داود معلاّ

بقلم: حسني أدهم جرار

داود معلاّ أديب مسلم صاحب تصوّر إسلامي يسلكه في عداد حملة الأدب الإسلامي في هذا العصر.. وشاعر ملتزم متمكّن من لغته الشعرية، ذو لسان صادق، وعاطفة وهّاجة، وأسلوب مؤثّر، وفكر نيّر.. شاعر حمل قضايا أمته، وتحدّث في أغلب شعره عن فلسطين عامة، وعن القدس بوجه خاص.

حياته:

وُلد الشاعر داود موسى معلاّ عام 1933 في قرية المالحة من ضواحي مدينة القدس بفلسطين، ونشأ في أسرة ريفية متديّنة، وعاش مع أقرانه حياة هادئة بسيطة في رابية جميلة من روابي القدس، وتلقى علومه الابتدائية في مدرسة القرية التي تنتهي الدراسة فيها إلى الصف السابع الابتدائي. وفي السنة الأخيرة من دراسته تنبأ له أستاذه جميل الكالوتي بأنه سيكون شاعراًُ، حيث كان يشارك طلاب صفه بالمسابقات الشعرية، وكان أكثرهم حفظاً ونظماً لبعض أبيات الشعر، ومنذ ذلك الوقت حمل لقب "شاعر" بين زملائه.

ومع انتهاء دراسته هذه، بدأت تهب رياح القتال بين أهالي قريته وبين اليهود، وفي عام 1948 تمّ إخراجهم من أرضهم وبيوتهم إلى منطقة الخليل، ومنذ ذلك اليوم بدأ يشعر بالغربة والشتات والبعد عن البلدة التي نشأ فيها بين أهله وأترابه.

وعمل داود مع والده في المقاولات وفي مجال البناء في بلدة بيت جالا.. وكان في تلك الفترة يقرأ في دواوين الشعر التي يستعيرها أو يشتريها، ويطالع مجلة الرسالة للزيّات، ويستمتع بقراءتها ويحفظ ما يعجبه من أشعار حتى حفظ الكثير.

وفي عام 1964 انتقل إلى العاصمة عمان وعمل موظفاً في فندق الأردن رئيساً لقسم التحضيرات، وفي أثناء هذا العمل عرف أصنافاً وأجناساً من الناس وتعامل معهم، وتعرّض لمواقف من الجدّ والهزل، وتعلّم الكثير، وفي هذه الفترة واصل نظم الشعر، ونشر بعض قصائده في الصحف، وأُذيع بعضها من التلفاز الأردني.

وفي عام 1974 عاد إلى العمل الحر والمقاولات، وأسس شركة لهذا الغرض. ومرّت بشاعرنا أيام العمر بتداخلاتها المريحة والمتعبة.. وشعر وهو في عمله الحر بشيء من المتعة والانطلاق في نظم الشعر. وأصدر ديوانه الأول "الطريق إلى القدس" الذي كتب مقدمته الدكتور أحمد نوفل. وأصدر ديوانه الثاني "حديث الريح" الذي كتب مقدمته الدكتور عمر الساريسي. وفي تلك الفترة كان قد تعرّف على الدكتور عودة أبو عودة الذي اطّلع على أشعاره وشجّعه على الانتساب إلى رابطة الأدب الإسلامي عام 1988.

وشارك داود معلاّ في عدد من الندوات الشعرية في الأردن، واشترك بالمسابقة الشعرية لجائزة عبد العزيز سعود البابطين التي ينظمها مكتب البابطين في القاهرة، وفاز بجائزة "الإبداع الشعري" لعام 1996.

وبقي أن نقول أن شاعرنا هذه رجل عصامي، لم يمنعه العمل والسّن من تثقيف نفسه وإكمال دراسته الجامعية حيث حصل على الليسانس في اللغة العربية وآدابها عام 1989.

       

من خلال هذا العرض لحياة شاعرنا نستطيع أن نلمس مؤثراً رئيسياً كان له الأثر البالغ في تكوين شخصيته الشاعرة.. هذا المؤثر هو اغتصاب بلده وإخراجه منه منذ أوائل صباه، وابتعاده عن القدس التي نشأ في روابيها ودَرَج في ساحات أقصاها.. فكان لهذا الأثر دور كبير في تكوين شاعريته، حتى أنّ ذكر القدس لا يكاد يفارق قصيدة من قصائده، مما لفت انتباه الدكتور عمر الساريسي فأطلق عليه اسم "شاعر القدس".

