الإمام أبو الأعلى المودودي

د. عبد الله الطنطاوي

الإمام أبو الأعلى المودودي

د. عبد الله الطنطاوي

[email protected]

كان ابن عصره، عرف زمانه واستقامت طريقته، وتطور فكره، وواكب الحالة السياسية والاجتماعية السائدة، فما كان ينادي به في رحلته الباكستانية، غيّر ما نادى به وعارضه في رحلته الهندية، فإذا كان يرفض الديموقراطية الغربية في الهند لأنها تمكن الأغلبية الهندوسية من الأقلية المسلمة ويمكنها أن تقضي على عقيدة المسلمين من خلال القضاء على مناهجهم التربوية والتعليمية، بل وعلى وجودهم الإسلامي، بالقرارات التي تسنها الأغلبية ضد الأقلية.. فإنه في المرحلة الباكستانية يتخذ موقفاً معاكساً، ويرضى بالديمقراطية للتخلص من حكم الديكتاتورية العسكرية الحاكمة المستبدة التي ابتليت بها باكستان كما ابتليت بها سائر الأنظمة العربية والإسلامية التي استولى العساكر على مقاليد الأمور فيها عبر انقلابات، وعلى ظهور الدبابات.

لقد كان عبقرية فذة ونموذجاً متميزاً بين كثير من الدعاة، يحدث الناس باللغة التي يفهمون، ويقدم لهم الإسلام واضحاً ناصعاً نقياً، كما فهمه من خلال اطلاعه الواسع الشامل لسائر ألوان المعارف والعلوم الإسلامية، وبذكاء الدارس الحصيف لثقافات الغرب وحضارته، المقارن بينها وبين الإسلام الذي جاء ليبقى المتفوق على سائر الثقافات والحضارات عبر الدهور، وهذا ما يستنتجه الدارس لكتبه التي بلغت ما بلغت كثرة وعمقاً وشمولاً لشتى مناحي الفكر والتي جعلت منه مفكراً عالمياً، وأحد أبرز قادة الفكر والدعوة والإصلاح في العصر الحديث.

ويكفي أن نعلم أن للمودودي أكثر من مئة وأربعين كتاباً وأكثر من ألف خطاب، ترجم منها الكثير إلى عدة لغات، وكانت زاداً للمفكرين والدعاة من رجال الصحوة الإسلامية ومارست تأثيرها عليهم حيث كانوا في هذا العالم الفسيح.

هذا العبقري:

ولد أبو الأعلى في مدينة (أورانك آباد) من ولاية (حيدر آباد) الركن الإسلامي في الهند، في بيت علم وفضل ومجد ودين.. ينتسب إلى الدوحة الهاشمية الحسينية سماه أبوه باسم جده الأكبر: أبو الأعلى المودودي.

وأما جده لأمه فكان السيد ميرزا قربان علي بيك، وهو من أصل تركي، كان يمتهن الجندية في الجيش، وهي المهنة التي ورثها عن آبائه وأجداده، وكان أديباً وشاعراً.

وكان أبوه (أحمد حسن) محامياً ناجحاً، ولكنه ما لبث أن ترك المحاماة، استجابة لنصح أحد الصالحين وتفرغ العبادة، ثم عاد إلى المحاماة وعاهد ربه ونفسه وشيخه ألا يدافع إلا عن المظلومين ولا يمسك إلا القضايا السليمة العادلة.

في هذه الأثناء ولد أبو الأعلى عام 1903 وفرح أبوه بمولده، وتعهده بالرعاية والتربية والتعليم حسب مبادئ الإسلام وأخلاقه: علمه اللغة العربية، والقرآن الكريم، والحديث الشريف والفقه، وحفظه موطأ الإمام مالك غيباً، كما علمه اللغة الفارسية.

وكان الوالد يحكي لولده النجيب حكايات الأنبياء والصالحين، ويذكر له ويفهمه تاريخ الإسلام والمسلمين، ويروي له الوقائع الكبيرة من تاريخ الهند، وكان يستخلص له منها والدروس والعبر لتفتح ذهنه، فكان لتربية أبيه وتعليمه هذه العلوم العقلية وتلك التربية الروحية، آثارها البعيدة الغور في نفس الفتى الذي بدت علائم نجابته منذ طفولته الحافلة بكل ما يقرب إلى الله تعالى، فقد كان الوالد يصطحب طفله ابن السنوات الأربع معه إلى المسجد ليؤدي الصلوات الخمس كل يوم، كما كان يصطحبه معه إلى مجالس زملائه وأصدقائه، وكلهم مثقفون متدينون وعلى خلق، فاكتسب الطفل ثم الفتى الكثير من العادات والأخلاق الفاضلة من مجالسهم الحافلة بالعلم وذكر الله.

