الشهيد وائل عقيلان والمجاهدة أمية جحا
الشهيد وائل عقيلان والمجاهدة أمية جحا..
عدة أقلام
شعلة المستقبل في ظلمات واقع النكبة الأكبر حول فلسطين
شهيد من فلسطين.. يجسد ماضي النكبة بفلسطين ومستقبل التحرير..
بقلم نبيل شبيب
كم قيل وكتب عن نكبة 1948م، حتى صار ذكر كلمة "النكبة" كافيا لمعرفة المقصود بها..
وكم شهد 61 عاما مضت على تلك النكبة من النكبات العسكرية والسياسية في تاريخ القضية..
وكم من شهيد وجريح، ومعتقل وأسير، ومبعد خارج الحدود و"عالق" ما بين الحدود، ومعذب ما بين الحواجز ومعذب على أبواب المعابر، وكم من مشرد تشريدا بعد تشريد، وكم من دمعة في عين طفل وحسرة في نظرة شيخ واستغاثة على لسان امرأة وغضب لاهب في الصدور.. وجميعهم يرسمون مشاهد النكبة يوما بعد يوم، وعاما بعد عام، وموقعا بعد موقع، وحدثا بعد حدث.. ويرسمون أيضا معالم مستقبل آخر غير ما يُصنع عبر النكبات صنعا، وعبر ترويج الاعتياد على الاستخذاء والذل والخنوع على عتبات من يتسولون لدى عدوهم عسى يعطيهم بقية باقية من ماء وجه فقدوه.
إذا كانت شهادة وائل عقلان تلقي من خلال سيرة حياته وسيرة شهادته أضواء كاشفة على ظلمات واقع قائم، فإنه وهو ابن فلسطين الأصيل، يشهد أيضا، بحياته وبشهادته، على ما وصلت إليه القضية في هذه المرحلة الحاسمة، وأنها أصبحت على مفترق الطرق بين أعمق ما حُفر لها من خنادق للتصفية، وبين درب المقاومة والصمود الواصل حتما إلى هدف التحرير وعودة الأرض لشعبها والشعب لأرضه.
حياة الشهيد شهادة صادقة على أن الصادقين من أهل فلسطين تجاوزوا "النكبة" وما صنعت على توالي الأعوام الماضية، ورأوا المخرج الوحيد من أنفاقها فسلكوه، فكان لصمودهم ومقاومتهم وتضحياتهم وعطائهم المتواصل وبطولاتهم المنقطعة النظير، ما أذهل القريب والبعيد، ممن لا يزالون يلوكون آثار النكبة التي استمرؤوها، ويحفرون المزيد على درب الانحدار لتصفية القضية، ويحسبون أنهم قادرون على الوقوف في وجه تيار جديد، ولد في ظلمات النكبة، وأمسك بمشاعل المقاومة للتحرير، وأبى المضي من ورائهم نحو قاع التسليم والخنوع.
وشهادة الشهيد وسط الحصار الإجرامي الرهيب حول أهل فلسطين في قطاع غزة، إدانة صارخة لهؤلاء ولما يصنعون، وإعلان صريح أن النكبة الأكبر في حياة فلسطين وحياة العرب والمسلمين هي نكبة وجودهم هم، والنكبة بهم هم، والنكبة بسياساتهم وممارساتهم هم، وإيذان بأن التحوّل في مجرى قضية فلسطين وصناعة أحداثها وبناء مستقبلها، قد بدأ رغما عنهم، ويستحيل أن يتوقف قبل بلوغ الأهداف الجليلة المشروعة، ووضع حد نهائي لصناعة النكبات، للمضي بالأمة ومع الأمة على طريق النهوض والبناء.. استعلاءً على العوائق الخارجية والداخلية، وشموخا فوق الخيانات المستترة والعلنية، واحتقارا لمرتكبي الجرائم دون حياء بحق القضية وأهلها وأرضها، وحق العرب والمسلمين في كل مكان.