شعره:

داود معلاّ شاعر أصيل، عرف معنى الشعر، ووقف على خصائصه الفنية الحقّة وانطلق منها، فقال شعراً جميلاً يمتع النفس ويأسر القلب، ويجعل السامع أو القارئ يحسّ أنه أمام شاعر فحل لا يقلّ عن كبار الشعراء الأقدمين..

هذا الشاعر قدّم لنا قصائد تتهادى في ثقة، مرفوعة الرأس، وضّاءة الجبين، مشرقة المحيّا، تزفّ إلى الأدب عرائس ضياء، تضيء في ظلمة الليل الداجي شموع أمل، وشموس إيمان وجهاد..

امتاز شعره بالفكرة الجيدة، والصورة الشعرية الموفقة.. وامتازت قصائده بحسن الديباجة وبراعة الاستهلال الذي يأخذ بلب السامع أو القارئ من بداية القصيدة.. فنراه يفتتح قصيدته التي بعنوان "فتاة من فلسطين" بقوله(1):

ما بال هند خلا من حليها الجيدُ     هل فارقت حيّها الصيد الصناديدُ

ويبدأ قصيدة "الفجر" بهذين البيتين(2):

الليل ألقى السرايا  حول أحداقي    وأذّن الفجر فاستولى على الباقي

لا الليل يغفو فيطويني على سِنة    ولا النهار يقيني نظـرة  السّاقي

ويبدأ قصيدة "كلمات على حد السيف" بقوله(3):

مُدّي يديكِ فما سواكِ يراني    أعدو وقد عصبوا يدي ولساني

وقصيدة "الشجر المأسور" يفتتحها بقوله(4):

عيناكِ مالي أُناديها.. فتعتذرُ    تومي، إليّ حياءً ثم تستترُ

وقصيدة "في ذكرى الهجرة" يفتتحها بقوله(5):

حَسبُ الهُدى أنْ تجلّى فيكَ معناه    يا خيرَ من أشرقت بالنور ذكراه

ولا يقتصر الجمال والحسن في شعره على بيت الاستهلال وحده، بل نجد في قصائده أبياتاً رائعة متفرّدة في جمالها ومعانيها، لما حوت من صور شعرية وخيال خصب.. ومن هذه الأبيات على سبيل المثال(6):

واللهِ لـو زرعوا ثـراكِ قنابلاً    ومـع القنابل ألفُ.. ألفِ جبان

لفقأتُ عينَ الموتِ ملءَ عيونهم    ورميتُ أعظمهمْ..  إلى النيران

ويقول في قصيدة بعنوان "إلى حفيدي بشار) 7):

يتلفّت الماضي على أشلائنا    فزِعاً، ويرقب حاضراً مردودا

ومن مميزات شعره أيضاً البساطة والاقتدار.. البساطة في الشكل والبنية الداخلية، والاقتدار على الإيحاءات بالدلالات وبناء الصور الشعرية النابضة بالحياة والحركة والتعبير.. فهذا حوار يديره الشاعر بين الشهيد وشجرة الزيتون فيقول(8):

لبّيـكِ، وارتعشـت تـقبلني    أوراقهـا الخضرا وتسقيني

أهوي إليكِ فـإن وقعتُ على    هـذا التراب فـذاك يكفيني

أطوي على تلك الجذور يدي     وأشـدّها نحـوي فتطويني

إنها صورة من صور الالتحام بين الفروع والأصول، بين الشهداء وأرض الفداء.. إنها أبيات معبرة من ملحمة الصمود.

ويقول في قصيدة بعنوان "الشهيد والفأس"(9):

أوّاهُ يـا بلـدي وحُبّـك غيمـةٌ    حمـراء تـنثر في ثراك الأنجما

ظمِئت شِفاهُ بنيك فاعتصرت دماً    من ساعد يحمي الشّفاه  من الظما

فهو يرى الشهداء في الوطن نجوماً تخرّ من غيمة حمراء.. ويقول في نفس القصيدة عن شهداء الحجارة:

أطفـالنا يا قـدس  صار سلاحُهم     دَمُهم .. فحقّ لأرضهم أن تسلما

زرعوا سواعدهم جذوراً في الثّرى     وسقوا أصابعهم فصارت موسما

ولشاعرنا قصائد وقفها على القضايا التي تواجه الإنسان المسلم، وفي مقدمتها الاحتلال الغاشم لأرض الإسراء والمعراج.. وهي قصائد استطاعت أن تؤكد قدرة صاحبها على البناء الفني المتماسك، وأن تضعه على تخوم مملكة الشعر.. ومن هذه القصائد قصيدته "قبل الوصول إلى الماء" التي يقول فيها (10):

