العقاد فى عالم السدود و القيود
العقاد فى عالم السدود و القيود
|
بقلم: الدكتور جابر قميحة |
وُلد عباس العقاد بمدينة أسوان بجنوب مصر في 28 من يونية 1889, وتوفي في 13 من مارس 1964, بعد أن ترك وراءه ثروة فكرية تتمثل في أكثر من مائة كتاب, عدا آلاف من البحوث والمقالات, وفي مقالنا هذا نقف ونلقي إضاءة علي واحد من كتبه.
«عالم السدود والقيود» كتاب يغفل عنه كثيرون من قراء
العقاد, والباحثين في فكره وأدبه, ولهذا الكتاب قصة خلاصتها أنه في سنة 1930 تولي
مصطفي النحاس الحكم بعد سقوط محمد محمود, وفوز الوفد بأغلبية ساحقة في انتخابات حرة
أجراها عدلي يكن, وكان العقاد أحد الذين نجحوا في هذه الانتخابات كنائب وفدي, وكانت
هذه النتيجة صدمة للملك فؤاد, فلجأ إلي تعطيل مشروعات القوانين التي كانت الوزارة
تقدمها إلي الملك لتوقيعها, فقدم النحاس استقالته في جلسة حماسية عاصفة عُقدت بمجلس
النواب الذي أعلن ثقته بالوزارة.
وفي هذه الجلسة قال العقاد كلمته المشهورة في لهجة تهديدية: «إن المجلس مستعد أن
يسحق أكبر رأس في البلاد في سبيل صيانة الدستور وحمايته».
ونشرت صحيفة السياسة (التي يملكها الأحرار الدستوريون) هذه العبارة بطريقة مثيرة
صارخة, وما كان الملك ليستطيع أن يحاسب العقاد» لأنه -كنائب- يتمتع بالحصانة
البرلمانية.
ولكن فرصة الانتقام من العقاد سنحت بعد بضعة أشهر, فقدمته النيابة للمحاكمة في 12
من أكتوبر سنة 1930» لأنه كتب عددا من المقالات في جريدة ««المؤيد» يهاجم بها
الحكومة, ونظام الحكم والرجعية, ويدافع عن الدستور, وحُكم علي العقاد بالسجن تسعة
أشهر, قضاها في سجن مصر من يوم 13 أكتوبر 1930 إلي 8 يوليو 1931.
***
وكتب العقاد مصورًا مشاعره, ومشاهداته في سجن مصر في كتابه المذكور, وقد لخص موضوعه
ومنهجه في مقدمته إذ يقول: «هذه الصفحات هي خلاصة ما رأيته وأحسسته, وفكرت فيه يوم
كنت أنزل «عالم السدود والقيود», وأشعر ذلك الشعور, وأنظر إلي العالم من ورائه ذلك
النظر: لست أعني بها أن تكون قصة, وإن كانت تشبه القصة في سرد حوادث, ووصف شخوص,
ولست أعني بها أن تكون بحثًا في الإصلاح الاجتماعي, وإن جاءت فيها إشارات لما عرض
لي من وجوه ذلك الإصلاح, ولست أعني بها أن تكون رحلة, وإن كانت كالرحلة في كل شيء,
إلا أنها مشاهدات في مكان واحد, ولا أن أستقصي كل ما رأيت وأحسست, وإن كنت أقول بعد
هذا إن الاستقصاء لا يزيد القارئ شعورًا بما هناك, وأنه لا فرق بينه وبين الخلاصة
إلا في التفصيل والتكرير, وإنما دعوي هذه الصفحات -بل خير دعواها- أنها تتكفل
للقارئ بأن يستعرض عالم السجن, كما استعرضته دون أن يقيم هناك تسعة أشهر كما أقمت
فيه» (ص4- 5).