دخل المدرسة، والتحق بتلاميذ الصف الثامن الإعدادي وهو في الحادية عشرة، ونال شهادة الثانوية العامة وهو في الرابعة عشرة، وهذا يدل على نباهته وذكائه بل إنه كان يكتب المقالات في الصحف، ويلقي الخطب وهو في هذه السن.

عاش أبوه فقيراً، وشاركته أسرته شظف العيش، وكذلك عاش أبو الأعلى حياة الفقر والعوز حتى إنه ما كان يجد ما يأكله، فيبيت على الطوى، ويمشي كل يوم عشرين ميلاً في الذهاب إلى المدرسة في البلدة المجاورة، صباحاً وفي العودة مساء وهو صابر محتسب، وقد ازداد صبره على الفقر بعد وفاة والده، وعمر أبي الأعلى لم يتجاوز الرابعة عشرة.

في الصحافة:

عمل المودودي في الصحافة في وقت مبكر، وكان ينتقل من صحيفة إلى أخرى، ويكتب لها افتتاحيات نارية، دفاعاً عن الخلافة الإسلامية الآيلة إلى السقوط، وصار رئيس تحرير مجلة (المسلم) التي تصدرها جمعية العلماء وهو ابن سبع عشرة (1920 – 1923) وبكتابته هذه جمع بين السياسة والإعلام والانكباب على قضايا الإسلام والمسلمين، شارحاً ومنافحاً.

الكاتب والمؤلف:

في هذه المرحلة من حياته، كان ينهل ويعب من معين العلوم العربية والشرعية، فدرس الحديث، والتفسير، والفقه، والأدب العربي، والبلاغة العربية، والمنطق، ثم تعلم اللغة الإنجليزية في أربعة أشهر، ثم درس الأدب الإنجليزي، والتاريخ، والفلسفة، والعلوم الاجتماعية الغربية، وانطلق يقارن بين الثقافة الإسلامية والثقافة الغربية، فيرى البون شاسعاً بين الثقافتين من حيث الأصالة، والعمق والنزعة الإنسانية، وكلها لصالح الثقافة الإسلامية.

بالإضافة إلى الكتابة في الصحف – أكب على التأليف فيما يهم المسلمين فألف – في عمر مبكر أيضاً – مجموعة من الكتب: (النشاطات التبشرية في تركيا – مجازر اليونانيين في سمرنا – مصدر قوة المسلم – الجهاد في الإسلام، وهو في خمس مئة صفحة من القطع الكبير، طبع عام 1928).

ونشر فيما بين 1933 – 1937 مجموعة مهمة أخرى من الكتب، نذكر منها: (نحن والحضارة الغربية – الإسلام في مواجهة التحديات المعاصرة – مفاهيم إسلامية حول الدين والدولة – في محكمة العقل – الرسول والرسالة – التنقيحات – حقوق الزوجية – الإسلام وتحديد النسل –  أسس الاقتصاد بين الإسلام والنظم المعاصرة – الحجاب) ثم تتالت كتبه القيمة: (نظرية الإسلام السياسية – نظرة فاحصة على العبادات الإسلامية – موجز تاريخ تجديد الدين وإحيائه – مناهج الانقلاب الإسلامي – استفسار ذو بال – المصطلحات الأدبية في القرآن – الإسلام والجاهلية – منهج جديد للتربية والتعليم – معضلات الإنسان الاقتصادية وحلها في الإسلام) إلى آخر ما هنالك من كتب تعالج ما طرأ ويطرأ على المسلمين من حوادث وكوارث وحالات تستدعي إيجاد الحلول لإشكالاتها ومشكلاتها.

