماشياً بدون سيارة فرفض وعاد إلى البيت.. فاتصلوا به وسألوه عن عدم حضوره، فقال:
أنا مفتي جنين وقد منعني الحراس من الدخول بالسيارة، وإني أعتبرهذا إهانة للمسلمين.
فاعتذروا له وسمحوا له بالدخول بالسيارة.
· عندما استشهد ثلاثة شباب من جنين عند حاجز الجلمة، وهم: طارق منصور، وعبد الرحمن محمد من جنين، وعلان أبو عرة من عقابة.. تم إحضارهم إلى جامع جنين الكبير، ووضعوهم في غرفة وأغلقت وأرسل المفتاح إلى المفتي، وطلبت السلطة دفنهم في الليل بسبب انتخابات المجلس التشريعي التي ستجري في اليوم التالي، وذهب رئيس البلدية إلى المفتي وكلمه بخصوص دفنهم في الليل، فرفض وقال:
هؤلاء شهداء ويجب أن يخرج الناس لتشييعهم.
ولما علم أهل جنين بموقف الشيخ، توجهوا في صباح اليوم التالي إلى المسجد وشاركوا جميعاً في تشييع الشهداء، وطافوا بهم شوارع جنين، وتم إلقاء كلمات تأبينية. وبعدها أجريت الإنتخابات في موعدها يوم 18/1/1996.
وفاته رحمه الله:
بعد أن صام شهر رمضان المبارك، وقام بما عليه من واجبات، من دروس وعظ وإرشاد، وتفقد لأحوال المحتاجين، وزيارة للأرحام.. توجه إلى جامع جنين الكبير، صبيحة يوم عيد الفطر من عام 1416ه الموافق 20/2/1996م لأداء صلاة العيد .. فوافته المنية وهو يؤم جموع المصلين مرتلاً سورة الأعلى [ سبّح اسم ربك الأعلى. الذي خلق فسوى. والذي قدّر فهدى. والذي أخرج المرعى. فجعله غثاءً أحوى]..
وفي عصر يوم العيد خرجت جنين وقراها لتودع عالمها، وتوافد آلاف الناس من مختلف مناطق فلسطين إلى جنين للمشاركة في تشييع الجثمان، وارتفع نعش الفقيد على أكف الشباب الذين ساروا به من الجامع الكبير إلى مقبرة جنين، وارتفعت أصوات الجموع بالتهليل والتكبير وكلمات الوداع، ضارعة إلى الله أن يتغمد الفقيد برحمته وأن يعلي منزلته في الجنة.. رحم الله عالمنا وأسكنه جنّته مع النبيين والشهداء والصالحين.. وإنا لله وإنا إليه لراجعون.
وقد نعته أسرة دار الفتوى في فلسطين فقالت:
" فقد شعبنا العربي الفلسطيني، ومجلس الفتوى الأعلى، وأسرة دار الفتوى في القدس والديار الفلسطينية، وهيئة العلماء والدعاة علمين من علماء هذه الديار المقدسة كان لهما إسهام بارز وعطاء مميز في مجال الدعوة والإفتاء..
وإذ تنعى أسرة دار الفتوى هذين العالمين الجليلين (الشيخ توفيق جرار، والشيخ هاشم صبري) لترجو الله أن يغفر لهما ويتقبلهما بقبول حسن مع النبيين والصدّيقين والشهداء".
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالمٌ اتخذ الناس رؤوساً جهالاّ فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا" روا البخاري ومسلم والنسائي.
وقد شرع قبيل وفاته رحمه الله بكتابة وصيته التزاماً بما ورد في كتاب الله [ كُتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيراً الوصية] وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما حق أمرىء مسلم له شيء يوصي فيه أن يبيت ليلتين إلاّ ووصيته مكتوبة عنده". أما الجزء الذي كتبه من وصيته فهذا نصه:
بسم الله الرحمن الرحيم
هذه وصيتي لأولادي وبناتي فلذات كبدي وقرة عيني.
أوصيكم يا أبنائي وبناتي الحاضرين منكم والغائبين بتقوى الله العظيم في السر والعلن، في المنشط والمكره، في اليسر والعسر، [ فمن يتقي الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب] أوصيكما يا ولدي محمد مهدي وبلال بزوجاتكما خيراً واضعين نصب أعينكما قول الرسول الكريم: " خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي" وقوله عليه الصلاة والسلام: " ما أكرمهن إلاّ كل كريم وما أهانهن إلاّ كل لئيم ". وأوصيكما بشقيقتيكما العزيزتين مهدية وختام فأولوهما المحبة والاحترام.