***
والحقيقة أن العقاد كان موفقًا -إلي أبعد حد- في تصوير عالم السجن في هذه الصفحات:
صورة أخلاق النزلاء, وأساليبهم في التعامل والتهريب, ولغاتهم الخاصة التي لا يفهم
غيرهم رموزها, كما صوّر السجن والقائمين عليه من رجال الضبط والربط.
ولعل براعة العقاد في التصوير لم تظهر ظهورها في تحليله الرائع لأربع شخصيات
نموذجية من أربعة آلاف إنسان تحويهم جدران السجن: أحد هؤلاء مجنون يتنازعه السجن
والبيمارستان. والثاني: مجنون أيضًا, ولكن علي طراز آخر من الجنون. والثالث: مقعد
مبتور الرجلين إلي الفخذين. والرابع: خليط من الجنون والعربدة والمكر والدماثة
المصطنعة والجموح الصحيح.
وأبرز هذه الصور صورة الكسيح القعيد الذي يمشي علي خشبة ذات مكرّ, يدفعها بمقبض في
كلتا يديه, كما يدفع السابحون زوارق الحمام. ولا يخاف السجناء مجنونًا في ثورته,
كما يخافون ثورة هذا المقعد الكسيح. والرجل لا يثور ثورته مهتاجًا مغلوبًا علي
أمره, كما يثور الغاضب المحنق, أو الطائش الأحمق.. كلا فإن الرجل ليثور لأنه يريد
أن يثور, بل محتاج أن يثور, فثورته في كل مرة لا تأتي إلا بروية وتدبير وتقديره.
وجلية أمره أنه سجين مخدرات, وأنه في السجن مازال يتجر بالممنوعات والمهربات,
وأهمها وأنفسها التبغ والكبريت, ولعله يكسب في السجن أضعاف ما يكسبه من السموم
المهربة وهو طليق.
فإذا استضعفه أحد من عملائه, وظن أن هذا العاجز الكسيح أهون من أن يحسب له حساب, أو
يؤدي له حساب, فالويل للأحمق المأفون من عاقبة جهله وغروره: إنه لمغلوب, وإن كان
أقوي الأقوياء, أو أنه لن ينجو من الجروح والرضوض, وإن لم يظفر به الكسيح كل الظفر,
ولم يهزمه كل الهزيمة. فبينما الخصم القوي الواقف علي قدميه لا يناله في مقتل, ولا
مأمن إخذا بذلك الكسيح يتناول كل ما نالته يداه, ويقفز, ويندفع, ويكر ويفر, كأنه
الديك الصائل لا تمسكه العين في حركة واحدة, أو موضع واحد, وسلاحه في كل ذلك تلك
الخشبة التي يجلس عليها, وذلك المقبض الذي يحمله في كلتا يديه, ولا تنتهي المعركة
إلا وهو أربح الخصمين, وأسلم المضروبين. هذا المخلوق هو مثال القوة التي تخلقها
الحاجة إليها, واستضعاف الناس لمن لا يحسبونه من أهلها (188-190).
***
ولم ينس العقاد نفسه في غمار مشاهداته, فصوّر مشاعره في الليلة الأولي في السجن,
وصوّر مشاعره يوم الإفراج عنه, وصوّر متاعبه ومعاناته علي مدار تسعة أشهر. ولكن
القارئ يشعر في النهاية بأن عاطفة العقاد لم تكن متوهجة تجاه ما يري, وما يحس, فقد
كان يغلب عليه طابع القاضي أو المفكر العقلاني الذي يري ويرصد, وينتقد, ثم يقترح,
ويوصي. أما العاطفة فحظها ضئيل جد ضئيل: ففي تصويره الليلة الأولي في السجن يحيلك
إلي فرجيل ودانتي في الكوميديا الإلهية, وإلي يوسف بن يعقوب في سجنه, أمام المعاناة
الذاتية التي تتدفق بمشاعر الألم, والنزوع إلي عالم غير العالم المظلم الذي يعيش
فيه, فتكاد لا تري له وجودًا.