فالمودودي الشاب أدرك مكائد الاستعمار وأذنابه الذين نادوا بالقومية الطورانية العلمانية، وما تلاها من نشوء الدعوة إلى القومية العربية، رداً على دعاة الطورانية، فكان القوميون العرب مع الإنكليز في حربهم على الأتراك، ومكنوا المستعمرين من السيطرة على البلاد العربية، ومنها الأماكن المقدسة في فلسطين الحبيبة، ودمر الطورانيون تركيا ومزقوا المسلمين، وأدرك المودودي مؤامرة الهندوس على الإسلام والمسلمين، وعلى رأسهم غاندي الذي اتهم الإسلام بأنه دين العنف والإرهاب وأنه فتح البلاد بحد السيف، وأرغم المغلوبين على اعتناقه.

ورد أبو الأعلى على هؤلاء وأولئك.. رد على الدعاة إلى القومية العربية، وقال لهم: إن الإسلام والمسلمين ليسوا قومية بل هم أمة مسلمة ذات عقيدة ومبادئ وأخلاق، تدعو إلى الخير وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، والدعوة إلى الإسلام في عهود السلف لم تقم على أيدي الدعاة المحترفين، لأن كل مسلم داعية يدعو إلى الإسلام بلسانه وفعله وسلوكه والدولة الإسلامية دولة هداية ودعوة بممارستها العدل والتزامها الأمانة والصدق وبعطفها على الفقراء والمساكين وبسلوكها النظيف في الحياة، وبتطبيقها أحكام الله تعالى من أجل نشر العدل الاجتماعي والسياسي والاقتصادي بين الناس، ومن أجل إعلاء كلمة الله في الأرض.

رأى عصره يموج بالأفكار والتيارات الفلسفية والثقافية والسياسية، وعرف أن هذا العصر يفرض على الداعية أن يكون ابن زمانه، وأن يتزود بزاد علمي شامل لسائر مجالي الثقافة والفكر، فآلى على نفسه أن يكون ذلك الداعية المرجى في عصر الاضطرابات والتآمر على الإسلام والمسلمين الغارقين في ظلمات التخلف والجهل.

مجلة ترجمان القرآن:

تولى الشاب أبو الأعلى إدارة مجلة (ترجمان القرآن) وحده عام 1933، وكانت انعطافة كبيرة في حياته، أخذت منه الكثير من الجهد والأوقات، فقد كان الوحيد في إدارتها وهو – كما قال الأستاذ خليل الحامدي – وحده كان يكتب افتتاحياتها وعدداً من مقالاتها، ومساجلاتها، ويرد على أسئلة المطابع لطبعها، يراجع البروفات، ويربط الطرود، ويلصق الطوابع على الطرود، ويحمل الطرود إلى البريد.. كان يسجل العناوين، ويراسل المشتركين، حتى نستطيع أن نزعم أن الدعوة في مرحلتها الأولى كانت المودودي وترجمان القرآن.

كان المودودي يصلي العشاء، ويجلس للمطالعة والكتابة إلى أن يصلي الفجر في مسجد الحي، ثم ينام سويعات ليعود إليه النشاط.. يعود إلى عمله في المكتب، وكان المودودي – في تلك الأيام - يعاني من شدة الفقر، حتى إنه لينام دون أن يجد ما يأكله، وغالباً ما كان يعيش على العدس والماء.

وكان كل همه في هذه المجلة أن يفرغ فيها ما كان اختزنه من علم وفكر وثقافة تتناول سائر الشؤون الإسلامية مستقياً إياها من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ومن الفقه الذي استوعبه.

عرض فيها المبادئ التي استقاها منها، ودعا الأمة الإسلامية إلى حياة جديدة كان يهتف بها: (أيها المسلمون اجعلوا قلوبكم وأذهانكم مسلمة خاضعة لله، تخلوا عن نظم الجاهلية، واسلكوا صراط الله المستقيم، وخذوا كتاب الله بقوة، لتكنوا سادة العالم، وأئمة الحضارات) وكان يضع على غلاف المجلة: غايتها: إعلاء كلمة الله، والدعوة إلى الجهاد في سبيل الله.. همتها: نقد الأفكار الحديثة، ومبادئ الحضارة والمدنية السائدة، بمحاكمتها إلى القرآن.

كانت مقالات المودودي جديدة في مبناها، عميقة في مضموناتها، فلفتت انتباه المفكرين والمهتمين بالإسلام إليها، فبادروا إلى إذاعتها بين المسلمين، وترجمتها إلى اللغات الأخرى، كالإنكليزية والفارسية والفرنسية، ناهيك عن اللغة العربية التي ترجم المترجمون أكثر مقالاته وكتبه إليها، وهكذا استمر الإمام المودودي في تحرير هذه المجلة الرائدة، إلى أن توفاه الله تعالى عام 1979.