ويتلاقى مشعل الشهيد وائل بجهاده واستشهاده مع مشعلٍ كانت وما تزال تحمله يد زوجه المجاهدة أمية، بريشتها وقلمها وعبر محطات حياتها، وليس لمن يختار درب الجهاد حياة خاصة وحياة عامة، فجميع ما ينبض في قلبها داخل بيتها المنير بنور الشهادة والصبر على الأحزان، وكل ما ينبض على أوراقها ويعبر الأثير إلى أنحاء الدنيا حاملا ما يحرك ريشتها من آمال وأشجان، يشهد على ثبات يضاهي ثبات الجبال الراسيات، ويساهم في إحياء جيل جديد، يطل على أفق جديد، وينظر إلى النكبات الماضيات فيتردد القسم في جوارحه وعطاءاته قبل شفتيه، أن لا ركون بعد اليوم ولا تسليم، ولا استخذاء ولا أغلال.. ففلسطين لا تودع شهيدا بعد شهيدا إلا وتودّع معه قطعة بعد قطعة من ظلمة ليل طال وآن أن يرحل، وفلسطين لا تقدم خنساء بعد خنساء وأسماء بعد أسماء إلا وتقدم معها شعاعا من نور فجر طال انتظاره وآن أن ينبلج.
أنتم يا أهل غزة وجنين، وأهل أم الفحم ونابلس، وأهل بيت لحم ورفح، وأهل بيت المقدس ويافا.. أنتم من تنشرون اليقين من أقصى المشرق إلى أقصى المغرب، أن لن يكون يوم قادم على هذه الأمة كأيام نكباتها الماضيات، ولن يكون النصر في جولة قادمة تخوضها هذه الأمة ضحية مزيد من الخيانات والمؤامرات، ولن يعود الجيل الذي يعيش بكم ومعكم ومع تضحياتكم وبطولاتكم وانتصاراتكم.. لن يعود إلى دروب التضليل والتخذيل والتفريط، ولن يبقى أسير القيود والأغلال والقمع والقهر، فقد تحركت قافلة التغيير، وبدأت تباشيره بالظهور من وراء الآلام والأحزان، فلن تتوقف بعد اليوم بإذن الله.
أنتم يا وائل وآل وائل وأمية وآل أمية، أنتم وأمثالكم من يمحو بنور الجهاد والاستشهاد والصبر والعطاء تلك الصفحات السوداء المشينة في سجل التاريخ، عن موبقات قومِ الصّغار والمذلّة، المتجبرين على أوطانهم وأهليهم، والأوطانُ والأهلون منهم براء، القابعين تحت أقدام أعداء أهليهم، وهم معهم في الحياة الدنيا والآخرة سواء بسواء.
وأنتم، أنتم يا وائل وآل وائل وأمية وآل أمية، أنتم وأمثالكم من يكتب بنور الجهاد والاستشهاد والصبر والعطاء ما يُعزّ الأمة وتعتز به، وما يحتضن الشموخ في جبهة التاريخ فيحضنه، فأبشروا بالنصر وعدا من الله، في الحياة الدنيا وأبشروا بالفوز الأكبر في الآخرة الباقية.
عندما يبكي الرجال.. بقلم أمية جحا
أمسك بيدي بقوة وسالت دمعة على خده.. -وكنت طوال عهدي بزوجي الذي قارب الأربع سنوات لم أره يذرف دمعة واحدة إلا مرتين، الأولى عندما استشهد أخوه الصغير محمد قبل عام ونصف تقريبا.. والثانية عندما أخذ يسرد لي أسماء من استشهد من رفاقه في الحرب على غزة وأسماء من سبقوه من رفاق قبل الحرب- وقال: لقد اشتقت للرباط يا أمية وفي الصفوف الأمامية كما كنت دوما..
قلت له: لا شك ستعود قريبا يا حبيبي.. وتقاتل الأعداء بسلاحك.. وستلقى الله شهيداً بعد عمر طويل وحسن عمل بإذن الله.. فأنا ما ارتضيت إلا أن أتزوج برجل مجاهد في سبيل الله
قال بصوت ضعيف: ماذا سترسمين غدا؟
قلت: الأخبار تتحدث عن عودة جولات الحوار والمصالحة الوطنية في القاهرة
صمت.. و شد على يدي .. وأغمض عينيه ونام
دقائق معدودة وفتح ممرض باب الغرفة وقال: موعد الإبرة. فتح وائل عينيه.. ورسم ابتسامة على شفتيه وقال للممرض: ألا يوجد إبرة بطعم الدجاج؟.. ضحك الممرض وقال وهو يمسح موضع الإبرة: إن شاء الله تشفى قريبا وتعود لتأكل كل أصناف الطعام.
غادر الممرض الغرفة وأقفل الباب
قال وائل: ماذا حدث بموضوع السفر للعلاج في الخارج؟
قلت: الإجراءات من الجانب الفلسطيني تمّت.. ولم يبق سوى معبر رفح
ضحك متوجعاً: أليس هو المعبر ذاته، الذي أقفل في وجهنا قبل عام ونصف، وأبقانا عالقين في مصر حوالي تسعة أشهر!!!