عيشوا معاً بمحبة ومودة ووئام فهما خير عون لكما ولشقيقيكما هلال وصهيب. جمعنا الله وإياهما في هذه الديار المقدسة وفي هذا البلد المحبوب في وقت قريب إن شاء الله.
أما شقيقتاكما المتزوجات القريبات منكما والبعيدات فأوصيكما بهن خيراً وكذلك بأزواجهن وأبنائهن وبناتهن فهن الرحم..
ويبدو أن المنية عاجلته قبل أن يتم وصيته.. غفر الله له وتقبله عنده في الصالحين.
وفي يوم الإثنين 23/9/1996 أقامت دار الفتوى في محافظة جنين، ومديرية أوقاف جنين حفل تأبين تخليداً لذكرى وفاته، تحدّث فيه عدد من العلماء والأدباء عن مناقب الفقيد.. وتخلل الحفل مباراة كبرى بكرة القدم بين مركز شباب عقبة جبر ونادي أهلي جنين على ملعب بلدية جنين.
الشيخ توفيق في نظر العلماء والأدباء والمجاهدين:
بعد وفاته رحمه الله قال فيه عدد من العلماء والأدباء والمجاهدين كلمات وقصائد تحمل في ثناياها معاني الصدق والحق والإنصاف.. ومن تلك الكلمات والقصائد اخترت هذه المقتطفات:
· كلمة الشيخ فتح الله السلوادي بعنوان "رجال.. لقيتهم..
الشيخ توفيق جرار مفتي جنين:
سنة 1938 تدفقت على مصر، قبلة الدراسة الدينية والعربية، أعداد كثيرة من شتى أنحاء فلسطين ميممين شطر الأزهر الشريف، وكنا نرى طلاباً جدداً كثيرين من شمال بلادنا وجنوبها على السواء.
وكان توفيق جرار رحمه الله يتميز من بين هذه الأعداد المتكاثرة بالحفاظ على السمت الأزهري.. عمامة مكورة على رأسه تنسجم مع وجهه أي انسجام، وجبة "كاكولة" يحافظ على شكلها وأناقتها، ولحية كانت في أول نباتها شقراء تنسجم مع لونه الأشقر.
كان حريصاً على دروسه كل الحرص، وكان دؤوباً على طلب العلم يبذل فيه أقصى مجهود، مبادراً إلى الصلاة يؤديها في أول أوقاتها، فكأنه كان شيخاً منذ دبت قدماه على الثرى.
نال الشيخ شهادة من القسم العام في الأزهر تؤهله أن ينتسب إلى كلية الشريعة الإسلامية، وانتظم فيها مع طلابها درساً وتحصيلاً يواصل ليله بنهاره، ومستقيماً جاداً. وتمر السنون والشيخ جاد متواصل العمل والتفقه في دينه مستوعب للمعارف العلمية بغير كلل أو ملل، غيور على استقامة زملائه الطلاب.
وتمضي الأيام.. وفي يوم عيد ونحن مجتمعون للمعايدة والزيارة في غرفة الشيخ حافظ صندوقة رحمه الله.. قال الشيخ توفيق جرار رحمه الله: يا إخوان تعلمون أن يد الله مع الجماعة، وتعلمون أن الكف وحدها لا تصفق كما يقول المثل.
قلت: وماذا يريد الأخ الكريم؟ قال الشيخ توفيق: حينما نجتمع معاً تكون لنا قوة الجماعة، فلماذا لا نحتفظ بقوة الجماعة.. وأتم حافظ الكلام فقال: في شؤون إيجابية وبناءة.. ولقيت الفكرة قبولاً وترحيباً.. وبالفعل طبقت في مجالات التعاون والإرشاد والأخذ بيد الضعيف..وكان للشيخين أثر في هذا المجال..
وتمر السنون وأصبحنا على أهبة التخرج في الأزهر الشريف.. وحيث كنت قد آثرت مختاراً أن أكون معلماً.. فالتعليم وظيفة الأنبياء الكرام وسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث معلماً وخير المعلمين من كان عنده دين وغيرة على الأمة ونشئها.
وكان من تمام سعادتي النفسية أن كنت طالباً في كلية اللغة العربية، وحينما تخرجت فيها عزمت أن أبدل لباس الأزهر من جبة وعمامة بما يلبسه الناس من ثياب عادية. وتهيأت لذلك عازماً على تنفيذه، وإذا بي بعد صلاة المغرب أسمع قرعاً على باب حجرتي.. وإذا بالشيخين الفاضلين حافظ وتوفيق بسمتهما الوقور الأزهري.. فرحبت بهما في هشاشة وبشاشة، وقلت في نفسي:
إن للشيخين شأناً دعاهما لزيارتي.