شقّت يد الدّنيا عصا أربابهـا    ما بين طيّعها  وجارح نابهـا

ورنا بعيني  مارد عصيانهـا    فاستنجد الهدّام والبانـي.. بها

يتطلّع المسجون بين عروقهـا   ودم  الحياة يطل من أنيابهـا

فتكتْ بأصحاب الحوار وأوغلت    برقاب من ناموا على أعتابها

يـا أمـة هامت سفينة مجدهـا    وتـخلّف  الربان عن ركابها

وقد ختمها بقوله:

يا أمـة الإسـلام أين لرايـة    ملكت من الدنيا تبات سـحابها

لا تقعدوا خلف الصفوف فأنتم    نوّارة الدنيـا ونـار  شهابهـا

أصحاب رايتها وصرح أمانها    وملاذ قاصرها، وسيف  قرابها

فإذا العقيدة فوق صرح شامخ     أنّى يميـل شـهيدها يدعو بها

أما فلسطين في شعر داود معلاّ فصوتها لا يغيب، وملامحها لا تبتعد عن أي قصيدة، ونداء القدس يتردد بين جنبات قصائده(11):

يا قدس يا قدس طال الوعد وانتفضت    أجسامنا تحت حدّ السيف مختضبا

يا قـدس يا ملتقـى التاريخ ما بعدت    عنك النفوس ولا  وجدانها اغتربا

يا قدس أنت ندائـي كلمـا دمعـت     عيني وأنت ضيائي كلمـا رحبـا

ويقول في قصيدة "إلى حفيدي بشار"(12):

يا قدسُ ضُمّيني إليك ففي يدي    جرحٌ قديم لا يزال جديدا

يا قدسُ ضُمّيني فإنّي خائفٌ     ألاّ أكون على ثراكِ شهيدا

ونراه يشير إلى معاركنا مع اليهود إشارات عصرية، وتاريخية ونصيّة فيقول13)

ذي جَولةٌ وعلى التاريخ خاتَمُها    يراهُ من أقبلوا منهم ومن دَبَروا

أجدادُنا شهداءُ الأمسِ تَتبعُهـم     أحفادهم.. أفينجو الكافرُ  البَطِرُ

ستلتقي حولَ نارِ النهرِ أذرعنا     وسوف يقفزُ من أقدارنـا القدر

حتى نرى راية الإيمان تجمعنا    وينطق الشجرُ المأسورُ والحجرُ

وفي غمرة الشتات والتقطّع، والاحتراب والتوزّع، يتطلّع الشاعر إلى وحدة المسلمين، تلك التي يعتبرها الدّين مطلباً إيمانياً.. فهو يخاطب النيل وإخوانه مذكراً أنهار العرب أنها كانت يوماً تتدفق بالحبّ وتتواصل بالأخوّة والمرحمة، ويتوجّه بالخطاب إلى هذه الأنهار فهي رمز الحياة لعلها تتدفق بالحياة من جديد، فيحيا الناس الذين يعيشون على ضفافها(14):

يا نيلُ.. يا بردى.. ألم تجمعكما    بالرافديـن أواصر الإيثار

أولم تكـن شطآنكم حرباً علـى    كيد الدّخيل وشعلة من نار

أردُنّ يا علمـاً علـى أطرافـه    يحلو لقاء الحـرّ بالأحرار

هات اليمين إلى اليمين وشدّها    حصناً من الأخيار والأنصار

وصاحبنا يتطلّع إلى الفجر وإشراقة النور، يحدوه أمل لا يفارق موكبه، فنراه ينظم قصيدة بعنوان "الفجر" ويختمها بهذا البيت(15):

فبعد عمر كرؤيا الأمس متصل    يشوقني الفجر إشراقاً بإشراق

ويختم قصيدة أخرى بهذا البيت الجميل الدافق بالأمل:

ارفع جبينك فوق الشامخات وقلْ    يا ساعة النصر جاء الحق فاقتربي

ولشاعرنا قصائد بدأها بالوجدانيات، لكنه لا يواصل السير في قصيدته على هذا المنوال الرائع، فنراه يهرب إلى الوطنية والإسلامية، مع أن الوجدانيات لا تقلّ أهمية عن الشعر الدّعوي أو الوطني أو السياسي.. وقد تعرضنا لأبيات من وجدانياته في أثناء حديثنا عن شعره.

آثاره الأدبية:

1 – ديوان "الطريق إلى القدس"، عمان: دار الفرقان، 1984. عدد الصفحات 76 صفحة، عدد القصائد 12 قصيدة، كلها من الشعر العمودي.

2 – ديوان "حديث الريح" عمان: دار بلال، 1992. عدد الصفحات 104 صفحات، عدد القصائد 19 قصيدة معظمها من الشعر العمودي.