ضحكت بمرارة وقلت: بلى.. هو ذاته
ثم قال بحزن: رسمت كثيرا عن معبر رفح ومعاناة المرضى والمحاصرين والعالقين.. ولم يدر بخلدك يوما أن ينضم زوجك إلى قافلة المرضى الذين ينتظرون فتح المعبر!!!
قلت: الحمد لله رب العالمين في السراء والضراء.. قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا.
صمت من جديد.. وأخذ يتحسس مكان الجرح الغائر في بطنه.. ثم قال: ليتها كانت رصاصة صوبها نحوي صهيوني وأنا أقاتلهم.
أغمض عينيه.. ولكن ليس لينام هذه المرة.. بل كان يجاهد، ليمنع الدموع أن تسيل. كنت أرى عراك جفنيه وارتعاشة أهدابه، بينما لم يقوَ جفناي أن يصدّا سيل الدموع الجاري فكنت أبكي بصمت.. وأنتحب بلا صوت.
قال ولا يزال مغمض العينين: كلها ابتلاءات من الله يا أمية.. وعسانا نكون من الصابرين والمأجورين.
ثم أمسك بيدي وشدّ عليها بقوة ثم نام. كان متعبا جدا.. وكنت حريصة أن يحظى بقسط من النوم والراحة.. وكنت أوقن أن قبلتي التي طبعتها على جبينه عندما هممت بالخروج من المشفى لن توقظه.
آثرت أن أمشي. شوارع عدة مررت بها.. كانت خطواتي سريعة بسرعة دقات قلبي الموجوع لحال زوجي. كنت أبكي بحرقة وكادت الدموع تخفي عني معالم الطريق.. لم يكن يهمني من أنا ومن أكون.. ولم يكن يهمني إن كانت عيون المارة ترمقني. كل ما كان يهمني ولا يزال.. أني زوجة.. لا تريد أن تفقد زوجها بسبب الحصار. أليس فتح الطرق والمعابر.. وإنهاء الحصار.. وإعادة حقنا في العيش بحرية وكرامة.. وحقنا في السفر والتنقل.. وحقنا في العلاج.. وحقنا في التعليم.. أولى من فتح الطرق والمعابر لجولات حوار.. ثبت أنها لا تشفي من سقم، ولا تسمن من جوع!!
سلام يا زوجة الشهيدين.. بقلم د. ديمة طارق طهبوب
أيا أميتنا
قليلة هي ألقاب ومنازل الشرف التي تفاخر بها النساء في تاريخ أمة الاسلام فما كمُل من النساء إلا ثلة قليلة بثبات إيمانهن في وجه الطغيان والفتن في مثال مريم ابنة عمران وآسيا امرأة فرعون، ووراثة الرسالة النبوية في خديجة وفاطمة زوج علي رضي الله عنه وابنة المصطفى صلى الله عليه وسلم، أمثلة بعيدة، مثالية، كنا نحفظ سيرتها ونذكرها في معرض الفخر والانتساب، والبعد بيننا وبينها كما بين السماء والأرض
أسماء بنت عميس زوجة الشهداء الثلاثة، جعفر بن أبي طالب، وأبي بكر الصديق، وعلي بن أبي طالب، وكم ضربناها مثلا في الصبر والجلد والإيمان، والرسول يوصيها بعد حبيبها الأول "يا أسماء لا تقولي هجرا ولا تضربي صدرا، يا أسماء هذا جعفر قد مرّ مع جبريل وميكائيل وعوضه الله عن يديه جناحين يطير بهما حيث يشاء، ثم يأتي الإكرام والجبر في أبي بكر، في ثاني اثنين إذ هما في الغار لتعيش بنفسها ظلال "لا تحزن إن الله معنا"، ثم تغسله صابرة محتسبة مثنية عليه وعلى جعفر إذ قالت "ما رأيت شابا خيرا من جعفر ولا كهلا خيرا من أبي بكر"، لتكمل مسيرة الجهاد مع علي بن أبي طالب الذي أصبح يفخر بها ويقول" كذبتكم من النساء الخارقة، فما ثبت منهن إمرأة الا أسماء بنت عميس".
صحابة ثلاثة، سابقون ثلاثة، مبشرون ثلاثة، شهداء ثلاثة، شفاعات ثلاث، جنان لا تُعد ولا تحصى، كلهم وكلها لامرأة واحدة.. أسماء بنت عميس
كانت رمزا بعيد المنال، وأصبحت يا أمية واقعا يعيد المثال..