انتقد فيها كل شكل من أشكال الجاهلية القديمة والحديثة، انتقد دعاة الجمود والتقليد من أتباع المذاهب الفقهية، كما انتقد أدعياء الاجتهاد المطلق.

انتقد المنكرين لحجة السنة كما انتقد المتساهلين فيها، انتقد دعاة التحرير من الدين، كما انتقد الذين يجعلون الدين تبعاً لأهوائهم.

صرخ في المسلمين: إن الإسلام لا يحتاج إلى أشخاص ضعاف، وإنما يحتاج إلى أبطال.

وقد التقى بالشاعر الإسلامي الكبير: محمد إقبال، واتفق معه على:

1- بيان أوجه النظام الإسلامي بأسلوب علمي.

2- إعداد الرجال الذين يصلحون لقيادة المسلمين فكرياً وعملياً.

ومات إقبال، وفقد المودودي بموته أكبر سند له هذه الحياة، ومع ذلك لم يثن الموت الإمام عن متابعة الطريق الذي اتفق عليه مع إقبال، فانطلق يكتب للمثقفين، ويحاضر ويخطب فيهم ولهم، وحتى استطاع تكوين جيل منهم قادر على تحمل أعباء الدعوة إلى الله، وكانت (ترجمان القرآن) اللسان الفصيح الذي يخاطب المفكرين والدعاة والمثقفين.

الجماعة الإسلامية:

في 24/8/1941 أسس المودودي الجماعة الإسلامية مع قلة من الدعاة والمفكرين والوجهاء وأعلنوا أهداف الجماعة: إقامة دين الله، وإقامة النظام الإسلامي، وكسب مرضاة الله، والحصول على النجاة في الآخرة (الله غايتنا).. بدأت الجماعة بخمس وسبعين عضواً، وسبعين روبية فقط.

ونشطت الجماعة وانتشرت في شبه القارة الهندية، وعندما انفصلت باكستان عن الهند توزعت الجماعة بين الباكستان والهند.

المرحلة الباكستانية:

على الرغم من أن المودودي أيد فكرة التقسيم وقيام باكستان، إلا أنه لم يكن يثق بقيادة معسكر التقسيم، لأنها لم تتبن التقسيم على أساس الإسلام بل على أساس القومية المسلمة، وكان يقول: إن قادة التقسيم سيكونون أول من يحارب الإسلام في دولة باكستان المسلمة. وهكذا كان، فقد قامت باكستان في آب 1947 على أشلاء ودماء ودمار، فقد قتل آلاف من المهاجرين إلى باكستان من الهند، وأصيب آلاف بجروح، وخطفت آلاف من الصغار في الطرقات ونهبت الأموال، وأحرقت البيوت، ودمرت المصانع والمحلات، ونهضت الجماعة الإسلامية بواجبها تجاه أولئك المهاجرين.. خرج رجالها إلى الحدود، وأقاموا المخيمات، وطبخوا وأطعموا اللاجئين المهاجرين، وداووا مرضاهم، ودفنوا موتاهم.. وكان المودودي في طليعة أولئك الرجال.

وهكذا كان دأب الإمام أن يقرن القول بالعمل، حتى لا تكون هناك هوة بين النظرية والتطبيق.

ولهذا ركز على ثلاثة أمور في بناء رجاله:

1- أن يكونوا أقوياء في العقيدة، موثوقين في السلوك، يلتزمون بالفرائض، ويجتنبون الكبائر، ويحلون ما أحل الله، ويحرمون ما حرم الله.

2- أن يكون نظام الجماعة والدعوة قوياً محكماً، ولو أدى ذلك إلى أن ينفض عنها أعز عزيز.

3- أن تشمل الجماعة العناصر المثقفة ثقافة إسلامية شرعية، والعناصر المثقفة ثقافة عصرية، تعملان معاً من أجل إقامة النظام الإسلامي الشامل.

