ذكريات وعبر
ذكريات وعبر
د. وليد محمود خالص*
جاء في كلام طارس وهو أحد حكماء اليونان فيما نقله عنه أبو الفرج بن هندو في كتابه [ الكلم الروحانية في الحكم اليونانية] ، ص123 ، أقول جاء في كلامه أنه قد قيل له: قد توفي مايندرس، وكان أستاذه، فقال: الويح لي قد ضاع مِسَن عقلي، ولعل حالي اليوم تشبه حال طارس حين انتقل أستاذي إبراهيم السامرائي إلى بارئه طاهر الذيل، موفور الكرامة، إذ فقدت به عقلاً راجحاً، وعلماً غزيراً، وسيرة حميدة، وأراني
اليوم وحدي، وليس بين يدي سوى كتبه أنظر فيها، وأطيل النظر، وأقبس منها أشياء وأشياء، بيد أن الكسر وقع، والثلمة صارت،وليس هناك من يسن العقل على حد قول طارس.
وبقيت أزور من بقي من العائلة في عمان، وتحدثني السيدة أم علي زوج الأستاذ بأحاديث شتى عنه، وعن سيرته، وأطرب لهذا الحديث، ويلذ لي سماعه، وتشتاق النفس إلى المزيد منه، أسمع وأحفظ، وتقدمت خطوة فطلبت أن تخط بقلمها شيئاً من تلك الذكريات، فلم ألق استجابة، إنه الزهد الذي لمسته فيه ـ رحمه الله ـ وفيها، ووجدته في الأستاذ إبراهيم الوائلي أيضاً، وله خبر آخر طويل ليس هنا موضعه، وأسأل نفسي: ما بال أولئك الكبار يصنعون هذا؟
ويأتيني الجواب سريعاً متدفقاً: ألم تقرأ في الكتب، وتسمع من الشيوخ أن الزهد كان شعار الأنبياء، وطريق الحكماء، ومنهج العقلاء، هي ـ بلا شك ـ فلسفة اصطنعها أولئك لأنفسهم: الزهد في العرَض الزائل، والإلحاح على الباقي الدائم، والأول معلوم ذائع تعرفه الكافة وتحرص عليه، أما الثاني فخاص لا ترتقي إليه سوى القلة، ومن ذلك الباقي التمسك بالفضائل، وطلب العلم ونشره، وأشياء أخر، وهو ـ بلا ريب ـ درب شائك صعب، فلا غرابة بعد هذا ألا تأخذ به سوى القلة، ولعلي أردد قول الشاعر:
بغاث الطير أكثرها فراخاً وأم النسور مِقلاةٌ نزورُ
وتراني وقد شطح بي القلم تركت الأصل، وسرت مع الفرع، ولا مناص من العودة، أقول، وبعد أخذ ورد كتبت السيدة الفاضلة أشياء هي أقرب إلى الذكريات، ولكنها ذكريات صادقة، عميقة، تطفح بالألم، وتضج بالأسى، وقد استأذنت أن تنشر باسمها فأبت بإصرار، وتركت لي الخيار في نشرها على الصورة التي أراها، وها أنا ذا أتعذب مرة ثالثة، وأقبض على الجمر مرة ثالثة، وأغرق في تيه التذكر مرة ثالثة، الأولى يوم وفاته، والثانية حين كتبت مقدمة لديوانه [ ملحمة الرحيل ]، والثالثة اليوم، فهل أصبح العذاب رفيقاً مؤنساً، وصديقاً مصاحباً، غفر الله لك يا أم علي، أيتها السيدة الفاضلة، فقد نكأت جرحاً، استغفر الله، ماذا أقول؟ بل جراحاً، وجددت حزناً، ونشرت ما ظننته مطوياً ولم يكن كذلك. فماذا أقول؟
لست إذن سوى ناقل أمين ينقل من الورق ذلك الذي عهدت به السيدة إليّ، ولم تعمل يد التبديل شيئاً إلا في مواضع رأيت الكتمان فيها أولى وليغفر الله لنا.