أتعرفين يا أمية ماذا يحصل عندما يبكي الرجال؟؟؟
عندما يبكي الرجال ألما وحسرة على جسد ضُعف عن الجهاد في سبيل الله، تلملم النساء حسرة الحب والقلب وتلتحم بالحب الأكبر في خندق البندقية.
عندما يبكي وائل تكفكف أمية الدموع وتمسح الحزن وتزرع الأمل حتى آخر لحظة
عندما يُستشهد وائل تقوم أمية لتحيي غزة وتحيينا أملا وصمودا وجهادا
شهيدان وشفاعتان والمرأة واحدة: أمية جحا
سلام عليك يا أسماءنا، سلام على دموعك وحرقة قلبك، سلام على شموخك ورفعة رأسك، سلام على رامي ووائل، سلام على نورك، سلام عليك يا زوجة الشهيدين، سلام عليك وألف سلام
سلام على قلب تعنّى
فأزهر رغم مر الحال وردا
سلام على قلب ترجل بالمعاني
فسطر في رياض النفس سفرا
فديتك إن قضى ربي بأمر
ليست صدفة يا أمية..! بقلم لمى خاطر
لطالما سألت نفسي كلما كنت أقرأ شيئاً لرسامة الكاريكاتير الفنانة أمية جحا عن سر تلك القوة التأثيرية لكلماتها والتي لا يمكن إلا أن تجلب الدمع لعيني القارئ مهما حاول التجلد وهو يطالع حروفها النازفة من الأعماق ويستشعر وقعها يدب في كل ذرة من كيانه..
وكان آخر ما كتبته أمية مقالاً قبل أيام شخصت فيه معاناة زوجها الذي كان طريح الفراش ينتظر فتح معبر رفح للتوجه إلى العلاج في الخارج، وتحدثت فيه عن دموعه التي قلما تترجل من عينيه، وكيف أنها تسللت من تحت جفنيه وهو يتحسس مكان الجرح الغائر في بطنه ويتنمى لو أنها كانت آثار رصاصة تلقاها وهو يقاتل..
ثم شاءت إرادة الله أن ترتقي روحه إلى بارئها بعد بضعة أيام على مقال زوجته وتحديداً مساء الأحد 3/5/2009
حتى هنا تبدو الأمور عادية.. فالمهندس وائل عقيلان زوج الأخت أمية جحا ليس أول ضحايا الحصار الصهيوفرعوني ولن يكون آخرهم، ومن اعتاد على سماع كلمة حصار لا بد أنه قد ألف بالضرورة وجوه مأساتها، وصارت أية إضافة لضحاياه مجرد رقم عابر لا يعني شيئا..!
لكن وائل عقيلان المهندس والمحاضر الجامعي والكاتب ورئيس مجلس الطلبة السابق للجامعة الإسلامية وزوج الفنانة أمية جحا لم يكن رجلاً عادياً متعدد المواهب والمهام وحسب، بل كان فوق وقبل ذلك كله مجاهداً وقيادياً في كتائب القسام ومن رعيلها الأول الذي صاغ جانباً من أمجادها وتعرض لمحاولة اغتيال صهيونية سابقة قضى فيها عدد من رفاقه الذين سبقوه للشهادة.. وهو كذلك شقيق لشهيد مقاتل من سرايا القدس، ورفيق درب الشهيد رامي سعد الزوج الأول لأمية جحا الذي استشهد قبل ستة أعوام ذات معركة قسامية في الشجاعية..
وماذا أيضا؟.. كل من رامي ووائل استشهد في بداية أيار، وكلاهما كان عضوا في الوحدة القسامية المختارة 103. ولا غرو، فأمية كما قالت عن نفسها لم تكن لترضى الزواج إلا من مجاهد في سبيل الله، ومآل المجاهد معروفة سلفاً لكل من ارتضت الاقتران به..
الآن يصبح كنه ذلك السر جليا.. سر تلك الدفقة الشعورية الصادقة الكامنة في حروف أمية، وسر ملامح الإبداع والتميز في ريشتها، والأهم.. سر ذلك الإصرار الساكن في جوانحها وطاقة الصبر الهائلة التي تقابل بها مآسيها المتتالية!..
فأمية تفيأت ظلال الجهاد وعاشته واقعاً وتنسمت عبير الشهادة من دم أقرب الناس إليها، ولامست جمر الفجيعة برحيل الأحبة، فكانت ترسم وتكتب وتحيا بوحي من تجليات الواقع وبنبض لا يجافي الفعل إنما يعبر عنه ويترجمه بشكل مباشر..