وربما كان الفتور النفسي في هذا الكتاب راجعًا إلي أن العقاد ليكتب كتابه في إبان
تجربته, بل كتبه بعد انتهاء التجربة المرة بأمد بعيد. فالعقاد بعد خروجه من السجن
ببضعة أعوام بدأ ينشر مقالات في مجلة كل «شيء» تحت عنوان «حياة السجن», ثم جُمعت
بعد ذلك فكانت كتاب «عالم السدود والقيود» الذي صدرت الطبعة الأولي منه سنة 1937.
فهذا البعد الزمني يجعل من الصعب علي الكاتب أن يعاود العيش في التجربة بجوها
النفسي الأول, وإن تمكن -إلي حد بعيد- أن يعيش فيها بعقله, وعقل العقاد -كما هو
معروف- أقوي من وجدانه بكثير.. حتي في أغلب شعره.
وقد ذهب رجاء النقاش -في تعليل هذا الفتور- إلي أن العقاد سنة 1937 (سنة صدور
الكتاب) كان يسعي إلي الصلح مع الرجعية (الملك وأحزاب الأقلية) التي كانت معركته
معها سببًا في سجنه, فبدأ صلحه معها بهذا الكتاب الغريب.. وحرص علي ألا يذكر موقفه
في البرلمان ضد الملك فؤاد, ولا كتاباته الثورية المتطرفة ضد الرجعية, ولا حقيقة
المحاكمة الإرهابية, وبذلك حاول العقاد أن يطمس صفحة من أغلي صفحات تاريخه الوطني
والسياسي في سبيل صلحه مع الرجعية, وكأنه يطلب منها الغفران, ويقدم شهادة ميلاد
جديدة له, يريد بها من الرجعية أن تنسي ماضيه وتغفره في نفس اللحظة (العقاد بين
اليمين واليسار 84-95).
وهو تفسير غريب, وتعليل غير مستساغ» لبعده كل البعد عن الصحة والواقع:
أ- لأن العقاد لم يمدح الرجعية وأحزاب الأقلية ورجال الحكم بكلمة واحدة في هذا
الكتاب.
ب- ولأن الكتاب -أيا كانت وجهة النظر في تقييمه- يبقي نقطة سوداء في وجه الرجعية,
إذ أشار إلي المحاكمة, وإن لم يفصل القول فيها, ولكن تبقي الحصيلة النهائية, وهي أن
الحكم كان ظالمًا.
جـ- ومصالحة الرجعية و«طلب الغفران منها» كانت تقتضي, لا إصدار الكتاب كما ذكر
النقاش, بل الامتناع عن إصداره.
***
وكتاب العقاد يدخل تحت مظلة «أدب السجون» في العصر الحديث, وهذا النوع من الأدب له
جذوره الشعرية بخاصة في العصر الجاهلي, وله امتداداته علي مدار التاريخ. ومن كتبه
في عصرنا «مذكرات واعظ أسير» لأحمد الشرباصي. و«سنة أولي سجن», وما تلاه لمصطفي
أمين, و«حياة عراقي من وراء البوابة السوداء» للمناضل العراقي محمود الدرة, و«في
الزنزانة» للدكتور علي جريشة, و«أيام من حياتي» لزينب الغزالي, ومن أهم محاور هذا
الأدب:
1- تصوير المعاناة القاسية التي يعيشها السجين والآلام الحسية والمعنوية التي تستبد
به.
2- تصوير بعض النماذج البشرية التي يرصدها في سجنه وخصوصًا الشخصيات السيكوباتية.
3- الربط بين حياة السجن والأوضاع السياسية القائمة وما فيها من اختلالات ومفاسد
ومظالم قادت صاحب القلم إلي السجن.
4- ومن ناحية الاستشراف النفسي المستقبلي تتراوح نظرة الكاتب بين أمل في الحرية,
ويأس مطبق يصبغ كلماته بلون قاتم حاد.