اللغوي المربي محمد خير أبو حرب
[1]
صاحب (المعجم المدرسي)
(1341-1430هـ/ 1922-2009م)
أيمن بن أحمد ذو الغنى
عضو رابطة الأدب الإسلامي العالمية
الرياض غُرَّة ربيع الآخر 1430هـ
مضى أستاذُنا المربِّي محمَّد خَير أبو حَرب إلى بارئه الرَّحيم بسكينةٍ وهدوء، كما عاشَ في دُنياه بعيدًا عن بَهارِج الحياة رَزينًا هادئًا، حتى إن خبرَ وفاته لم يَذِع وينتشِر إلا بعد انصِرام شهرٍ على رَحيله يرحمه الله.
وكان مَنَّ الله عليَّ في السنوات الأخيرة بالتشرُّف بزيارته ومجالسته، والإفادة من خُلُقِه وعلمه، في داره بحيِّ المزرعة بدمشق، في إجازاتي الصيفيَّة فيها، وصلاً لعلاقةٍ متينة وصداقةٍ وثيقة قديمة، بين سيِّدي الوالد وبينه. فكان يَخِفُّ إلى استقبالي بابتسامةٍ عَذبة وابتهاجٍ ظاهر، مُتحاملاً على ما خلَّفتهُ أعباء خمسٍ وثمانينَ سنةً في ظَهره من انحناءٍ وضَعف، وهو الذي غالبَها وجالدَها فلم تَفُتَّ في عَضُد همَّته، ولا في تدفُّق جِدِّه، ولا في انكِبابه على مَعشوقتِه كتُب التُّراث واللغة.
عاش الأستاذُ حياةَ زهدٍ وتواضُع، عازفًا عن الذاهب الفاني، مُنصرفًا إلى الثابت الباقي، فكان يجدُ لذَّةَ نفسه وأُنسَ روحه في الغَوص في بطون المعجمات والإبحار في أسفار العربيَّة وأُمَّات مراجعها. يطالعُ ويبحث، ويدقِّق ويحقِّق، وينتقي ويتخيَّر، ويُودع خُلاصَة جَهده ورحيقَ عمله في مُعجَمه الجديد الذي سَلَخَ من عُمره أكثرَ من سبعَ عشرةَ سنةً دأبًا في تصنيفه وإنجازه، يصلُ فيها الليلَ بالنهار، لا يقومُ عنه حتى يَفيء إليه، ولا يرتاحُ منه حتى يَجهَد فيه. إلى أن قرَّت عينُه به وقد نَجَزَ بفضلِ الله وتوفيقه في 3800 صفحةٍ مخطوطة من الحجمِ الكبير([2]).
وكانت غايةَ أمله أن يرى ثمرةَ عطائه مَطبوعًا بين يدَيه، يقلِّبُ صفحاته، ويُعانقُ كلماتِه، ويَستَنشي أرَجَ حُروفه. بَيدَ أن مَشيئةَ الحكيم الخبير سُبحانَه قضَت أن يعاجِلَهُ اليقينُ قبل ذلك، مُدَّخِرًا له أجرَ نَصَبِه ووَصَبِه، وهو الذي لا يُضيع أجرَ من أحسن عملاً. وكان اشتدَّ عليه المرضُ في الأشهُر الأخيرة قُبَيل وفاته، فحالَ دون استكمالِه المُراجَعَة النهائيَّة للمُعجَم، فنحَّى قلمَه وقد وصلَ إلى الفعل (نعى)، فكأن ذلكَ كان إيذانًا بدنوِّ أجلِه وارتفاع نَعيِه.
أما مجالسُ الأستاذ فهي أثرٌ من رِقَّته ورَهافَة طَبعِه، فيها الأُنسُ والعِلم، وفيها اللطفُ والفَهم، وأكثرُ ما كنا نخوضُ فيها خبرُ معجَمه الذي جَعَله همَّه وسَدَمَه، يلهَجُ به ويَحرصُ على عَرضه على كلِّ زائر من أهل العربيَّة، يَرجوهُم بلهجَةٍ صادقَة وَدودَة أن يُفيدوه بما يَعِنُّ لهم من رأي، وبما يَبدو لهم فيه من مَلاحِظ. وكان يُلحُّ علينا إلحاحًا ألا نضَنَّ عليه بنصيحةٍ أو نظَر من شأنه الارتقاءُ بكتابه درجةً في سُلَّم التَّمام.
وُلد محمَّد خير أبو حرب سنة 1341هـ (1922م)، وفتحَ عينَيه على الدُّنيا في دار دينٍ وصَلاحٍ وعبادَة، في مِنطقةِ (سبع طوالع) بحيِّ العَمارَة العَريقِ بدمشق، دارٍ جدارُها مُلاصقٌ لجدار الجامع الأمويِّ، الذي تشهَدُ أحجارُه لتاريخ مَجيدٍ مُتطاوِل، وتَفوحُ من مَحاريبِه وأركانِه طُيوبُ المخلصينَ الصادقين، من الراكعينَ فيه والساجدين، على مَدار القُرون وتعاقُب السنين.