لم تكن أمية وهي تشخص مأساة شعبها بريشتها تطل عليها من بعيد كحال النخب والمبدعين الواقفين على هامش الأحداث، بل كانت تسطر نزفها وثورتها ويقينها، ولذلك.. فلم تكن صدفة أن يجتمع لديها هذا التأثير الساحر في حروف مدادها كما في خطوط ريشتها، تماماً كما لم تكن صدفة أن تختار دائماً الاقتران بمجاهد، ولا أن يصطفي الله زوجها الأول ثم الثاني بعده بسنوات في الشهر ذاته!..
في مثل هذا المقام لا يملك المرء الكثير من الكلام ليقال، ليس فقط لأن أمثال أمية أكبر من كلمات العزاء الخجلى ولا لأن قامات الشهداء أرفع من مقامات الرثاء، بل لأن صورة الشهادة والحصار في غزة واضحة الجلاء ولا تحتاج تفسيراً أو تحليلا، وتعبر عن نفسها كما تلخصها حكاية أمية حيث تنحصر خيارات الموت لدى أهل الرباط ما بين القضاء تحت وابل الرصاص أو تحت وطأة الحصار، وكلاهما شهادة..!
وكانت مشيئة الله أن يلقى شهيد الحصار الأخير وائل عقيلان ربه وهو ملتصق بأرضه وثيابه لا تزال تعبق بغبار المعارك وصولات العز، فلربما لو قدر له أن يجتاز المعبر لعاجلته أيدي جلاوزة نظام الأمن القومي المزعوم قبل أن يصل إلى مبتغاه، ولمزقت جسده السياط وصعقات الكهرباء ولكانت مرارته وأهله مضاعفة، فاختار الله تعالى له هذه الميتة بين أهله ورفاق دربه السابقين واللاحقين وعلى مرمى حجر من خطوط الرباط الأولى التي كان يتوق إليها قبيل رحيله.
وإن كانت أسباب الموت متعددة وهو واحد -كما قال الشاعر قديما- ففي غزة فقط -المتفردة في كل شيء- تتوحد أسباب الموت رغم اختلاف وجوهها لأن غاياته واحدة، تماماً كما تتعدد أسماء المتواطئين على حصار غزة وتتوحد غاياتهم وتتطابق سحناتهم ولكناتهم -وإن اختلفت– لأنها كلها غريبة عن ملامح الصامدين، ودخيلة على أبجديات أهل الجهاد والشهادة.
آهٍ أميّة.. بقلم سوسن البرغوثي
نقف خاشعين أمام رهبة الموت، تغتسل وجوهنا المفجوعة بصفرة الصدمة، وألم الفقد، وحزن يطفو فوق أسئلة تتوارى إلى حين أمام حقيقة المصاب..
يصعب على المرء أن يبوح بأحاسيسه عبر كلمات، وهو يخطّها على الورق الأصم، فهي أصغر بكثير من أن تفي حجم الحزن، وأن نسطر كلمات رثاء، يكون إيقاع الفقد أقوى من حروفها.. تحيط بما يعتمل في الصدور من حزن مشوب بالغضب، يكبّل اللسان، ويلجم إرادة التحمّل، ويحاصر قسوة الصدمة في قوقعة أعماقنا.
فجأة يختار ملك الموت من مواكب الأحبّة إلى قلوبنا شهيدا، هكذا دون موعد، يكسر رتابة الحياة، ويضيّق علينا فسحات الأمل وساحات الانتظار، كلها تتقزّم أمام إرادة القدر.. يغادر الشهداء إلى عالم أكثر رحمة وعدلاً، وتبقى الأسئلة الحائرة تجول في خفايا النفوس.
لماذا نفقد الأحبة، لماذا يعلن الحصار حربه القاسية، وكيف تستطيع النفوس المستهترة العبث بحياة مليون ونصف من البشر؟.. تختطف من بين ظهرانينا أحلامهم وأمنياتنا..
أعهدك الصابرة أميّة، المؤمنة بمشيئة الله وما قدّر فعل. صمودك الصعب لرحيل من أغلى ما تملكين في هذه الحياة، يتوّجك زوجة لشهيدين.. وكما قالت أم الشهداء عندما سُئلت عن ارتقاء فلذات كبدها للعلياء: أعطيت الغالي للأغلى، كلهم شهداء خلعوا عن النخوة العربية ثوبها الذي كان ملاذ دفء للمظلومين.