ذكرى ودرس:

عندما زار الإمام المودودي دمشق عام 1955 زرته مع بعض إخواني الطلبة، وقدمنا له أنفسنا بأننا من الإخوان المسلمين، فابتسم الإمام وسألنا:

- هل تعرفون معنى أنكم من الإخوان المسلمين؟

- أجبته بحماس الشباب: نعم نعرف عندما نكبر، سوف نذهب إلى بلاد الهندوس، وإلى مجاهل إفريقيا، لننشر الإسلام وندعو إلى الله.

- وعندما انتهيت من خطبتي التي لخصتها بالكلمات السابقة، قال لنا: معنى إنكم من الإخوان أنكم لن تفكروا بمستقبلكم المادي.

وعندما زار مركز الإخوان في حلب عام 1956 ركز على هذه المعاني، وطالب أبناء الجماعة أن يأخذوا أنفسهم بالعزائم، ويتركوا الرخص العامة، فالمؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف.

كما تحدث عن مأساة المسلمين في باكستان، بعد كل التضحيات الجسيمة التي بذلوها من أجل الإسلام، ثم صار الإسلاميون غرباء فيها، ومع ذلك فسوف تبقى الجماعة الإسلامية مصره على أسلمة باكستان، دستوراً، وقوانيناً، وتربية وتعليماً ومنهج حياة، وتحدث عن المذاكرات المتتالية التي قدمتها الجماعة، ولقيت من أجلها الآلاقي ثم قال: (وهكذا ينبغي أن تكونوا أيها الإخوان، فلا تملوا من الكفاح من أجل تطبيق الشريعة الإسلامية السمحاء).

مقومات الدولة:

كان الإمام المودودي – الذي انتقل من مرحلة الدعوة إلى مرحلة الدولة في المرحلة الباكستانية - يرى أن الدولة المسلمة تنهض على أسس لا بد منها، وقد تمحور فكرة بهذا حول:

1-  الحاكمية التي تعني أن الله تعالى هو الحاكم المطلق لهذا الكون وهو المشرع الأحد.

2- القومية الإسلامية التي تقدم رابطة العقيدة على رابطة الجنس.

3- الديموقراطية الإسلامية وتعني التعبير والتجمع ضمن عقيدة الإسلام وقيمه بعيداً عن العنف والنزعات الانقلابية.

ومن هنا كانت الوسائل التي اعتمدها المودودي في الإصلاح هادئة، وعلنية، وسلمية، ومع ذلك، لم يسلم من عدوان الحكام الطواغيت عليه، فقد اعتقلوه أربع مرات، وحكموا عليه بالإعدام مرة، وأمضى في الاعتقال سنوات، وهو صابر محتسب، يرفض أن يقدم استرحاماً باسمه أو باسم أهله أو محبيه.

مواقف لن تنسى:

اللواء خطاب يتذكر:

حدثني اللواء الركن محمود شيت خطاب – رحمه الله رحمة واسعة – قال: ذهبت بصحبة الرئيس عبد السلام عارف – رحمه الله – إلى باكستان عام 1964م وقلت للرئيس الباكستاني أيوب خان: أريد زيارة الأستاذ المودودي في السجن. فسمح لي، وزرته في سجنه، ونقلت إليه تحيات الرئيس عبد السلام عارف، وأن الرئيس عارف يريد أن يتوسط للإفراج عنك فما رأيك؟

قال الإمام المودودي: هل طلبتم من أيوب خان ذلك؟ قلت: لا.. حتى أعرف رأيك.

فانفجرت أساريره وقال: الحمد لله.. لو طلبتم من أيوب ذلك لأحرجتموني، ولرفضت وساطتكم، فنحن أصحاب الحق وهم الطغاة.

القاديانية:

ابتلى المسلمون في الهند، منذ بداية القرن العشرين – بالحركة القاديانية العميلة الكافرة، فقد كانت مؤامرة خسيسة على الإسلام والمسلمين، تولى كيدها الإنجليز والعلمانيون المنافقون، فتصدى لها المودودي، وناضل ضدها بلسانه وقلمه وحركته، فقد حاضر حولها، وكتب المقالات المسهبة في فضحها.. وكان لتصريحاته وكتاباته عنها آثارها البينة في نفوس المسلمين في الهند وباكستان، بل وفي سائر أنحاء المعمورة.

مع أيوب خان:

قال له الديكتاتور أيوب خان: أيها الشيخ الفاضل، أقترح عليك أن تتفرغ للدعوة والتبليغ، ولا تتورط في أوحال السياسية.