ونشأ الغلامُ في رعاية أبٍ صالح انتهَت إليه مَشيخةُ المؤذِّنين بجامع بني أميَّة، هو: محمَّد نَعيم، ابن محمَّد خَير، بن محمَّد، بن حسن، المتوفَّى سنة 1383هـ (1963م). فكان صَحنُ الأمويِّ مَرتعًا لطفولته، ومَدرجًا لصِباه، تفتَّح وعيُه ونَضِجَ عَقلُه في أرجائه، وغَدا حَرَمُه عالمَهُ الآسِرَ يتقلَّبُ في نُعْمى أُنسِه، وصوتُ أبيه النديُّ لا يَبرَحُ أذنَيه وهو يَصدَحُ عاليًا من مآذِنِه داعيًا إلى فَلاح الدارَين الدنيا والآخِرَة.
وقَضى المترجَم عُمرَه المبارَك؛ شابًّا وكهلاً، وشيخًا وهِمًّا، وفيًّا أبدًا للبيئة التي تقلَّبَ فيها وتَرَعرَعَ في أعطافِها، وللقِيَم التي رَضَعها صغيرًا وتشَرَّبتها نفسُه فَتيًّا، استقامةً في الحياة، ونَزاهةً في السِّيرَة، وعِفَّةً باليدِ واللسان، هيِّنًا ليِّنًا سَمحًا، يألَفُ الطيِّبينَ ويألَفُه الطيِّبون.
وانتسَبَ في شَبابه إلى كليَّة الآداب بالجامعة السوريَّة (جامعة دمشقَ حاليًّا)، وتخرَّج فيها، وتعلَّم على أيدي أساتذتِها الكبار شُيوخ العربيَّة في عَصره وأساطين العلم في الشام لوقته. وتابع التحصيلَ لامتلاكِ أدواتِ التدريس واكتساب طَرائقِه، فنالَ شهادةَ أهليَّة التعليم (دبلوم تربية وتعليم) من كلية التربية.
وبعد استكمال العُدَّة وَلَجَ في مَيدان التعليم مُتسلِّحًا بعلم وافِر، وهِمَّةٍ عالية، وعَزمٍ على إفادَةِ الطلاب والنُّصح لهم، فتوَلَّى التدريسَ في ثانوية التجهيز (جَودة الهاشِمي) سنوات، ثم رُقِّيَ إلى وَظيفة مديرٍ لثانويةِ عبَّاس محمود العقَّاد حِجَجًا عَديدة. ثم ودَّع منابرَ التدريسِ وقاعات المدارس، ليقدِّمَ نتاجَ خِبراته في مَيدانٍ آخرَ لا يقِلُّ أهميَّة ومكانة، فاختيرَ عُضوًا في لَجنةِ الامتحانات، ولَجنةِ المعاجِم بوِزارَة التربية السُّورية.
وهناك شاركَ في وَضع الكتب المدرسيَّة لمراحلِ التعليم المختَلِفَة، ونهضَ بتأليف (المعجم المدرسي) الذي ابتدأ العَملَ فيه بمشاركةِ الأساتذة: مُطيع الببيلي([3])، وقَدري الحكيم، ومحمد نَديم عَدي، ثم انفَرَدَ بالعمل فيه، وأتمَّه على خَير وجهٍ مَرضي، في (1183) صفحةٍ من الحجم الكبير، وكتب الله لهذا المعجم القَبولَ والرِّضا، وأفاد منه أجيالٌ من طلاَّبِ المدارس في الشام. وكانت صَدَرَت طبعتُه الأولى سنة 1406هـ (1985م)، ثم أُخرِجَت طبعتُه الثانية بعد اثنين وعشرين عامًا، مصوَّرةً عن الأولى، سنة 1428هـ (2007م)، وقد آلمَهُ ذلك جدًّا وأحزنَه؛ لرغَبته الشديدَةِ في تصحيحِ واستدراك ما نَدَّ عن قَلَمِه في الطَّبعةِ الأولى!
لزمَ الأستاذُ دروسَ فضيلة الشيخ المحدِّث محمَّد نَعيم العرقسوسي في جامع الإيمان القَريب من بيته. وكان وَدودًا ومُخلصًا لأصدقائه ورُفَقاء دربه، ومن أكثرهم قُربًا إليه: د. شاكر الفحَّام، ود. محمَّد راتب النابُلُسي. وكان مُحبًّا وحَريصًا على الصِّلَة بالأساتذة الأفاضل: د. محمَّد مَكِّي الحَسَني، والأستاذ مَروان البوَّاب، ود. محمَّد حسان الطيَّان، ود. يحيى مِير عَلَم.