ذنبكم، أنكم تنشدون الحرية بعزة وإباء، في زمن كثرت فيه قوافل العبيد الجاحدين المخذولين، وأنتم الأسرى في حضن وطن محاصر، تطالبون بحياة كريمة، أما خطاياهم التي لا تعد ولا تحصى، فإنهم يقتلون قيمة الحياة.
وائل عقيلان.. عندما ينجح الحصار فيما لم ينجح فيه الاحتلال.. بقلم رجب الباسل
ضحية جديدة من ضحايا الحصار المفروض على قطاع غزة.. موت جديد بيد الأشقاء لا بيد الأعداء.. أقصى ما كان يتمناه العدو الصهيوني هو الوصول لأخر أعضاء المجموعة 103 مجموعة المهام الخاصة فى كتائب القسام لقتله لكننا قدمنا رأسه إليهم على طبق من ذهب.
ترجل المهندس وائل عقيلان القيادي فى كتائب القسام أحد الذين قامت عليهم عملية التأسيس الثانية للكتائب مع انطلاق انتفاضة الأقصى عام 2000 والذين وثق فيهم مؤسس الكتائب الشهيد صلاح شهادة لإعادة الحيوية للكتائب التى كان قادتها ما بين أسير فى سجون العدو ومعتقل فى سجون السلطة الفلسطينية ومطارد من الاثنين معا.
ترجل وائل عقيلان الذي دوخ قوات الاحتلال الصهيوني للحصول على رأسه، لمَ لا وهو المطلوب رقم 9 في قائمة المطلوبين لدى الاحتلال الصهيوني وأحد الذين رفضت قوات الاحتلال وقف مطاردته حتى بعد انسحابها من القطاع.
دوّخ وائل الاحتلال ولكنه داخ على يد الأشقاء مرة عالقا لمدة 9 شهور عام 2007 على الحدود بين مصر والأراضي الفلسطينية، والمرة الثانية وهو فى المستشفى لشهر كامل عام 2009 يحاول أهله وإخوانه أن تسمح له السلطات المصرية للخروج من قطاع غزة طلبا للعلاج في مصر أو غيرها من الدول.
بكى وائل على ما وصل إليه حاله محاصرا لا يستطيع أن يتلقى العلاج، وهو الذي لم يبكِ من قبل رغم أنه عاش مطاردا.. بكى وائل ليس خوفا من الموت الذي واجهه عشرات المرات عندما كان يتصدى للاقتحامات الصهيونية للقطاع أو محاولات الاغتيال الفاشلة التي تعرض لها واستشهد من كان معه ولكنه بكاء من يشفق على قسوة الأشقاء "وظلم ذوي القربى أشد مرارة على النفس من وقع الحسام المهند"
بكى وائل وبكت زوجته الأخت والصحفية الكبيرة "أمية جحا" ولكن من يسمع بكاء هؤلاء ومن يسمع بكاء 230 شهيداً ضحية الحصار المفروض على قطاع غزة وعشرات بل مئات آخرين على قوائم انتظار الموت "قد أسمعت لو ناديت حيا... ولكن لا حياة لمن تنادي".
نعم أنظمة حية بأجسادها ولكن قلوبها ميتة تسارع لنجدة العدو وتتخاذل عن مد يد العون للشقيق بل قد تسارع إلى وأده إذا كان في ذلك رضا العدو {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ فَعَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُواْ عَلَى مَا أَسَرُّواْ فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ}.
بكى وائل ولم نبك وأخشى أن نبكي حينما لا يجدي البكاء شيئاً، بكى وائل وبكاه ابناه وزوجتاه وأهله ومحبوه، فمتى نمسح عبرات هؤلاء ومتى تفتح الشقيقة الكبرى المعبر لأشقائها أم تنتظر ضوءاً أخضر ممن قتل أبناءنا من قبل وشرد أهلنا فى سيناء ومدن القناة وذبح أطفالنا فى بحر البقر ويحاصرنا بمئات الرؤوس النووية ويهددنا وزير خارجيتها بقصف السد العالي بهذه الرؤوس ويصب لعناته على رئيس أكبر دولة عربية ثم في النهاية نوجه له الدعوة لزيارة القاهرة قلب العروبة النابض عندما كان هناك عروبة وهناك قلب!
بكى وائل وبكاه إخوانه الصالحون فى مسجد الشهيد إسماعيل أبو شنب ومخيم الشاطئ وكتائب المقاومة فمن يبكينا نحن إذا صرنا إلى ما صار إليه.. فليتولانا الله برحمته.