مختارات من شعره:

اخترنا من شعره ثلاث قصائد:

1 – "الشجر المأسور".. هذه القصيدة نظمها الشاعر عام 1986، يخاطب فيها القدس، ويصدح بحبه لمدينته السليبة التي فتح عيونه فيها، وتفتحت فيها براعم فؤاده.. وهي قصيدة تمور بالصور الشعرية النابضة بالحياة والحركة والتعبير، أكّد فيها شاعرنا على حتمية النصر على الأعداء، وأورد فيها ترجمة لأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتال يهود.

2 – "حديث الريح".. كان الشاعر على موعد مع أهله القادمين من الضفة الغربية بفلسطين، فوقف مطلاً على الطريق القادم من هناك.. ووصل إليه الليل ولم يلتق بأحد منهم إلا الريح تحمل أنفاسهم.. فكان هذا الحوار، وكانت هذه القصيدة بعنوان "حديث الريح" التي نظمها عام 1988 لتحمل روح المعاناة المستمرة من البعد عن الأرض المقدسة، وليصور فيها مأساة شعب في الأرض المحتلة يعاني كل يوم.. عذاباً وسجناً ومطاردة، وثباتاً واستشهاداً.

3 – "المسافر".. نظمها الشاعر في أوائل عام 1996، عندما ازدادت تصريحات قادة اليهود بأن القدس عاصمة لإسرائيل الموحدة.. ورافق هذه التصريحات ممارسات لجنود الاحتلال ضد أهالي القدس، وكان منها أن وقف هؤلاء الجنود قبالة مدرسة للبنات بالقرب من بيت الشرق، وقاموا بمضايقة الطالبات مما أدّى إلى اعتصامهن في المدرسة والمطالبة برحيل جنود الاحتلال.. فجاءت هذه القصيدة دعوة للأمة الإسلامية لإنقاذ القدس وتحرير الأقصى من براثن الاحتلال.

الشجر المأسور(16)

عـيـنـاكِ مـالـي أُنـاديـها iiفتعتذرُ   تُـومـي  إلـيّ حـيـاءً ثـم iiتـستترُ
حـيـرانـةٌ أم بـقـايا الصمتِ iiتمنعُها   مـن أن تـبـوحَ وفـي أجفانها iiالسهرُ
أشـكـو  إلـيها فتغضي وهي iiصارخةٌ   فـي  صـمـتها وشموعُ الليل iiتحتضرُ
قـد  هِـمـتُ فيها فلاقيتُ الهوى عجِلاً   نـشـوانَ يـحذِفُ من همسي ويختصر
قـولـي لـهُـدْبـكِ أن يرقى فما iiلبثت   عـيـنـايَ تـسـأل في سرّي iiوتنتظر
عـيـنـاكِ  يـا قدسُ شيءٌ ثم iiيجذِبُني   فـيـهـا..  فـتـغرقُني أهدابُها iiالسُّمُر
هـاتِ  اعـطفي ساعةً أنسلُّ من iiظمئي   فـي غَـوْرهـا.. فَـتلاقيني بها iiالدُّرر
أغـوصُ فـيـهـا إلـى الدنيا iiفأجمعُها   وأصـعـدُ  الـقـمّـةَ الكبرى iiوأنحدرُ
يـا  زهـرةَ الـشرق في أعطافها سُررٌ   مـن  الـنـعـيم.. وطابت تلكم iiالسرر
رُدّي  إلـيّ حـكـايـاتـي فـلا iiبقيتْ   مـن  بـعـدها ساعةٌ يحظى بها iiالعمرُ
قـد كـان هُـدبُـكِ قـنديلاً يضيء iiلنا   دربَ  الـلـقـاء فـكيف النورُ iiينحسِرُ
كـأنـه  حـيـنـمـا يـومي iiبطرفَتِهِ   سـيـلٌ مـن الـظل فوق النور iiينهمر
فـهـكـذا  أنـت لا شـيء iiيـغيرني   عـمّـا أراكِ به.. لا الدهرُ.. لا iiالعُصُر

       