وابتدرني الشيخ توفيق قائلاً:
نحن قاصدان راجيان!
فأجبتهما وأنا في دهشة مفاجئة:
بل أنتما الأخوان الآمران المطاعان.
وقال حافظ داخلاً في الموضوع مباشرة:
سمعنا يا فلاّح.. أنك تريد أن تبدل زيك الأزهري فتصبح بالبدلة الإفرنجية كهؤلاء الأفنديات ونحن نريدك أن تظل محتفظاً بزيك الشرقي الأزهري لباس المنتمين لأزهرنا الشريف.
وقال توفيق رحمه الله مؤكداً ما قاله حافظ:
أنت يا أخي حباك الله تعالى بالقدرة الأدبية شعراً ونثراً، وكما نراك تكتب في صحف مصر، تكتب إن شاء الله في صحف فلسطين وتخطب في منابرها، وتحاضر في نواديها وستعلّم بإذن الله في مدارسها، ونريد أن يقال عنك: إنك شيخ منا نحن الأزهريين، حتى يكون لنا في ميدان الفن الأدبي صوت مسموع.
وقال حافظ في حماسة وانفعال:
ألا تحب الدين؟ نريدك أن تكون من دعاة الدين..
وبعد فترة صمت أطرقت مفكراً.. أجبت الأخوين الكريمين قائلاً:
يا أخوي الفاضلين لست أقل منكما غيرة على الإسلام، ولست أقل اهتماماً بالطابع العربي الشرقي، فسأبقى بالزي الأزهري كما بقي فيه كثير من الشيوخ الفضلاء..
وفي أواخر شهر شعبان اجتمع المجلس الأعلى لدور الإفتاء في فلسطين في مدينة رام الله، وفي دار الفتوى في رام الله.. التقيت شيخنا توفيقاً رحمه الله وتذاكرنا الماضي المنصرم، واستعرضنا المآسي والمصاعب التي تمر في ظلالها البلاد وما بلغ بها من سوء وهوان وضعف.
فقال الشيخ:
أنسينا قول الله تعالى [ فإن مع العسر يسرا. إن مع العسر يسرا] ؟ وأردف قائلاً: وكيف ستتحقق البشائر وترتفع رايات الإنتصار لولا الإحتكاك والصدامات إن المستقبل للحق.
وفي اليوم الخامس من شوال من سنة 1416 ه كنت في مدينة البيرة ذاهباً إلى الطبيب، والتقيت أخي الفاضل الشيخ عباس نمر فأنبأني بالخبر الصارع.. لم أتمالك مشاعري وغلبني جائش العاطفة.
قال الشيخ عباس:
كان الشيخ يؤم الناس في صلاة العيد وما إن بلغ (والذي أخرج المرعى فجعله غثاء أحوى) حتى وقع ملاقياً ربه. نعم يا أبا المهدي نشأت تقياً صالحاً، وأمضيت الحياة تقياً صالحاً وها أنت تلاقي ربك تقياً صالحاً، في هذا اليوم الأغر بعد إنهاء واجب رمضان صياماً وقياماً ودروساً يفيض منها الأمل والثقة والإيمان بتحقيق الأماني بمشيئة الله.. فإلى رحمة الله.
برقية تعزية من الأسرى في معتقل مجدو:
بسم الله الرحمن الرحيم
[ وما كان لنفس أن تموت إلاّ بإذن الله كتاباً مؤجلاً].
من بين الأسلاك وخلف الأسوار.. من معتقل مجدو نقول لكم عظّم الله أجركم، وشكر الله سعيكم، وأحسن عزاءكم وغفر لميتكم.. الأهل الكرام آل جرار الأعزاء..