وائل .. اشتاق للرباط وهو على سرير الموت.. حوار المكتب الإعلامي للقسام مع زوجه أمية جحا
س- في البداية، لو تطلعيننا عن طبيعة المرض الذي كان مع المجاهد القسامي القائد وائل عقيلان "أبو حمزة" رحمه الله.
ج- في البداية نسأل الله أن يتقبل وائل "أبو حمزة" في الفردوس الأعلى، وائل قبل عام ونصف تقريبا عندما كنا عالقين في مصر، كان يشكو من الحموضة فاستشار بعض الأطباء الذين تعرفنا عليهم من خلال اتحاد الأطباء العربي، فدلونا على بروفيسور هناك في الجراحة، وفعلا تم تشخيص حالته أنه كان عنده "افتاك" وبعد أسبوع خرج من العملية معافى تماما، ولم يشكُ بعدها من أي شيء إلى يوم تألمه الشديد، مع أن كل شيء بيد الله وقدرته، وبعض الأطباء يقولون إن هناك علاقة بين مرضه السابق ومرضه الجديد، وسبحان الله لكل مرض مقدمات، ولم يشكُ طوال هذه الفترة من أي مشاكل صحية، لدرجة الاستغراب أضع أيضا موضوع أنه قد تعرض إلى "سحر" شرب مادة ما خاصة وأنه تغير من حال إلى حال، لذلك كان يأكل ويشرب ويضحك معنا.
س- كيف تتذكرين السنوات التي أمضيتِها بصحبة المجاهد المهندس وائل؟
ج- لا شك انه أمر محزن على نفسي أن أتكلم عنه الآن بصفة الغائب، واسأل الله أن يكون حاضراً كونه شهيداً، ولا شك أن فقدان وائل يعد خسارة، فقده بكل المعاني "خسارة"، كان راقياً في تعامله مثقفاً ملتزماً مجاهداً محباً للجهاد، وكنت أعلم نهاية حياتي ستكون مع وائل لأنه سيستشهد، وشكل الشهادة كان على سرير المرض وليس في ميدان الجهاد.
س- في أي عام تعرفت على زوجك وائل؟
رحمة الله على وائل، وإن شاء الله يكون من أصحاب الفردوس الأعلى، كان وائل صديقاً لزوجي السابق رامي سعد رحمه الله الذي استشهد قبل سنوات، وكانوا أعضاء في مجلس طلاب الجامعة الإسلامية، وائل في ذلك الوقت كان رئيساً لمجلس الطلاب، ورامي كان العضو في مجلس الطلاب، فكانت زيارته والحديث عنه من أعز أصدقائه، بعدما استشهد رامي وبعد ثلاثة سنوات من استشهاده تقدم المجاهد وائل لزواجي، وكنت حريصة أن ارتبط بإنسان يقدر قيمة الجهاد، إنسان يحمل رسالة، يحمل سلاحا، وبالتأكيد كان لي الفخر حينما تزوجت المجاهد وائل، ربما كانت مناسبة عظيمة على شعبنا الفلسطيني وهو يوم خروج الاحتلال الصهيوني من قطاع غزة بتاريخ 12-9-2005م.
س- ما الذي غيره المجاهد المهندس وائل في حياة فنانة الكاريكاتير أمية؟
ج- كما أخبرتك وائل لم يكن إنسانا عاديا، صحيح أن الشهيد رامي سعد كان يحمل مميزات عالية، وصحيح أن هناك مميزات مختلفة بين رجل وآخر، ولكنه كان يعلم كيف يتعامل معي، كيف يقدر قيمة عملي، لا سيما وأن طبيعة عملي في الفترة الأخيرة قبل استشهاده.. كنت اتأخر في عملي في الشركة الخاصة برسم الكاريكاتير، كنت ربما أعود متأخرة كثيراً ولم يكن يتأثر على الإطلاق مع أنه كان يعود مبكراً من جامعته ويبقى ينتظرني حتى أجهز له الطعام، وهي أمور ستجعلني في الأيام القادمة أبكي بكاءً شديداً.
