محمد الغزالي
محمد الغزالي*
والدي –رحمه الله- كان يحب شيخ الإسلام أبا حامد الغزالي، وكان عاشقاً لعلم التربية والسلوك يحترم رجاله ويختار من مسالكهم ما يشاء،لأنه كان حافظاً للقرآن جيد الفهم لنصوصه ويروي أبي لأصدقاء الأسرة أن تسميتي (محمد الغزالي)
جاءت عبر رؤية منامية وبإيماء من أبي حامد (رضي الله عنه) وأياً ما كان الأمر فإن التسمية اقترنت بشخصي ولكنها لم تؤثر في تفكيري فأنا أنتفع من تراث أبي حامد الغزالي صاحب "تهافت الفلاسفة" كما أنتفع من تراث خصمه ابن رشدصاحب "تهافت التهافت" وإذا كان الغزالي يحمل دماغ فيلسوف وابن تيمية يحمل رأس فقيه فإنني أعتبر نفسي تلميذاً لمدرسة الفلسفة والفقه معاً.
ولدت سنة 1336هـ الموافق سنة 1917م ونشأت في بيئة متدينة بين إخوة سبعة وكنت أكبرهم ووالدي كان تاجراً صالحاً، وهو الذي وجهني إلى حفظ القرآن بل إن من فضله عليّ أن باع ما يملك لكي يذهب بي أو يذهب معي إلى أقرب مدينة يقع فيها معهد أزهري حيث هاجر من قرية "نكلا العنب" بمحافظة البحيرة إلى الإسكندرية كي أنتسب إلى الأزهر وعمري عشر سنوات.
وطفولتي كانت عادية ليس فيها شيء مثير وإن كان يميزها حب القراءة، فقد كنت أقرأ كل شيء ولم يكن هناك علم معين يغلب عليّ.. بل كنت أقرأ وأنا أتحرك، وأقرأ وأنا أتناول الطعام.
وللقراءة أهمية خاصة لكل من يدعو إلى الله بل هي الخلفية القوية التي يجب أن تكون وراء تفكير الفقيه والداعية، وضحالة القراءة أو نضوب الثقافة تهمة خطيرة للمتحدثين في شؤون الدين وإذا صحت تزيل الثقة منهم.
إن القراءة أي الثقافة هي الشيء الوحيد الذي يعطي فكرة صحيحة عن العالم وأوضاعه وشؤونه، وهي التي تضع حدوداً صحيحة لشتى المفاهيم، وكثيراً ما يكون قصور الفقهاء والدعاة راجعاً إلى فقرهم الثقافي.
والفقر الثقافي للعالم الديني أشد في خطورته من فقر الدم عند المريض وضعاف الأجسام، ولابد للداعية إلى الله أن يقرأ كل شيء، يقرأ كتب الإيمان ويقرأ الإلحاد، يقرأ في كتب السنة، كما يقرأ في الفلسفة، وباختصار يقرأ كل منازع الفكر البشري المتفاوتة ليعرف الحياة والمؤثرات في جوانبها المتعددة.
تأثرت بالشيخ عبد العظيم الزرقاني الذي كان مدرساً بكلية أصول الدين وهو صاحب كتاب "مناهل العرفان في علوم القرآن" وكان عالماً يجمع بين العلم والأدب وعباراته في كتابه المذكور تدل على أنه راسخ القدم في البيان وحسن الديباجة ونقاء العرض.
وفي معهد الإسكندرية الديني تأثرت بالشيخ إبراهيم الغرباوي، والشيخ عبد العزيز بلال، وكانا يشتغلان بالتربية النفسية ولهما درجة عالية في العبادة والتقوى، وكانا يمزجان الدرس برقابة الله وطلب الآخرة وعدم الفتنة بنيل الإجازات العلمية لأن للألقاب العلمية طنيناً ربما ذهب معه الإخلاص المنشود في الدين.