أُمـاهُ هـل غـضبتْ عيناكِ من iiغَزَلي   هـل تـغـفـريـن إذا ما جئتُ iiأعتذرُ
شـردتُ  وهـو شـرود الابن حنَّ iiإلى   عـهـد الـطـفولة وهو الطفلُ iiوالبَشَر
يـا  قـدسُ كـان سـوارُ السورِ iiملعبنا   وكـان  فـيـه يـموت الخوفُ والحذَرُ
فـأيـنَ يـا قـدسُ أهـلـونا iiوساحتُنا   غـاب الـلـقـاءُ فـلا ركبٌ ولا iiسَفَرُ
لـكـنَّ جـرحَـكِ لا يـغفو النَّزيفُ به   مـا  زال حـولَ ضـفاف النهر iiينتظرُ
فـأنـتِ فـيـنـا وفـي أطـفالنا iiأبداً   وهـل  يـخـالـف قلبَ الغيمةِ iiالمطرُ
فـمـن زرعتِ بهمْ حبَّ الرسول iiوحـ   ـبَّ  الأرض.. تـحملهُ الآياتُ iiوالسُّور
أطـفـالُ  أمـسِـكِ ما زالتْ iiسواعدُهم   تـمـتد نحو ذُرى الأقصى.. وقد iiكبروا
تـنـقـضُّ  أعـيـنُـهم شوقاً iiلساحته   وتـبـرقُ الـنـارُ فـيـها كلّما نظروا
تـمـيـلُ  حولَ شُعاع الشمس iiأعظمهمْ   وتـسـتوي  في صلاة الليل إنْ iiسهروا
تـشـتـدُّ فـهـي عـلى الإيمان iiثابتةٌ   تـعـتـدُّ.. فـهـي بـسيف الله iiتعتمرُ
إن  تـسـألِ النصرَ عنهم فهوَ iiصاحبُهم   أو تـسـألِ الـمـوتَ عنهم فهو iiيأتزِر

       

يـا قـدسُ لا تـعتبي إن طار بي iiقلمي   إلـى  خـيـال تـوالـتْ خلفَه الصُّورُ
مـاذا أرى وهـمـومـي فـيك تدفعني   إلـى الـجـنـون وأينَ السمعُ iiوالبصر
مـن ذا يـصـدِّقُ أنّ الـلـيل iiيكرهُنا   وأنَّ شـمـسَ ضُـحـانـا كـلُّها iiحُفَر
ونـحـنُ  كـنا حماةَ الأرض ما iiرَفَعتْ   يـدٌ  عـلـيـنـا الـعَصا إلا iiوننتصر
عـقـيـدةٌ هـي مـاضـينا iiوحاضرُنا   وسـاعـدٌ  هـو فـيـنا الصارمُ iiالذّكرُ
فـمـا  عـلـى حُـلُمِ الماضي iiجحافِلُنا   تـنـامُ  بـل حـاضـرٌ يصفو iiويعتكر

       

قُـولـوا لـمـن زَرعوا صحراءنا iiلهباً   والـنـارُ مـن دَمـنـا تـغلي وتستعرُ
تـعـلّـقـوا بـحـبـالِ الكفرِ iiظنُّهُمو   أنَّ الـعـزيـزَ الـذي بـالكفر iiينتصر
لا.. والــذي هــزَمَ الأحـزابَ iiثـمّ   تلاها الرومُ.. والفرسُ.. والإفرنجُ والتترُ
لا  عـزةً لـسـوى الإسـلام iiراغـمةٌ   أُنـوفُ  مـن بـدّلوا عهداً ومَن iiغَدَروا
فـنـحـنُ  واللهِ أصـحابُ الجهادِ iiوفي   ظـهـورنـا تـلـتـقي الآسادُ iiوالنُّمرُ
وإن  أطـفـالـنـا كـالـشُّـهبِ iiثاقبةً   ومـلءُ أصـلابِـنـا جـيـشٌ iiومُدَّخرُ
يـمـوتُ قـبـلَ وصول الموت ظالمُنا   رُعـبـاً ويـسـقط منه السمعُ iiوالبصر
فـأيُّ أرضٍ نـرى فـيـهـا iiأصابعهم   تُـشـوى  على الجمرِ والمخزيّة iiالحُمُرُ
ذي جَـولـة وعـلـى الـتاريخِ خاتَمُنا   يـراهُ  مـن أقـبـلوا منهم ومن iiدَبَروا

       

أجـدادُنـا شـهـداءُ الأمـسِ iiتـتبعُهمْ   أحـفـادُهـمْ..  أفـينجو الكافرُ iiالبَطِر؟
هـذا  (الـمـكبّر) والجرحُ الكبيرُ iiلظىً   يـقـولُ هـذا دمُ الأحـفـادِ يـا iiعُمَرُ
سـتـلـتـقـي حول نار النهر iiأذرعُنا   وسـوف  يـقـفـزُ مـن أقدارنا iiالقدَر
حـتـى نـرى رايـةَ الإيـمان iiتجمعُنا   ويـنـطقُ  الشجرُ المأسورُ.. والحَجَرُ..

       

"حديث الريح.."(17)

* كان على موعد مع الأهل القادمين من الضفة الغربية، فوقف مطلاً على الطريق القادم من هناك.. ووصل إليه الليل ولما يلتق بأحد منهم إلا الريح تحمل أنفاسهم.. فكان هذا الحوار..