س- ما هي أبرز الصفات التي كانت في وائل رحمه الله ولم تكن في غيره؟
ج- عندما يكرمنا الله عز وجل بالشهداء بالتأكيد تكون هناك صفات مميزة، فكانت علاقته مميزة جداً بوالديه فكان يحبهم حباً كثيراً، وإن أغضب والده، مع أنه لم يكن ليغضبه فلا يطيق أن يبيت الليل دون أن يرضيه، كان محباً لإخوته، فبكى بكاءً كثيراً عندما استشهد أخوه محمد، فكان يقول محمد أنا من ربيته على الجهاد في سبيل الله، ما من فترة تمر إلا وكان يبكيه بحرقة ويقلب صوره، كان محباً للأصدقاء والجيران، وربّى علاقة وطيدة مع الأطفال لا يتخيّلها أحد منا، حتى أنه عندما مرض كان الأطفال يتراكمون عندي على البيت ويسألون عنه، الحمد لله كانت علاقته رائعة جدا، خاصة وأنه أصبح أميراً للعمل الجماهيري في مسجد الشهيد إسماعيل أبو شنب في منطقتنا بمخيم الشاطئ، اهتم كثيراً بجيل الأطفال والشباب واهتم بهم من كل النواحي في الرياضة والثقافة والسياسة، وأنا اذكر أنه قام بتجهيز المسجد، وكان يجري الاتصال مع أصدقائه بحكم السفر وعلاقاته الخارجية، فكان يتصل عليهم ليشتري ما يحتاجه المسجد، وكان كل فترة وأخرى يقول لي ما رأيك يا أمية أن تتصدقي للمسجد.
س- فنانة الكاريكاتير أمية جحا تودع الزوج الثاني بعد أن ودعت زوجها الأول الشهيد رامي سعد قبل سنوات، ماذا تقولين؟
ج- بالتأكيد هذه هي ضريبة النضال وضريبة الجهاد في سبيل الله، ولا شك أن هذا هو الطريق الصحيح، وأنا لست نادمة على أنني ارتبطت بشخص مجاهد في كتائب القسام، بل هو شرف، وزادني رصيداً عند الله عز وجل، وأتمنى من الله عز وجل أن يكتب له الفردوس الأعلى، وأهم شيء حصلت عليه وهو على سرير المرض عندما قال لي "والله إنني راضٍ عنكي"، والحمد لله هذا الأمر أثر في قلبي وكنت أتألم عندما كان يصارع المرض لأنه تعب كثيراً، وأنا أتوقع بأن الله أراد أن يمسح كل خطاياه بهذا المرض.
س- أمية بعد فقدان الزوج الثاني، كيف تنظر إلى هذه الحياة، وما هي رؤيتها للمستقبل؟
ج- سؤال بالتأكيد صعب، لأني حتى هذه اللحظة لم أعد إلى البيت الذي خرج منه وائل، أتوقع أنها ستكون حياة قاسية بدونه، كما تمنيت ورجوت الله عز وجل أن يرزقني طفلا، ولكن الحمد لله حسبي أن له أطفالا أمثال حمزة ورامي وهناء، وإن شاء الله يسيرون على درب أبيهم ويعوضون أهلهم خيراً.
س- كيف كانت نظرة شهيدنا القائد القسامي وائل إلى الجهاد والمقاومة، وماذا كان يحدثكم عن الجهاد؟
ج- كان مولعاً جدا، لدرجة أنه كان "يغيظني" دوماً بالحور العين، ومنذ اليوم الأول الذي تزوجنا كان يقول لي "خلي بالك لست من الطامعين في هذه الحياة، ولست من الطامعين أن أبقى إلى الأربعين من عمري"، حتى أنه عندما جاء تاريخ ميلاده ال 31عاما كان يقول "يا الله لقد كبرت لا أريد أن أبقى في هذه الحياة طويلا أريد أن استشهد"، أذكر له ليالي الرباط في شهر رمضان على وجه الخصوص وكنت دوما عندما أتصوره بهذه اللحظات كنت أتوقعه أنه سيذهب ولن يعود.
طبيعة وائل هي طبيعة قاسية مع نفسه ويوجد عنده كبرياء لا تتخيله، فكان لا يحب أن يبكي أو أن يظهر في مظهر من الحنين والضعف لحظة خروجه من البيت، حتى في مرضه كان رغم ألمه الشديد من الصعوبة أن تسيل منه دمعه، والدمعة الذي سالت منه هي في اللحظات التي صار هناك نوع من التخبط في حالته، فقال لي "والله إني اشتقت إلى الرباط وأن أعود إلى الجهاد" حتى أن شخصاً من المسؤولين في القسام أتى لزيارة وائل وأخذ وائل يتحسس مكان المسدس بجانب القائد وطلب منه وائل أن يعطيه إياه ليمسكه بيده، فقال له القائد يا وائل، ارحم نفسك، حجم المسدس ثقيل على يدك، فحمله وفك منه المخزن، وكان مشتاقا جداً لحمل هذا المسدس ليخرج به مجاهدا في سبيل الله.