وقد تأثرت أيضاً بالشيخ محمود شلتوت الذي أصبح فيما بعد شيخاً للأزهر، إذ كان مدرساً للتفسير، وله قدرة ملحوظة في هذا المجال إلى جانب رسوخ قدمه في مجال الفقه وعلوم الشريعة إجمالاً، وقد كان رحمه الله شخصية عالمية بارزة يلتف حولها الكثيرون.
أما تأثري الأكبر فقد كان بالإمام الشهيد حسن البنا، وكان عالماً بالدين، كأفقه ما يكون علماء العقيدة والشريعة، وكان خطيباً متدفقاً ينساب الكلام منه أصولاً لا فضولاً وحقائق لا خيالات، وكان حسن البنا يدرك المرحلة الرهيبة التي يمر بها الإسلام بعدما سقطت خلافته، وذهبت دولته ونجح المستعمرون شرقاً وغرباً في انتهاب تركته، فكان الرجل يعارض هذا الطوفان المدمر عن طريق تكوين الجماعات التي تعتني بدينها وتتشبث بالحق مهما واجهت من متاعب أو عوائق أو ويلات.
حسن البنا كان صديقاً لكل من يلقى من أهل الإيمان، فتغمرك بشاشته عندما تراه وتشعر كأنك أصبحت صديقاً أثيراً لديه وكان ينأى بوقته عن اللغو فما تمر ثانية ولا أقول دقيقة إلا وهو يخدم الإسلام بكلمة أو توجيه أو عمل نافع أو دعابة لطيفة تربط بين القلوب.
وذاكرة حسن البنا كانت حديدية وكأنها شريط مسجل يستوعب الأسماء والمعاني، فلو التقيت به وناقشت معه أو ذكرت له اسم إخوتك مثلاً ثم لقيته بعد ذلك ببضع سنين لبادرك بالسؤال عن إخوتك وناقشك في القضية التي طرحتها عليه منذ سنين واسترجع معك الحديث وكأنه تمّ بالأمس القريب.
والحق أن الرجل كان يحب عن إخلاص لا عن تكلف وربما عانق عاملاً يلبس بدلة الشغل الملوثة بشحوم الآلات وسوائلها فما يحجزه شيء من ذلك عن ترجمة حبه، وحسن البنا له عبقريات منوعة يحتاج الكلام فيها إلى كتاب منفرد.
مدرستي الخاصة:
المدرسة التي أعتبر نفسي رائداً فيها أو ممهداً لها تقوم على الاستفادة التامة من جميع الاتجاهات الفكرية والمذاهب الفقهية في التاريخ الإسلامي، كما ترى الاستفادة من كشوف الفلسفة الإنسانية في علوم النفس والاجتماع والسياسية والاقتصاد والتاريخ ومزج هذا كله بالفقه الصحيح للكتاب والسنة.
إن الرؤية الصحيحة لأحكام الشريعة أو الحكم الصائب الذي ينبغي تقريره لا يتم إلا على رحابة الأفق ووجود خلفية عظيمة من المعرفة القديمة والحديثة على السواء، وربما كان أسلافنا القدامى قد رزقوا من سلامة الفطرة وحدة الذكاء ما يجعلهم قادرين على حسن الفهم والحكم، لكننا في هذا العصر لا نصل إلى مستواهم إلا بعد دراسات مضاعفة، كما يستعين صاحب النظر القصير بالمناظير المقربة حتى يعرف ما يقرأ أو حتى يدرك من بعيد مالا يستطيع رؤيته بالعين المجردة.
تجاربي في الدعوة:
تخرجت من الأزهر ستة 1360 هجرية الموافق سنة (1941م) ومنذ ذلك الوقت وأنا أعمل في خدمة الإسلام دعوة وتدريساً.
وفي رأيي أن الدعاة إلى الله، في هذا العصر غيرهم في العصور الماضية فقديماً كانوا يدركون حظاً من النجاح بمعرفة محدودة وتقوى ظاهرة.