أقـبـلـتَ  يا ليل قبل أن iiيصلوا   فـأيُّـنـا  بـالـسـوادِ iiيـكتحلُ
تـأخـروا  والـطـريقُ iiمُسرجةٌ   مـا  ضـرّهُم لو عدلتَ أو iiعدلوا
عَـدوتَ  تـكـسوهم الظلام iiفهل   هـنـيـهـة يـنـتهي بها iiالملل
تـلـومُـنـي أنـني وقفت iiعلى   قـمّـةِ دربٍ والـشـمس iiتغتسلُ
أمـدُّ مـن نـاظـريّ أشـرعـةً   تـردُّهـا الـريـح وهـي iiتأتكل
يـطـوف  بـي مُدلجٌ.. iiويَحملُني   قـلـبٌ  سـوى البوحِ ماله iiعمل
يـكـادُ  مـن غـيـظه iiيُفجّرُني   كـأنـه فـي الـضـلـوع يقتتل
أضـمـه  مُـشـفـقـاً.. iiأقـبله   يـا قـلـب.. مـهلاً كفاك iiتنفعل
يـا قـلب ماتَ الحديثُ iiوانقطعت   نـايُ الـرعاةِ من الباقين iiوالزجلُ
وأيـنَ مـن فـي الـسماءِ iiزينتُها   يـسـكـن فـيـها حيناً iiويرتحلُ
مـالـي أراهُ اختفى.. وضعت iiأنا   حـتـى النجومُ استوى بها iiالخجل
وهـذه  الـريـحُ مـا لـها بدأت   تُـغـيـر حـتـى. كـأنها iiظُللُ
سـألـتُـهـا  والغبارُ iiيصفعُني..   يَـغـزِلُ مـا مـنـهُ وائـلٌ iiيئِلُ
ألـم تَـري أسـرةً بـهـا iiظـمأ   عـلـى  الـطريق الطويلِ iiتنتقل
فـحـمـلـقـت بي أقولُ iiغاشيةٌ   تـكـادُ مـنـهـا السماءُ iiتنفصلُ
تـحـمـلـتُ أذرعـاً.. iiوأقبيةً..   تـطـوفُ فـي الجوِّ.. ثم iiتشتعلُ
مـدبـرة لا تـنـي مـسـافرةً..   خلفَ  المسافاتِ.. خلفَ من iiرَحَلوا
وطـوقـتـنـي  بـكـفها iiفإذا..   ضـاقـت بـنفسي.. تلفتَ iiالأجل
فـقـلـت  يـا ريحُ هَوّني.. iiفإذا   بـعـضُ انـتـظار.. لعله iiالأمل
وإن أمـي هـنـاك iiفـاتّـئـدي   أمـي عـلـى الـبـعد مالها iiقِبَلُ
..قالت.. كفى "واحتَميتُ يغمُرُني..   عـطـرُ شهيدٍ.. وجُرحُهُ iiالخضل"
..  أقـاعـدٌ والـجـراحُ نـازفةٌ   يـطـوى  بـها مُقبلٌ بها.. iiعَجِلُ
تـريـدُ أن نـحـمل النيامَ.. iiوما   تـدري بـنا.. هل جُننتَ يا iiرجل
تـنـحَ  حـدَّ الطريقِ أو iiشَطَرتْ   شِـفـارُنـا..  شطرَكَ الذي iiيَسَلُ
وانـظـرْ  لـمن قدّموا الحياة iiلكم   هـنـاكَ مَـنْ عُـذّبوا ومن iiقُتِلوا
هـنـاكَ صـارَ الـرضيعُ iiعَملقَة   وصـارَ كالصقرِ.. ينهضُ iiالحَجَلُ
مـن  كـل لـونٍ تـلـوحُ كبكبة   لا  سـاحـلٌ يـرتـوي ولا iiجبل
ورايـةً  لا يـزال iiيـحـمـلها..   فـي الـقلبِ من زغردت له القبل
وحـربـةً  رأسُـهـا iiالـشـهادةُ   والإيـمـانُ مـا زيّنوا وما iiحملوا
نـقـيـة كـالـنـقـاءِ ثـابـتةً   كـالـطـود.,. لا ردّةٌ ولا iiزَلَـلُ
ذي  فـتـيـةً أيّـكـم iiيـسابقُهم   والـنـورُ هـذا الوضوءُ iiوالغسل
وهـا  هـو الـسورُ لا يزالُ iiبهم   يـعـلـو  وهـذا المأسور iiيبتهل
وأنـتـم خـلـفَـهـم iiتشاغلِكمُ..   تـمـنـياتُ الوصول.. والشُغُل..
تـبـكون  في البعد من iiتواكلكم..   والـخـوف يـردي ومثله iiالكسل
وصـخرة  القدس كلما iiانتفضت..   عـدا  عـلـيها الأوغاد.. والسفل
وقـلّـةٌ هُـمْ وأنـتـمُ iiكُـثُـرٌ..   وكـم تـعـانـي بـالكثرةِ iiالهَمَلُ
لـكـنـكـم من هوانكم.. iiصَدِئتْ   قـلـوبُـكم.. والسيوفُ.. iiوالأسَلُ
فـصـاحـبُ الـقولِ فيكم iiعُطلٌ   وصـاحـبُ  الـسيفِ فيكم iiوَجِلُ
يـبـيـتُ  والـليلُ لا يطوفُ iiبه   إلا الـمُـعـلّى.. والفارسُ iiالبطلُ