* * *
كتبت السيدة تقول إنها أرادت أن تقدم ما عندها، وما تتذكره من سيرة الأستاذ لكي تبقى، وتصحح ما قيل ويقال، وهي صادقة فيما كتبت، لم تبدل شيئاً، أو تأتي بأمر لم يكن، لقد عاش الأستاذ حياة قاسية، إذ فقد أبويه مبكراً، واعتنت بتربيته خالته التي كانت على قدر كبير من الفضل والحدب، وبعد أن أتم حفظ القرآن الكريم دخل المدرسة الابتدائية، في مدينة العمارة التي ولد فيها، وأجرى امتحان السنة النهائية [ البكالوريا ] في محافظة [ لواء] البصرة التي سافر إليها مع رفاقه بسفينة نقلتهم من العمارة إلى البصرة، وأصيب هناك بالملاريا، ولكنه تمكن من دخول الامتحان، واجتازه بنجاح باهر، أتم بعدها المرحلة المتوسطة، أما الثانوية فقد درسها ببغداد في الفرع العلمي، ودخل بعدها دار المعلمين الابتدائية، وتخرج مدرساً حيث مارس التدريس بعدها، ولم يكتف بهذا القدر بل نراه يدخل دار المعلمين العالية ـ قسم اللغة العربية ليتخرج الأول على دفعته، وما تزال السيدة محتفظة بشهادته، انتقل بعد التخرج إلى كلية الملك فيصل ليعمل مدرساً فيها، وكانت ثانوية متميزة لا يقبل فيها من الطلاب سوى الأوائل، وميسوري الحال، وكان الأستاذ العراقي الوحيد فيها إذ كان المدرسون كلهم من الأجانب، وهو في هذه الأثناء يعمل، ويكدح ولكنه يتقدم للفوز بواحدة من البعثات التي تقدمها وزارة [ المعارف ]، وينتظر الجواب، ويطول هذا الانتظار، ويلتقي صدفة بالأستاذ متى عقراوي الذي كان ـ حسبما تظن السيدة ـ مدير التعليم الثانوي ويسأله مستغرباً: لماذا أنت هنا؟ ولم تذهب للبعثة حتى الآن؟ فأجابه: لقد قدمت الطلب وأنتظر الجواب، فما كان من الأستاذ عقراوي إلا أن يطلب منه المجيء في اليوم التالي إلى الوزارة ليستوضح الأمر بنفسه. وحين التقيا في العاشرة صباحاً أخبره الأستاذ عقراوي بأنه فتش عن أوراقه فلم يجدها، فأخرج له الأستاذ ورقة تَسَلُّم الأوراق من قبل الموظف المسؤول، فهز الأستاذ عقراوي رأسه لعلمه بما يدور من دسائس وإحن، واستدعى بالهاتف مدير البعثات فجاء، وطلب منه جلب ملف صاحب [ الوصل]، فغاب ساعة وتزيد، وعاد وفي يده الملف وهو في حالة يرثى لها، إذ كان الحبر قد انتشر على الأوراق بسبب الرطوبة؛ لأنهم دسوه تحت السجادة التي تفرش على الأرض، وهو نوع رخيص يعرفه العراقيون يسمى [ الكنبار ]، تقول: قال الأستاذ عقراوي للمدير: اعمل اللازم لسفر إبراهيم إلى فرنسا، فذهبا معاً إلى غرفة المدير الذي قال له: تسافر إلى القاهرة، فرفض، وعاد إلى الأستاذ عقراوي وأخبره، فما كان منه إلا أن يكلمه بالهاتف طالباً منه إنهاء إجراءات السفر إلى فرنسا قائلاً: أنا بحاجة إلى أن يتخصص في فقه اللغة، وهو طالب مجد، وهكذا كان من أمر البعثة إلى فرنسا، وهناك حيث أمضى سبع سنوات كان مثال الطالب المجد، الحريص على العلم، يقضي وقته بين المحاضرات والمكتبات، ولم يصنع كما يصنع غيره من تزجية الوقت باللهو، والدخول إلى باريس من الأبواب الأخرى، وحدث ما لم يكن في الحسبان إذ انتهت مدة البعثة وهو لم يكمل دراسته بعد، فقطع راتبه، وظل في حيرة من أمره حتى مر السيد نوري السعيد رئيس الوزراء مروراً عابراً بباريس، والتقى بالملحق الثقافي الدكتور سليم النعيمي فأخبره بهذا الأمر مضيفاً:
ـ كيف يقطع الراتب عن طالب مجد مثل إبراهيم؟
دون السيد نوري السعيد هذه الملاحظة في مفكرته الخاصة، وحين عاد إلى بغداد سوى الأمر مع البعثات بحيث تمدد البعثة سبعة أشهر أخرى ريثما ينتهي من دراسته، وهكذا كان.
وكان أمر تعيينه بكلية الآداب ميسوراً إذ مر الدكتور عبد العزيز الدوري الذي كان عميداً لكلية الآداب والعلوم بباريس فأخبره الملحق الثقافي بأن السامرائي سوف يناقش رسالته قريباً، فأرسل الدكتور الدوري برقية إلى وكيل الكلية ببغداد طالباً ترشيحه للتعيين بالكلية، وحين عاد إلى بغداد انضم إلى هيئة التدريس بالكلية.