أما في هذا العصر فإن أعداء الإسلام قد تضاعف نشاطهم ونمت أحقادهم وكثرت العقبات التي وضعوها في طريق الدعاة، واستطاعوا استغلال التفوق الحضاري لوقف الزحف الإسلامي في أقطار كثيرة، بل ولعلهم استغلوا ثراءهم وقدرتهم في فتنة طوائف كثيرة من المسلمين في إفريقيا وآسيا وأوروبا، ولذلك لا يكفي أن تعمل أجهزة الدعوة الإسلامية، بل لا بد وأن تكون من ورائها خدمات شتى اجتماعية وصحية وتعليمية وثقافية..إلخ.
شروط الداعية:
والدعوة إلى الله لا يصلح لها، بداهة، أيُّ شخص، إن الداعية المسلم في عصرنا هذا يجب أن يكون ذا ثروة طائلة من الثقافة الإسلامية والإنسانية، بمعنى أن يكون عارفاً للكتاب والسنة والفقه الإسلامي والحضارة الإسلامية، وفي الوقت نفسه يجب أن يكون ملماً بالتاريخ الإنساني وعلوم الكون والحياة والثقافات الإنسانية المعاصرة التي تتصل بشتى المذاهب والفلسفات.
ويجب على من يدعو إلى الله أن يتجرد لرسالته التي يؤديها فتكون شغله وعليه أن يبادل الناس بقلب مفتوح فلا يكون أنانياً ولا حاقداً ولا تحركه النزوات العابرة ولا ينحصر داخل تفكيره الخاص فهو يخاطب الآخرين، وينبغي أن يلتمس الأعذار للمخطئين وألا يتربص بهم، بل يأخذ بأيديهم إذا تعثروا.
ويحتاج الداعية المسلم في هذا العصر إلى بصر بأساليب أعداء الإسلام على اختلاف منازعهم سواء كانوا ملحدين ينكرون الألوهية أو كتابيين ينكرون الإسلام.
وقد لاحظت أن هناك أصنافاً من الناس في ميدان الدعوة تسيء إلى الإسلام أشد الإساءة منهم من يشتغل بالتحريم المستمر فلا تسمع منه، إلا أن الدين يرفض كذا وكذا دون أن يكلف نفسه أي عناء لتقديم البديل الذي يحتاج إليه الناس.. وكأن مهمته اعتراض السائرين في الطريق ليقفوا مكانهم دون أن يوجههم إلى طريق آخر أرشد وأصوب.
وهناك دعاة يعيشون في الماضي البعيد وكأن الإسلام دين تاريخي وليس حاضراً ومستقبلاً، والغريب أنك قد تراه يتحامل على المعتزلة والجهمية مثلاً وهو محق في ذلك، ولكنه ينسى أن الخصومات التي تواجه الإسلام قد تغيرت وحملت حقائق وعناوين أخرى.
وهناك دعاة آخرون لا يفرقون بين الشكل والموضوع أو بين الأصل والفرع، أو بين الجزء والكل، بأي شكل من الأشكال ويبددون قواهم كلها في محاربة هذا الشكل، أما الموضوع فهم لا يدرون ماذا يصنعون إزاءه ولهؤلاء عقلية لا تتماسك فيها صور الأشياء بنسب مضبوطة، ولذلك قد يهجمون شرقاً على عدو موهوم ويتركون غرباً عدواً ظاهراً، بل ربما حاربوا في غير عدو.. وهؤلاء وأولئك عبء على الدعوة الإسلامية يجب إصلاحهم كما يجب إصلاح الذين يدخلون ميدان الدعوة بنية العمل لأنفسهم لا لمبادئهم فإن العمل الذي يستهدف القيم الإسلامية غير العمل الذي يدور حول المآرب الشخصية.