       

ومـرتِ  الـريـحُ.. أيّـما iiجسدٍ   يـصـارع  الـدرب وهو يختزل
أوّاهُ  يـا ريـحُ.. هـذه iiبـلـدي   فـأوصـلـيـني  تُرابَها.. iiأصلُ
لا تـتـركـيـنـي هنا أحارُ iiفما   تـهـدي خُطايَ الخطوبُ iiوالسبل
وألــفُ ألـفٍ يَـردُّنـي iiوأنـا   كـالـلـيـلِ  لا أعيُنٌ.. ولا iiمُقَلُ
صَـبـرتُ والـصبرُ ملّني iiفَخَذي   عـنـي  ردائي.. ما عدتُ iiأحتمل
عَـدَوت لـلـموت فاحتمى iiشغفي   بـعُـدوةٍ  يـلـتـقـي بها النُّزل
هـاتِ اعـطـني ساعدي أشد iiبه   أفـعـلُ فـي الأرض مثلما iiفعلوا
فـلا  تُـقـاسُ الأيـامُ iiمُـدبـرةً   ولا زمـانٌ.. يـمـلُّـه iiالـمَـلَلُ

المُسافر

تـحـبّ  عـيـوني أن تراكِ iiعيون   وإنّـي  لـمـاء الكأس(1) فيك iiمدينُ
شـربـتُ وروّانـي وقـد كنت iiيافعاً   وعـدتُ إلـيـه والـشـبـابُ iiفتونُ
تـوضّـأتُ ماء الكأس فاشتدّ iiساعدي   وجـاذبـنـي حـبـلٌ إلـيـه iiمتينُ
إلـى أن رمـاني الغادرون وأصبحت   عـلـى قـدمـي مـما رموهُ iiطُعون
وإنّـي وإن ضـاقـت عليّ iiأساوري   وضـجّـت شِـمـال مـنهما iiويمين
أُحـاول  فـي كـلّ الـشّباكِ iiوأنثني   وأنـتِ  عـلـى كـلّ الشّباك iiعيون
تُـعـاتـبـنـي  أنّي نظرتُ iiلغيرها   وإنّـي  عـلـى حـبّـي لها iiلضنينُ

       

أسـافـرُ فـوق الـريح فيك iiوأهتدي   وحـاديـتـي.. دنـيـا إلـيكِ iiودين
فـدنـيـاي.. عمرٌ منك.. فيكِ iiوهبته   وديـنـي عـلـى الحقّ المبين iiمبينُ
ودنـياي  هذا الليل والفجر iiوالضّحى   وديـنـي  جـهادٌ.. لا هوى iiومجون
أخـاطـب قـلـبـي والرياح iiلواقحٌ   تـغـيـر.. وقـلـبـي بينهنّ iiسفين
تـطـوف  بـه الآهـات وهي نوافذ   فـيـحـبسها  في الصدر وهو iiرهين
تـزلـزلـه.. يـهوي ويصعد iiحاملاً   جـراحـاً لـهـا بـين الضلوع أنين
ويـجـتـازهـا  كالسَّهم حول iiحبيبة   لـهـا قـلـب أم صـادق iiوحـنون
وأهـبـط  بـين المسجدين iiوهاجسي   يـحـدّث نـفـسي والحديث iiشجون
وأمـشـي  إلى ساحاتها وهي iiترتدي   ظـلالاً لـسـروٍ مـا لـهنَّ iiغصون
وفـي الـسّـاح آبـار كـأنَّ بَرودَها   سـلالـةُ  نـبـع مـاؤهـنّ مـعين
حـمـائـم تـرحـال وحـلّ iiورائحٌ   وغـادٍ وفـرخ نـاهـض iiوسـنونو
وأغـدو إلـى بـئـر تلاقى iiرشاؤها   بـدلـوٍ لـهـا عـطـف عليّ iiولين
أقـبّـلـهـا  والـمـاء ينساب iiمثلما   تـحـدّر مـن صوب السّحاب iiهَتون
..أذي صـحـوة يا قلب أم هذه iiرُؤىً   تـمـادى  خـيـال حـولها iiوظنون