فأجابه المودودي بشموخ الإمام: كما تفضلت، يا سيادة الرئيس، إن السياسة أصبحت أوحالاً، فدخلتها لأطهرها من الأوساخ، وأجعلها نظيفة سديدة، لا تدنس الأذيال، بل تعود رحمة على الوطن وأهله.

في عام 1955م زار سورية:

فوجهت له الجامعة الأمريكية في بيروت دعوة لإلقاء محاضرة حول الاقتصاد الماركسي، ولبى المودودي دعوة رئيس الجامعة، وغصت القاعة بالكبراء والوزراء والمثقفين، وقدم رئيس الجامعة الإمام المودودي تقديماً يليق به، ووقف المودودي ليحاضر الناس، وقال:

- سوف أجري مقارنة مركزة بين النظرية الماركسية في الاقتصاد، والنظرية الاقتصادية في الإسلام، وسوف ترون أن نظرية الإسلام في الاقتصاد تتفوق على النظرية الماركسية، وعندما وصل المودودي إلى هذه الكلمة، أطفئت الأضواء في القاعة، ووقف رئيس الجامعة يعتذر للأستاذ المودودي وللحاضرين على هذا الخلل الفني بانقطاع الكهربائي، وطلب منهم الانصراف بهدوء، وقاد الأستاذ أبا الأعلى إلى غرفته، وقد عادت الأضواء وملأت القاعة والكلية كلها، ثم قال للمودودي: معذرة يا أستاذ، نحن دعوناك لتحاضر عن النظرية الماركسية في الاقتصاد، وفشلها، ولم ندعك لتبين لنا تفوق النظرية الإسلامية على النظرية الشيوعية.. نحن نفضل النظرية الشيوعية على النظرية الإسلامية، لأن الماركسية نتاج الحضارة الغربية، وقد تلتقي الرأسمالية بالماركسية، ولكنها لن تلتقي بالإسلام.

-  قال المودودي: الحمد لله الذي جعلك تنطق بما كنت أفكر به، ولن أنسى لك هذا الفضل.

توقيعات بعدة كيلو مترات:

على الرغم من الاتهامات المفتراة على الإمام المودودي، كاتهامه بالقاديانية، وبالعمالة للهند وأمريكا، وأنه لم يتخرج من معهد ديني حتى يدعو الناس إلى الإسلام، ويفتي المسلمين بما يجوز وما لا يجوز في شؤون الحكم، وأنه يتستر بالدين لمآرب شخصية تصل به إلى الحكم، وأنه يجعل الحديث النبوي مصدراً ثانياً للتشريع، مع أن الأحاديث المنسوبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم إما موضوعة أو وضعية..

على الرغم من هذه الاتهامات الباطلة، وحملات التشهير الظالمة الفاجرة فإنه تجاوزها، ولم تشغله عن الدستور والدولة الباكستانية التي ما قامت إلا من أجل الإسلام.. فطاف المدن وأقام الاحتفالات، وحاضر في الناس وطالبهم بالتوقيع على الدستور الإسلامي الذي وضعه لباكستان، فسارع المسلمون للتوقيع، فبلغت توقيعاتهم عدة كيلو مترات وقدمت إلى الجمعية التأسيسية، علاوة على آلاف مؤلفة من البرقيات والرسائل..فاضطرت الجمعية التأسيسية إلى إعلان دستور أيده المودودي، مع بعض التحفظات عليه.

تنازله عن إمارة الجماعة الإسلامية سنة 1972 وتسليم نائبه لواءها:

وهذا أمر نادر، لم نره في حياتنا إلا مرة عندما تنازل الرئيس سوار الذهب عن سدة الرئاسة، ولم نره في الحركات الإسلامية والأنظمة العربية وما يسمى بالإسلامية، واستمر الإمام المودودي يعمل بدأب يحرر مجلته ( ترجمان القرآن ) ويكتب، ويؤلف، ويحاضر، ويدعو الناس إلى الإسلام، وينافح عن المسلمين، وينتصر لقضاياهم في فلسطين والهند وباكستان وكشمير وسواها، إلى أن وافاه الأجل المحتوم، فترجل الفارس في الثاني والعشرين من أيلول عام 1979 بعد حياة حافلة بألوان الجهاد في سبيل الله تعالى تغمده الله بفيض رحمته ورضوانه.

 مجلة المنار، العدد 62، رمضان 1423هـ.