وخلال عمله بالكلية كان رفيق الكتاب، فقد ألف، وحقق، وترجم الكثير من الكتب والدراسات، ومما تذكره السيدة هنا عمله في ديوان الشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري إذ أصر الجواهري نفسه على أن يكون الأستاذ ضمن اللجنة التي ستقوم بالعمل، وقد حصل هذا فعلاً، ومما يذكر هنا تحقيقه ونشره معجم [ العين ] مع الدكتور مهدي المخزومي رحمه الله ، وقد وقع بينهما ما أدى إلى الجفاء، وهو كثيراً ما يحصل بين العلماء، وقد جرت محاولة لإعادة طبع [ العين ] مرة أخرى باسم الدكتور المخزومي وحده ولكنها لم تنجح إذ طلبت دار النشر موافقة الشريك وهو السامرائي مع موافقة دار النشر الأولى، وهذا غير ممكن، ويبدو أن طبعة أخرى ظهرت في إيران تحمل اسم الدكتور المخزومي وحده، وهو ما لا يجوزه العلم والمنهج معاً.
وينتقل الأستاذ بأسرته إلى الأردن حيث يعمل في الجامعة الأردنية، وكانت هذه هي المرة الأولى، وهناك ثانية بينهما مرحلة اليمن إذ عمل في جامعة صنعاء، وفي الأردن حيث يبقى خمس سنوات ينصرف إلى التدريس والمكتبة، ويلتقي ببعض الأساتذة المصريين والأردنيين تذكر منهم الدكتور سمير قطامي، والدكتور عبد الجليل عبد المهدي، والدكتور عودة أبو عودة، ويسمع همساً أن الجامعة ترغب في الاستغناء عن الوافدين ممن بلغوا عمراً معيناً، فما كان منه إلا أن يتقدم باستقالته ليستقر في صنعاء، وكانت بينه وبين الدكتور عبد العزيز المقالح رئيس جامعة صنعاء مراسلات، فطلب منه المجيء إلى الجامعة، ووصلت العائلة إلى صنعاء فجراً، وكان في الاستقبال سائق مع سيارته حيث أوصلهم إلى الشقة التي سيسكنون فيها، زارهم بعدها عميد الكلية الدكتور أحمد شجاع، وكان أغلب الأساتذة في السكن الجامعي من المصريين، وكانوا على خلق عالٍ، ثم جاءت جمهرة من الأساتذة العراقيين، والتفوا حول الأستاذ المقالح، وبدأت سلسلة من المشاكل بحيث إن أحد الأساتذة العراقيين تجرأ على الأستاذ بالضرب، وهو ما يشير إلى مستوى سلوكي متدنٍ جداً، ومما تذكره هنا أن الأستاذ دعي وهو في اليمن إلى المربد ببغداد، فذهب، ولكن السلطة لم تسمح له بالسفر لأسباب قيل في أهمها
إن مجموعة من السامرائيين كانوا على خلاف حاد مع السلطة فصدر الأمر بمنع السامرائيين كافة من السفر، واتصل الأستاذ بالدكتور المقالح الذي اتصل بدوره برئيس وزراء اليمن الذي خاطب طه ياسين رمضان شخصياً فسمح له بالسفر، تتحدث السيدة بمرارة عن مرحلة اليمن إذ عاداهم الكثرة من العراقيين، وترد السبب إلى أن الأستاذ لم ينتمِ إلى جماعة، أو حزب بل هو وحيد فرد فلم يجد قبولاً من الآخرين الذين كان أغلبهم من المنتمين إلى جماعات وأحزاب.
وكانت الاستقالة والعودة ثانية إلى الأردن حيث قام بالتدريس في الجامعة الأردنية بالدراسات العليا لست ساعات فقط، وقد سمع أن أحد أساتذة قسم اللغة العربية ومعه جماعة وهم في مكتبة الفكر قد تفوّه بأن السامرائي قد جاء ليشاركنا لقمة العيش، فما كان منه إلا أن قدم استقالته فوراً، ورغم إلحاح مجموعة من أساتذة القسم عليه بالبقاء إلا أنه أصر على استقالته، وظل يتردد على مجمع اللغة العربية الأردني حيث يجلس في زاوية من زوايا المكتبة يقرأ ويكتب، ويستقبل من يود السؤال عن قضية علمية، أو مسألة ما، وتوثقت علاقته بالدكتور عبد الحميد الفلاحي، والأستاذ محمد العناسوة اللذين كانا يكثران من التردد عليه، والسؤال عنه.