       

حـبـيـبـةَ  قـلبي ها هناك iiهنيهة   فـقـد  طـال شـوق بـيننا iiوحنين
تـقـوم  عـلـى باب العرين iiثعالب   لـهـا جـلـد لـيث والعرين iiحزين
ونـحن  جياع الأرض نطوي iiبطوننا   عـلـى كـذب تـأبّـى عليه iiبطون
طـويـت عـلى باب الخليل عباءتي   فـطـار بـهـا شِـلْـوٌ هناك هجين
فأغمضتُ عيني كي أرى غير ما أرى   لـعـلّ مـن الـمـاضي يطلّ iiجبين
ولـكـنّ سـمـعـي هزّه سيف ظالم   لـه فـي عـظـام الـمسلمين iiرنين
فـهـل  سُـكّـنت للمسلمين iiجوارح   وهـل عُـمّـيـت لـلمسلمين iiعيون
ومـا جـزعـي أنـي فقدت iiملاعبي   وأنّ حـصـانـي بـيـنـهنّ iiسجين
ولـكـنـه غـاب الـجـهـاد iiكأننا   ربـائـب  خـدرٍ مـا لـهـنّ iiمعين
أنـادي صـلاح الـدين والمنبر الذي   بـنـاه  فـيـغـشـى جانبيه iiسكون
لـكَ الله يـا أقـصـى فقد كنت iiباقة   مـن الـعـزّ كـم مرّت عليك iiسنين

       

أيـا قـدس يـا أمّ الـجـهادِ وروحه   فـداؤكِ هـذا الـرّوح وهـو iiثـمين
ولـكـنـه فـي بـاب ظـلّكِ iiقطرة   مـن  الـدَّمِ تروي النصر كيف يكون
دعـيـني  أرى عينيكِ شَمسي iiهداية   ولا  تـجـزعـي إن ساورتك iiظنون
فـفـي  يـومك الآتي شموس وأعينٌ   ورايـات  عـزٍّ نـصـرهـن iiيقين
وسـاعـتـهـا  أيُّ الـفريقين iiشاهد   وأيّ  بـقـاع الـحـفـرتـين iiدفين
تـجـمّـعـهـم  أقـدارهم في iiدُجنّة   تـضـيـق  بـهـا أرواحهم iiوتهون
فــوالله إنّـا قـادمـون iiإلـيـهـمُ   كـمـثـل شـعاع الشمس حين iiتبين
فـتـعـشـى بـه أبصارهم iiوقلوبهم   وتـشـقـى  بـه آجـالـهم iiوتحين

الهوامش

(1) ديوان "الطريق إلى القدس" ص58.    

(2) ديوان "الطريق إلى القدس" ص46.

(3) ديوان "حديث الريح" ص19.

(4) ديوان "حديث الريح" ص25.

(5) ديوان "حديث الريح" ص55.

(6) ديوان "حديث الريح" ص21.

(7) ديوان "حديث الريح" ص48.

(8) ديوان "حديث الريح" ص60.

(9) ديوان "حديث الريح" ص42.

(10) ديوان "الطريق إلى القدس" ص30.

(11) ديوان "الطريق إلى القدس" ص18.

(12) ديوان "حديث الريح" ص54.

(13) ديوان "حديث الريح" ص29

(14) ديوان "الطريق إلى القدس" ص50

(15) ديوان "الطريق إلى القدس" ص48.

(16) ديوان "حديث الروح" ص25.

(17) ديوان "حديث الريح" ص31.          

 (1) الكأس.. هو متوضأ يقع بين مسجد الصخرة المشرّفة وبين المسجد الأقصى المبارك، مستدير الشكل، على جانبيه مصاطب ترتفع ما يقرب من المتر عن سطح الأرض، تغطيها أعشاب دائمة الاخضرار، ويتخللها سروٌ يرتفع إلى عنان السماء، ضخم كثيف لا تُرى له غصون.

المصادر والمراجع:

1 – ديوان "الطريق إلى القدس".

2 – ديوان "حديث الريح".

3 – مجلة الأدب الإسلامي، العدد الثاني 1994

4 – جريدة الرأي الأردنية في 3/11/1989

5 – مقابلة مع الشاعر داود معلاّ في 20/3/1996