تبين لي بعد أربعين سنة من العمل في الدعوة الإسلامية أن أخطر ما يواجه العمل الإسلامي هو التدين الفاسد أي استناد النفس إلى قوة غيبية وهي تعمل للخرافات والأوهام، أو هي تعمل للأغراض والمآرب، الدين مثلاً يقظة عقلية وهؤلاء يعانون تنويماً عقلياً متصلاً والدين قلب سليم وهؤلاء استولت على قلوبهم علل رديئة.
والأمر في كشف التدين الفاسد يحتاج إلى تفاصيل للتعامل مع الآفات النفسية والعقلية التي تسبب هذا البلاء، وقد خصص أبو حامد الغزالي جزءاً ضخماً من كتابه (الإحياء) في علاج هذه الآفات والتحذير منها، كما وضع ابن الجوزي كتاب "تلبيس إبليس" للكشف عن صور التدين الفاسدة وإبعاد العامة والخاصة عنه.
وقد ألفت بعض كتبي وأنا مستغرق في محاربة هذا الجانب من التدين المعلول سواء كان رسمياً، أو شعبياً مثل كتاب (تأملات في الدين والحياة) وكتاب (ليس من الإسلام) وكتاب (ركائز الإيمان بين العقل والقلب) وأخيراً كتابي (الدعوة الإسلامية تستقبل القرن الخامس عشر).
والحقيقة أن التدين الفاسد سر انحراف كثير من العقلاء لأنهم ينظرون إلى الدين من خلال مسالك بعض رجاله وآثارهم في الحياة العامة، والواقع أن بعض المتدينين كانوا في القديم والحديث بلاء على الدين.
بدأت الكتابة. منذ الشباب الباكر وكانت هواية عندي ورغبة أجد راحة في تحقيقها، ولم أتوجه إلى الكتابة الدينية إلا بعد أن اشتغلت بالدعوة الإسلامية. وقد سلكت في الكتابة الدينية منهجاً يجمع بين العلم والأدب مع عرض الثقافة الإسلامية عرضاً ممزوجاً بقضايا العصر الحاضر ويمكن القول إن هناك عدة محاور أساسية دارت حولها كتبي الخمسة والثلاثون التي وضعتها في الأربعين عاماً الماضية: "الإيمان والعقل والقلب" و"الإسلام والطاقات المعطلة"(**).
وأحبُّ أوقات الكتابة إليَّ بعد صلاة الفجر.. عند هذا الوقت أشعر باجتماع فكري ويقظة أعصابي وقدرتي على إفراغ ما في نفسي فوق الصفحات، ويغلب أن تكون الكتابة الأولى هي الأخيرة، وقلما أمحو منها أو أزيد عليها إلا القليل، بل قلما أعود إلى قراءة كتاب أصدرته إلا إذا كانت هناك حاجة ملحة في ذلك، كمناقشة له أو حوار حوله.
وأتمنى أن أكتب التفسير الموضوعي للقرآن الكريم فكل سورة من القرآن وحدة متماسكة تشدها خيوط خفية تجعل أولها تمهيداً لآخرها وآخرها تصديقاً لأولها وتدور السورة كلها على محور ثابت، وأتمنى وضع كتاب جامع في ذلك(1).
وقد وفق الله الشيخ الغزالي رحمه الله لإتمام ما تمناه وصدر له كتاب تحت عنوان "نحو تفسير موضوعي لسور القرآن الكريم".
انتقل الأستاذ الشيخ إلى رحمة الله تعالى مساء الأحد 19 شوال 1416 هـ الموافق (9/3/1996م) في الرياض عاصمة المملكة العربية السعودية، ثم دفن في البقيع في المدينة المنورة عاصمة القلوب المؤمنة رحمه الله وأجزل مثوبته وطيب ثراه وبلل بالرحمة ذكراه.
هوامش:
(*) من كتاب (هكذا علمني محمد الغزالي) للأستاذ علاء الدين آل رشي.
(**) كتب الغزالي هذا قبل أن يتم كتبه التي زادت على الستين.
(1) خطب الشيخ محمد الغزالي في شؤون الدين والحياة (ج1/13-18).