وأضيف هنا أنني شهدت هذا بنفسي يوم كنت مقيماً في عمان، وشهدت كذلك ساعات وفاته، وتشييعه، ولم يحضر التشييع سوى ثلاثة من العراقيين كنت واحداً منهم، مع أن عمان تعجّ بالأساتذة العراقيين الذين يعملون في جامعات الأردن، وتضيف السيدة إلى ما سبق أن السفارة العراقية لم ترسل أحداً لحضور مجلس العزاء، وهذا حق أيضاً.
وتقدم السيدة نماذج من مشاهد مرت على الأستاذ، وكانت شاهداً عليها، وهي مما لا يوجد في الكتب منها أنهم كانوا في الأردن، واتصل الدكتور عبد الكريم خليفة رئيس مجمع اللغة العربية الأردني، وبين أن قسم اللغة العربية في الجامعة الأردنية قد رشح الأستاذ لجائزة صدام، وكان الأستاذ وقتها مسافراً، وبعد عودته عرضوا الأمر عليه فقال:
" لن تمنح لي، فلماذا تحرمون منها غيري؟ ".
وعُرفت الحقيقة بعد سنوات إذ رُفض الترشيح من قبل وزير الإعلام آنذاك لطيف نصيف جاسم، إذ بعد موافقة أعضاء لجنة التحكيم على الترشيح انبرى الوزير قائلاً:
" هذا لا يعطى جائزة" وقام بنقل هذا الخبر أحد المحكمين، وكان يدعى في أحايين كثيرة إلى مؤتمرات أو ندوات وهي دعوات شخصية، ويمنع من السفر، أو تؤخر موافقة سفره بسبب كاتب بسيط، أو مسؤول غير ملتزم، فمرة دعي إلى مؤتمر في جزيرة صقلية، ولم تصله الموافقة إلا في يوم انعقاد المؤتمر، ورشح أخرى للأكاديمية المغربية وأوقف الترشيح على يد شخص مغربي، وقد التقى الأستاذ بهذا المغربي في مجمع اللغة العربية بالقاهرة، وأخبره أن ترشيحه قد رفض، وكان هو السبب
في ذلك الرفض، وتستمر السيدة تكتب أنهم كانوا في بغداد، وزارهم شخص عرض على الأستاذ أن يذهب للتدريس في إحدى الجامعات الأمريكية، وقد تعرف هذا الشخص على بعض أساتذة الجامعة من العراقيين، فاتفق معه أحدهم، وكان موظفاً كبيراً في وزارة التعليم العالي على أن تسند إليه تلك المهمة، وكان له ما أراد، أما ما كتبه عن جائزة سلطان العويس التي تقدم إليها، ولم ينلها فقد كنت مطلعاً عليها بنفسي، إذ رحل ولم يكرم من أي جهة كانت، إن الذي أود أن أوضحه هنا أن خلافات الأستاذ مع الآخرين لم تكن شخصية البتة، بل كانت علمية صرفة، وكان جريئاً في قول الحق، وكان هذا يزعج الآخرين منه فينصرف الأمر إلى إيذائه بتلك الصور التي رأيناها، وتسترسل السيدة في ذكر مزيد من المشاهد، وهي لا تخرج في جملتها عن ذلك الكيد الرخيص، والإيذاء المتعمد الذي جوبه به خلال سنوات حياته، ومما يجب أن يذكر هنا أنه كان عضواً في مجمع اللغة العربية بالقاهرة، ومجمع اللغة العربية الأردني، ومجمع اللغة العربية بدمشق، والمجمع الهندي، والجمعية اللغوية الفرنسية، ولكنه لم ينل [ شرف ] عضوية المجمع العلمي العراقي، وهو الذي أفنى حياته في خدمة العربية، وهذه مفارقة كبرى.
وتختتم السيدة الفاضلة كلامها بفقرة هي أشبه بالتلخيص لكل ما مر حين تقول:
" والحق يقال ليس هناك من شخص محارب كالمرحوم حياً وميتاً "
انتهى كلامها ولم ينته الكلام عليه، ولعلي أستدعي هنا ما قاله رجل لعمرو بن العاص، وكان أحد دهاة العرب:
" سأتعقب عليك خطواتك "
فقال له عمرو: " الآن وقعت في الشغل."
ومثلهم أولئك الذين آذوا الأستاذ، وكادوا له فقد أوقعوا أنفسهم في الشغل، وذهبت الجمهرة منهم إلى النسيان، وبقي هو حياً بكتبه، وعلمه الذي نشره بين الناس، فلله درك ـ أيها الأستاذ، شغلتهم وأنت حي، وأغظتهم وأنت ميت، وهذا لا يكون إلا للنوادر، وغفر الله لأم علي فقد كانت منبع الكلام وسببه، وغفر الله لنا جميعاً على الصواب والخطأ جميعاً.
* كلية الآداب والعلوم الاجتماعية
جامعة السلطان قابوس