وفي يوم الخميس 26 من المحرَّم 1430هـ، يوافقه: 22 من كانون الثاني 2009م، قَضى الله قضاءه الحقَّ بقَبضِ عبده محمَّد خَير أبو حَرب، عن 89 سنةً، قَضاها فيما يُرضي الله سبحانَه، تغمَّدَه برحمته وأنزله مَنازلَ الصالحينَ المرضيِّين، وجَعَلَ ما قدَّمَ من عَمَل، وما خَلَّف من أَثَر صَدقةً جارية، يَزكو بها أجرُه، وتتضاعَفُ بها حسناتُه، إلى يومِ البعث والحِساب الذي لا ريبَ فيه.
وقد وَصَفَهُ أستاذُنا الكبير وصَديقُه القَديم العالم اللغويُّ والمربِّي الحكيم محمَّد علي حمد الله بقوله: ((الأستاذ أبو حَرب رجلٌ حليم هادئ، نادرُ الغَضَب، يحفظ المودَّة للأصدقاء، يؤدِّي لذَوي الفضل ما يَستحقُّون من تقدير ولو كانوا أصغرَ منه، وأنا أحبُّه، ولي معهُ ذكريات. وهو ذو روحٍ عربيَّة إسلاميَّة، ومن عُشَّاق التُّراث، لا يجدُ نفسَه إلا في قراءة كتُبه، ويرغِّب طلابهُ وإخوانه عن القراءة إلا فيه. وهو دقيقٌ إذا وثَّق وأمينٌ إذا حقَّق. وفي سنة 1958م كان عضوًا في لجنة تقويم الكتُب المقدَّمة لمسابقة كتاب القواعد لصفِّ الكفاءة (الثالث المتوسِّط)، وكنتُ تقدَّمتُ بكتابٍ للمُسابقَة، وتقدَّم الأستاذُ عبدالرَّحمن رأفت الباشا بكتاب، وحين رأيتُ أخي الأستاذَ أبو حَرب سارع إلى تَبشيري بقَبول اللجنة كتابي، وكان سَعيدًا بهذا فرحًا)).
لم يقتصِر إنتاجُ الأستاذ على الكتُب والعلم، ولكنه أنتجَ أيضًا ذرِّيةً طيِّبةً بعضُها من بعض، وكان تزوَّج امرأةً فاضلة من أسرَة (الشوربجي) الحلبيَّة، ونَسَلَ منها أربعةَ بنين وابنتين، وهم:
معن بن محمد خير، ولد سنة (1956م): أستاذ للرياضيات، درَس الفيزياء والرياضيات في جامعة دمشق، يعمل مدرِّسًا في (أبو ظبي) بالإمارات العربيَّة المتحدة.
ومجد بن محمد خير، ولد سنة (1957م): طبيبٌ مستشار في أمراض القلب عند الأطفال، درَس في جامعة دمشق، وتخصَّص في جامعة (نيوكاسل) في بريطانيا، وما يزال يعملُ هناك.
ومؤنس بن محمد خير، ولد سنة (1961م): طبيبٌ، درَس في جامعة دمشق، وحصلَ على ماجستير في الأمراض الباطنة، وتدرَّب في بريطانيا سنتَين، وعملَ في دمشقَ في مركز جِراحة القلب مع د. سامي القبَّاني. مقيمٌ في الكويت منذ سنة 1994م.
ومرهف بن محمد خير، ولد سنة (1963م): مهندسُ ميكانيك، تخرَّج في جامعة دمشق، ويعملُ في دُبَي.
ومَي بنت محمد خير، ولدت سنة (1966م): درَست الأدبَ الإنكليزيَّ بجامعة دمشق، تعملُ في هيئة تخطيط الدولة.
وأختُها التَّوءم ندى بنت محمد خير: مهندسةٌ مدنيَّة، درَست بدمشق، وموظَّفة في وِزارَة الأوقاف.
وفَّقهم الله تعالى للسَّير على خُطا أبيهم، وجعل ما يقدِّمون من البِرِّ في صحيفته.
والحمد لله الذي بنعمته تتمُّ الصالحات
الأستاذ أبو حرب في داره بدمشق، ومعه كاتب الترجمة في 18 من رجب 1428هـ
الأستاذ أبو حرب بين الأستاذ أحمد العلاونة وكاتب الترجمة،
في 2 من شعبان 1428هـ
نموذج من خطِّ الأستاذ أبو حرب من معجمه الأخير الذي لم يُطبَع
([1]) أفدت في كتابة الترجمة من ابن المترجَم الأخ الفاضل د. مؤنس أبو حرب جزاه الله خيرًا، ومن مشافهة أستاذي صديق المترجَم العالم اللغوي المربي محمد علي حمد الله، بارك الله في عمره.
([2]) توفي الأستاذُ المترجَم ولم يضع عنوانًا لمعجمه.
(3) للعالم اللغويِّ أستاذي الفاضل مطيع الببيلي فضلٌ كبير في تأثيل المعجم ورسم منهجه ووضع خُطَّته.