لقد آلمنا المصاب وحزنت القلوب ولا حول ولا قوة إلا بالله.. هذه سنة الله في الحياة.. نعم رجل المبادىء وفارس الحق في درب المجد دون كلمة وداع اللهم إلا ابتسامة يواجه بها المؤمن الموت (ويموت المؤمن مبتسماً).. هنيئاً له موتته لقد لقي الله وهو يدعو إلى الله يصرخ في الناس في هذه الأمة النائمة أن أفيقوا.. يستنهض الهمم وينذر الأمة أن الإسلام والمسلمين وفلسطين في خطر.. نعم بعزيمة منبثقة من إرادة الشباب وحماستهم وحكمة الشيوخ.. نعم يا مربي الأجيال فكان لك المكان اللائق على كرسي الأستاذية.. علمتنا كيف يكون العطاء بلا خوف ولا تردد.. كنت مع الحق حيث كان، واعتصمت بمحراب الإيمان، ورفعت راية القرآن بحماس وقوة.. علمتنا أن هذا الدين لا يقوم بالرخص بل بالعزيمة والتضحية والفداء.. علمتنا الشعار الذي يدوي في كل العالم يهدد الغرب الصليبي الحاقد والصهيونية العالمية والتآمر الدولي على فلسطين وأهل فلسطين.. هذا الشعار الإخواني الحماسي: الله غايتنا والرسول زعيمنا والقرآن دستورنا والموت في سبيل الله أسمى أمانينا.. علمتنا كيف يكون المسلم دائماً في خدمة الفقراء والمساكين.. وكيف يكون محارباً للفتن وجامعاً للكلمة، فكنت رجل الإصلاح وقبل ذلك العالم المجاهد الذي رفض أن يفرط بذرة تراب من فلسطين.. لقد كنت نوراً للهداية، وناراً على المنحرفين.. أستاذاً للجيل المؤمن وحرباً على الفاسقين.. رحلت أيها الفارس وتركت خلفك ألف فارس.. معهدك الثري أودعته إيانا مصاناً، ورسالتك التي أردت تبليغها وصلت.. وأخيراً لا نقول وداعاً بل إلى لقاء يجمعنا على حوض النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم.
يرحمك الله يا شيخ المجاهدين وحامل مشعل الهداية والنور..
وتعازينا إلى آل جرار وأهالي مدينة جنين وإلى الشعب الفلسطيني.
الأسرى في معتقل مجدو
21/2/1996
جـنـين في يوم عيد الفطر وقـفـت بالمسجد المحزون أسأله أجـابـني المنبر المفجوع في ألم أنـظـر لمحرابنا تدرك خواطره قـد غـاب عنا وكل العمر نعرفه مـا مـن تـجارة دنيا أشغلته بها خـمـسون عاماً من الأيام نعرفه يـدعـو إلى الله من علياء منبره هـذي تـجـارة شيخ كان مفتينا يـا أيـها البدر فينا كنت ذاشرف يـا شـيـخنا قد حباك الله مكرمة يـا شـيخ توفيق يا جرار قدنزلت أتـاك أمـرتـوقّـف جئتنا قدرا أنـت الإمام ورسل الله قدحضرت فـطارت الروح من محرابها فرحا قـد فارقت عيد دنياها وقد طربت هُـنّـئـت يا شيخنا من كل أفئدة مـا كـل من يتمنى الموت يدركه فـارقـت دنـيا وقد عايشتها علماً إنـا على العهد لن ننساك في عمر جـزاك ربي جنان الخلد قد رحُبت | تلقانابـعـد الـثلاثين من صوم لمولانا هل كنت يوماً لبعض الناس عنواناً أرجـوك لا تشعل الأحزان نيرانا قـد ودع الـبـدر لا يأتي فيلقانا فـي كل فجر يضيء الدرب إيمانا ومـا ارتضى غير بيت الله ميدانا لـدعـوة الـحق بين الناس ربانا ويـنـشـر الخير إسراراً وإعلانا ومـرشـداً لـطريق الحق إخوانا فـي عـزة الـحق للرحمن إذعانا تـؤمـنـا قـائـماً بالذكر هيمانا أوامـر الله كـي تـهديك غفرانا وأنـت تـتـلـو من الآيات قرآنا مـن الـسماء لقبض الروح إيذانا فـي مـوكب من ملاك الله يغشانا إلـى الـجنان لتلقى اليوم رضوانا تبغي الرحيل من ا لمحراب لو كانا بـمـثـل موتك قد أكرمت إحسانا فـكـنـت فـي هيبة للعلم عنوانا قـد كـنـت رمزاً لنا شيباً وشبانا ونـلـت فيها المنى روحاً وريحانا |
جُـد بدمع العيون بعد جاءك الموت في صلاة وذكر كـنت تفتي لنا برأي رشيد لك في الفضل سابقات توالت أسـأل الله أن يعوض خيراً | الفقيدودع المحاريب في يوم فـهـنيئاً لك اختيار المجيد كـنت تبدي لنا بنصح سديد قد نصرت الإسلام منذ عقود ولك الأجر في جنان الخلود | عيد